ولكنه شعر من نفسه بقوة يعتصم بها ويقوى على رياضتها، فكان مثلا للقدرة الرائضة والنفس المروضة كما تكون في الرجل الدقيق النحيل. •••
في حياة الصاحبين موقف من المواقف النادرة التي يظهر فيها الرجل كله، ولا يتفق في التجارب النفسية أن يواجهها الإنسان مرتين في حياته، وهو الموقف الذي فاجأهما بموت النبي عليه السلام.
ليس للصاحبين غير صديق واحد بمنزلة محمد عندهما من المحبة والتجلة، وهما لا يروعان كل يوم بنبأ فاجع يسوءهما كما يسوءهما نبأ موته وانقضاء عشرته والأنس بقربه، فالموقف نادر، والبلية به خليقة أن تبتلي الرجل في كل ما ينطوي عليه من بديهة وروية .
وابتلي به عمر فغضب غضبته المرهوبة وثار بالنعاة يتوعدهم ليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أن محمدا قد مات.
غضب غضبة الرجل المملوء بقوته وحميته، الذي لم ينبهه منبه قط إلى ترويض غضبه، والمبالاة بعواقب ثوراته، وكأنما قام في دخيلة نفسه أنه يستكثر حتى على الموت أن يجترئ على الصديق الذي يحبه ذلك الحب، ويجله تلك التجلة، ويعتقد فيه تلك العقيدة، وينتظر حتى من الموت أن يتحامى جانب ذلك الصديق، ويرعى له حرمة لا يرعاها لسائر الأحياء.
وأبو بكر يحب محمدا كما يحبه عمر، ويأسى لفراقه كما يأسى، ويرفعه مثله درجات فوق مقام الأحياء من قبله ومن بعده، ولكنه رجل راض نفسه وقمع حدة طبعه، وعرض الصبر على ما ليس يدفعه دافع ولا تغني فيه حيلة، فإن كان تسليم فهذا أحق المواقف بالتسليم وأولاها بطول ما ارتاض عليه من صبر، وما تأهب له من أسوة.
بذلك أدى كل من الرجلين ضريبة طبعه ومزاجه الذي لا معدى له عن مطاوعته والاستجابة لدواعيه.
ثم زالت الغاشية الأولى. فظهر الرجلان في حالة القرار كما ظهرا في حالة المفاجاة: ظهر أن عمر لم يكن ثورة كله، بل كانت فيه إلى جانب الثورة روية تفرغ للأمر في أحرج أوقاته، وظهر أن أبا بكر لم يكن روية كله، بل كانت فيه إلى جانب الروية مطاوعة لسليقة الحب والألفة قد تشغله عن العواقب إلى حين.
فبينما هو مشتغل بتجهيز رسول الله إذا بالأنصار يجتمعون في سقيفة بني ساعدة ليتخذوا لهم أميرا دون إخوانهم من المهاجرين، وإذا عمر يتأهب للأمر أهبته، ويعالج الخطب قبل استفحاله، ويأخذ أبا بكر من بيت رسول الله إلى سقيفة بني ساعدة ليبايعه هناك بالخلافة ... ويتقي الحدة من أبي بكر فيهيئ في نفسه كلاما يصلح لذلك المقام يمهد به لكلامه. وفي بعض الروايات أنه فكر في أمر المبايعة قبل ذلك حين لم يفكر فيها أحد من المهاجرين، وأنه شاور أناسا وشاوروه فيما يكون بعد وفاة رسول الله. فما كانت غضبته الثائرة إلا ريثما قبض على العنان بكلتا يديه، ثم كان عنانه ذلك أطوع عنان.
كلا الرجلين العظيمين فيه روية وفيه حدة: تأتي الروية أولا أو تأتي الحدة أولا، ذلك هو موضع الفارق من بوادر المزاج والتركيب، ولكن الروية هناك قائمة في المزاجين حين تراد. •••
Page inconnue