أفيفهم فاهم من هذا أننا ندين بقول القائلين: «إن النجاح هو برهان الصلاح؟»
كلا! ليس هذا ما ندين به، وليس هذا بالذي يقتضيه ما قدمناه، وكل ما هنالك أننا نقرر حقيقة لا شك فيها حين نقول: إن أبا بكر كان أفهم للعظمة المحمدية ممن أنكروها؛ لأنهم شكوا في حديث الإسراء، وإن المنطق والعلم لا يقضيان بمحاربة الدعوة المحمدية كائنا ما كان فهم الفاهمين لحديث الإسراء. فإن قال قائل: إن المنطق والعلم يقضيان بذلك فهو يظلم المنطق والعلم فيما ادعاه عليهما بغير برهان؛ وهو الذي يخالف البرهان النفساني في آن.
ولا حاجة بنا هنا إلى إلغاء البراهين العلمية أو البراهين المنطقية، وإنما حاجتنا كلها ألا تلغى البراهين النفسانية؛ لأنها قد تتناول العظائم الإنسانية في عمومها فينطوي فيها العلم والمنطق معا، وتأتي الأيام بعد ذلك بتفصيل هذا الإجمال وتوضيح هذا الإبهام.
يقول قائل: وما مرجعنا في البراهين النفسانية؟ أنصدق كل من يدعيها؟ أنأخذ بها حيثما رأيناها؟ أندين بالإعجاب حيثما هتف هاتف بإعجاب؟ فأقرب ما عندنا من جواب أن عظمة النفوس مستحقة للإعجاب كما يستحقه جمال الوجوه.
فماذا عسانا قائلين لمن يسألنا: وما مرجعنا في جمال الوجوه؟ ... ولا حاجة هنا إلى مرجع، ولا فائدة في المرجع إن وجدناه.
فجمال الوجوه لا يتوقف على مرجعه الذي نسهب أو نوجز في توضيحه ... وعظمة النفوس من باب أولى قائمة في الدنيا بغير مرجعها الذي نسوقها إليه، ولا خوف عليها من قلة المراجع عندنا، فهي تأتي حين تأتي بآياتها وبراهينها، وحيثما ظهرت عظمة معجبة ظهر لها صديقون معجبون، وأقبل عليها مقبلون، وأعرض عنها معرضون، ولن ينفعها المرجع شيئا إن لم يكن فيها ما يغنيها عنه.
وقد كان في وسعنا أن نجتزئ بهذا ولا نزيد عليه. ولكننا نود أن نستريح بالعقل إلى سند ما أمكننا أن نريحه. فغاية ما نستريح بالعقل إليه في هذا الصدد مأخوذ من كلام الصديق نفسه رضي الله عنه. وذلك إذ يقول: «إن خير الخصلتين لك أبغضهما إليك.» ... فالدعوة التي تزين لنا ما نستنيم إليه ليست بدعوة عظيم، والدعوة التي ترفعنا فوق أنفسنا وتنهض بنا إلى ما يشق علينا هي الدعوة العظيمة في أصدق مقاييسها، وهي التي تفرحنا بالواجب ولا تفرحنا بالهوى، وحسبها ذلك «برهانا نفسانيا» لا نهتدي إلى خير منه، فكل ما عظم بنا فقد كلفنا ما يشق علينا وانتقل بنا إلى طور فوق طورنا، فإن كنا على استعداد لهذا الانتقال مالت إليه نفوسنا كما يميل الجسم إلى النمو وإن كان نموه ليكلفه عنتا عند الولادة، وعنتا عند التسنين، وعنتا عند المراهقة، وعنتا عند بلوغه سن الرشد والاستقلال ... وإن لم نكن على استعداد كرهناه وحسبنا الراحة في كراهته، وهي في الحقيقة داء يمنع النماء.
مرجع «البرهان النفساني» الصادق في تقدير العظمة أنه سبيل الفداء في طريق النماء، وكل ما تركنا كما نحن أو تحدر بنا دون ما نحن فيه فبينه وبين العظمة حجاب، وليس له من ضمائر النفس برهان.
بهذا البرهان النفساني واجه أبو بكر مسألة الدعوة المحمدية من حيث تنبغي مواجهتها، ونظر إليها من جانبها الأصيل الذي تنحصر فيه النظرة الأولى؛ أمحمد إمام خليق بالاتباع؟ أهو بطل جدير بالإعجاب؟ إن كان كذلك فهو معجب به متبع إياه، وإن لم يكنه فلا إعجاب ولا اتباع ... وكل ما وراء ذلك فضول وانحراف عن الجانب الأصيل .
ومحمد بطل جدير بإعجابه، إمام خليق باتباعه، فامتلأ به إعجابا ولازمه اتباعا، وعرف طريق الخير من بداءة الأمر أنه أشق الطريقين، وعوده كرم النحيزة من قبل أن المجد تكليف وجهد، وأن الحق صبر وجهاد، فكانت سنته فيهما أن يحمل المغارم وأن يأخذ بيد المهيض، وأن يجور على نفسه وفاء بحق غيره، فلم تطرقه الدعوة الإسلامية من باب غريب، ولم يصادفه الجهاد للدين على غير تأهيب وتدريب، بل زاده يقينا من طبعه واستواء على نهجه، وجعله في صدر هذه الدعوة مثل الإعجاب والإيمان، وأبرزه للأجيال عنوانا «للشخصية» التي يبلغ بها الولاء للبطولة ذروة مجدها وغاية تمامها، ويستخرج منها كوامن قواها وأحاسن مزاياها، ويستقيم بها على سوائها، ويرتقي بها إلى سمائها، فهو هو أبو بكر في تصديقه وولائه على أحسن ما يكون.
Page inconnue