ولم يكن شيخا فانيا متابعا لكل قديم، ولا حدثا صغيرا تطيش به شرة الشباب حين دعاه محمد إلى دينه وهداه، بل كان رجلا ناضجا في بسطة الرجولة، يفقه الأمور ويعتدل بين الصبا الباكر والكهولة المولية، ويزن القول بفهم نافذ وحكم صادق، وعقل راجح يعرف الترجيح. •••
تلك جملة الموانع التي تحول بين الإنسان وقبول الدعوات الجديدة إلى الإصلاح، وكلها هنا غائبة على الأقل إن لم نقل: عن جانب الدواعي في مكانها أوضح من جانب الموانع، ومعنى ذلك أن الصديق لم تكن بينه وبين الإسلام عقبات تصده عن وروده، وأن طريقه إليه كانت ممهدة مفتوحة يخطو فيها خطوته الأولى فلا يلبث أن يتبعها بخطوات.
على أن الأمر لم يقتصر على قلة الموانع في طريق الصديق إلى الإسلام. فقد كانت هناك الدواعي التي أشرنا إليها في مكان تلك الموانع، وكانت للصديق خلائق عاملة تقربه من العقائد القويمة، وتجعله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا حاجة به إلى أكثر من ذلك ليفرق بين سنن الجاهلية وسنن الإسلام، ويميز بين ما هو حقيق بالترك والإعراض، وما هو حقيق بالحرص عليه والإيفاض إليه.
كان الرجل صادق الطبع مستقيم الضمير، لا يلتوي به عما يعلم أنه الحق عوج ولا سوء دخلة، وعرف باسم الصديق إذ عرف الناس فيه الصدق من أيام الجاهلية قبل أن يدين بالإسلام؛ لأنه كان يضمن المغارم والديات فيصدقونه ويعتمدون على وعده ويركنون إلى وفائه، وقيل: إنه سمي الصديق لتصديقه النبي في كل ما أنبأه به من المغيبات والبشائر ولكنهم لم يختلفوا في تصديق ضمانه والاعتماد على وعده، وإن اختلفوا في سبب التسمية وفي ميقاتها من الجاهلية أو الإسلام.
ومن كان على هذا الصدق في الخليقة فلا حجاز بينه وبين دعوة إصلاح، وليس من شأنه أن يصم أذنيه عن قول صادق ودعاء مستقيم، ولا أن يعادي الحق ويلج في عدائه، شنشنة المكابرين المستكبرين.
وكان مطبوعا على الحماسة لما يعتقد فيه الخير والصلاح، يطلب العقيدة ويطلب المعتقدين بها والمهتدين إليها. يبدو ذلك من إسراعه إلى التبشير بالإسلام ساعة أن اهتدى إليه، فدخل في الدين على يديه نخبة من أسبق الصحابة وأخلصهم للنبي عليه السلام وأعظمهم أثرا بعد ذلك في قيام الدولة الإسلامية، كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبد عبيد الله، وجعل لا يهدأ ولا يستريح حتى أدخل في دينه أمه وأباه وذويه.
وتبدو حماسته لاعتقاده من إلحاحه على النبي أن يظهر بالمسلمين في نواحي المسجد وهم دون الأربعين عددا، ومن قيامه بينهم خطيبا يجهر بالدعوة إلى الله، والمشركون متربصون ثائرون، حتى أصابه من ذلك أذى شديد خيف عليه الموت منه، وتركه المشركون وهم لا يشكون في أنه مات أو أنه مائت عما قريب.
وتبدو هذه الحماسة من اتخاذه مسجدا لصلاته وتلاوته على قارعة الطريق، يسمعه حين يقرأ كل عابر، ويتوعده المشركون فلا يفزع من وعيد. ولما جاءه الرجل الذي أجاره من المشركين على أن يكتم إسلامه فخيره بين الكتمان أو رجع الذمة إليه، لم يتردد في رد ذمته وقال له: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل.
ورجل مطبوع على سماع الحق وتصديقه والدعوة إليه والحماسة له غير عجيب أن يسرع إلى العقيدة الجديدة هذا الإسراع.
وإلى هذا كان قريبا من السليقة الدينية التي تتراءى في مكاشفة الغيب واستطلاع الرؤى والهواتف وانفتاح النفس لإشارات الإيحاء والاستيحاء، ويروى عنه أنه رأى قبل البعثة وهو بالشام رؤيا تنبئ بقرب ظهور النبوة في البلاد العربية، ويعرف عنه على التحقيق أنه كان يعبر الرؤيا بين يدي النبي عليه السلام ويستأذنه في تفسيرها ويحتفل هو بما يراه في منامه.
Page inconnue