Genie de la réforme et de l'éducation : Imam Muhammad Abduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Genres
بقوام لدن وطرف كحيل
ولكنهم علموا أن ظلم المماليك قد يسوق إليهم من يغلبهم ويقهرهم، ولكنه لا يضع في يد الغالب القاهر سلاحه الذي يصول به على عدوه فيقهره ويستذله، وإن لم يكن أحمد منه سيرة وأقل منه فسادا، كما شهدوا بعد ذلك من سيرة «الفرنساوية» في هذه الديار، ثم نظروا فعلموا أن نابليون لم يزحف على المماليك بجيش واحد بل بجيشين؛ جيش يحمل السلاح، وجيش آخر من جماعة العلوم والفنون يحمل الكتب والأوراق، وهو الجيش الذي حشده «الفرنساوية» في المدينة. «وأفردوا للمدبرين منهم، والفلكيين، وأهل المعرفة والعلوم الرياضية كالهندسة والهيئة والنقوشات والرسومات، والمصورين، والكتبة والحساب والمنشئين حارة الناصرية، حيث الدرب الجديد وما به من البيوت، وفيه جملة كبيرة من كتبهم وعليها خزان ومباشرون يحفظونها ويحضرونها للطلبة ومن يريد المراجعة، وكان في تلك المكتبة زيادة عن الكتب العلمية والتاريخية أطالس فيها صور من سلف، وصور الأماكن التاريخية، وخرط البلاد والمدن، والحيوانات والطيور والنباتات، وتواريخ القدماء وسير الأمم وقصص الأنبياء بتصاويرهم وآياتهم ومعجزاتهم وحوادث أممهم، وعند توت الفلكي وتلامذته في مكانه المختص بعلم الآلات الفلكية، وأفردوا لجماعة منهم بيت إبراهيم كتخدا السفاري وهم المصورون لكل شيء، ومنهم أريجو الذي أبدع تصوير المشايخ المعينين بالمجلس، وفريق منهم يحنطون الحيوانات والأسماك، وأفردوا أماكن للمهندسين، وسكن الحكيم «رويا» ببيت ذي الفقار كتخدا، ونظم دار الأدوية به ومعه عدة من الأطباء والجراحين، وأفردوا مكانا في بيت حسن كاشف شركس لعمل التحليلات الكيميائية والظواهر الطبيعية، وأفردوا أيضا مكانا للنجارين وصناع الآلات والأخشاب».
وربما كان من بواعث إحياء الثقة بعد موتها، ومن بواعث الإقبال على هذه العلوم الغربية بعد النفور منها والإعراض عنها، أن أذكياء البلد فهموا أنها «بضاعتنا ردت إلينا»، وأن الفرنسيين إنما أخذوا من علومنا في المشرق ما أهملناه وضيعناه، فبلغوا به من القوة حديثا مثلما بلغناه قديما، ولا يزالون يبحثون عن المزيد ليبلغوا فوق ما بلغوه، ومكن لأذكياء البلد من هذا الاعتقاد أنهم نظروا إلى الجلة المختارة من علماء القوة، فرأوهم يجدون في البحث ولا يترفعون عن التمرغ بالأتربة والخرائب، ليكشفوا بين ودائعها عن أسرار الكيمياء والفلك وأخبار الري والزراعة، ولم يتورعوا عند سفرهم عن حمل ودائع المساجد وخزائن الكتب بما اشتملت عليه من المخطوطات المطلوبة والنسخ النادرة، تنفيذا للمادة الحادية عشرة من شروط الصلح الأخير التي تنص على: «أن أرباب العلوم والصنائع يأخذون معهم جميع الأوراق والكتب مما لا يخصهم فقط، بل كل ما يرونه نافعا لهم.» •••
وقد فارقت الحملة الفرنسية مصر ولم تفارقها فكرة التقدم العصري الذي سبق إليه القوم بعلوم ابتكروها أو بعلوم اقتبسوها منا، وآن لنا أن نردها إلينا.
ولكنها كانت فكرة تحوم بين بعض الرءوس ولا يظهر لها أثر في الحياة العامة؛ لاختلاف النظر بين طلاب الجديد على علاته وأعداء الجديد بحذافيره، ولأن التجديد في الحياة العامة مطلب تتولاه الهيئات المنظمة والحكومات المطاعة، ولا يستقل به الأفراد في جهود مبعثرة وآراء متضاربة، فلما قامت في مصر أول حكومة ذاتية بعد حملة نابليون، لم تلبث أن أحست وطأة الضرورات العملية وإلحاح المطالب الموقوتة، ولم تكن هذه الضرورات مما يحتمل التسويف بين الآراء المتشعبة والوجهات المتعارضة، ووجب على ولاة الأمر أن يوطنوا أنفسهم على مصير كمصير المماليك، أو يبتدروا الزمن إلى الانتفاع العاجل بتجديد التعليم والتصنيع، فأخذوا في بناء المدارس، وإرسال البعوث، وإنشاء المصانع، وتنظيم الدواوين، وضبط موارد الثروة، وعملت المطبعة عملها في نقل المؤلفات النافعة وإحياء الذخائر السلفية، وتداولت أيدي المثقفين القلائل كتب الأجانب في علوم التاريخ والفلك والجغرافية والطبيعة والكيمياء وشئون الحكم والاجتماع، كما تداولت كتب الأدب والثقافة من آثار السلف المهجورة، واتجهت الهمم إلى جمع هذه الآثار من مظانها في المساجد والزوايا وخزائن القصور، فلم يمض جيل واحد بعد الحملة الفرنسية حتى ظهر «الرجل المثقف» في البيئة المصرية، ولم تخل منه بيئة من بيئات التقليد والرجعة إلى القديم، وهي على عادتها في الأزمنة المختلفة أعدى أعداء التحول والتجديد.
وشرط الرجل المثقف في كل عصر أنه «ابن عصره»، وأن طابع عصره يلازمه في تفكيره وعمله كما يلازمه في نظرته إلى العالم من حوله، فلا يعيش في الزمن الحاضر بعقل الزمن الماضي، ولا يترجم الواقع والحقيقة بلغة الوهم والخرافة. وقد وجد هذا الرجل المثقف في كل بيئة من بيئات التقليد والتجديد، فثبت طابع العصر على أبناء القرن التاسع عشر قبل انتصافه، ولا نعني بثبوت طابع العصر في تلك الفترة أنها أخذت كل ما يعطيه العصر من علومه وفنونه وأفكاره وخواطره، ولا أن المثقفين في الأمة غلبوا على أفكارها وخواطرها، أو غلبوا على كل ما بقي في رءوسهم وصدورهم من ميراث ماضيهم، لكن ما نعني أنهم استطاعوا أن يفتحوا أعينهم على النور بعد الظلمة، فأبصروا غاية ما تمتد إليه تلك الأعين من منظور معروض بين أيديهم تحت أضواء النهار، ولم يزل فيهم بعد ذلك حديد النظر وكليله، بل لم يزل فيهم من هو طويل النظر ينظر إلى البعيد ولا ينظر إلى القريب بين يديه، أو ينظر إلى القريب اللاصق به ولا يعدوه إلى ما وراءه.
كان القرن الثامن عشر أحلك ساعات الليل قبل مطلع الفجر، فلما طلع الفجر وأشرق من بعده النهار تيسرت الرؤية لمن يستطيعها كما تستطيع عيناه، وهذا هو الفارق بين المثقف ابن عصره في منتصف القرن التاسع عشر، وبين الجامد على قديمه قبل ذلك بخمسين أو ستين سنة، فارق بين من ينظر بعينه، وبين من يتخبط في الظلمة أو يقاد.
من هؤلاء الناظرين بأعينهم إلى النور بعد منتصف القرن التاسع عشر، بل في الطليعة من أولئك الناظرين البصراء إلى حقائق زمانهم، نابغتنا الريفي الأزهري الذي علم علم اليقين، بل آمن إيمان الدين المتين، أن «التقدم العصري» رهين بعلوم - لنا - أهملناه وهجرناها، وعلوم للمعتدين علينا سبقونا إليها ولم نلحقهم في غير القليل منها، وهي حقيقة من «بديهيات» أيامنا هذه بعد منتصف القرن العشرين، ولكن نابغتنا الريفي الأزهري - محمد عبده - كان يقررها بعد منتصف القرن التاسع عشر، فيجد أمامه من يخاطبهم بمثل ذلك المقال الذي كتبه في صحيفة الأهرام الأسبوعية، وتحرى فيه أن يكتبه بأسلوبه المخضرم بين القديم والحديث، فقال:
ليت شعري إذا كان هذا حالنا بالنسبة إلى علوم قد أرضعت ثدي الإسلام، وغذيت بلبانه، وتربت في حجره، وتقلدت في إيوانه منذ زمن يزيد على ألف سنة ... فما حالنا بالنسبة إلى علوم جديدة مفيدة هي من لوازم حياتنا في هذه الأزمان ... لا بد لنا من اكتسابها وبذل المجهود في طلابها؟ ... كنا نؤمل أن المبنج يفيق بشم روح النوشادر ... في زمان جرى فيه سيل العلوم حتى عم أنحاء الكرة على العموم ... وظهر فيه التوازن بينها وبين أحوالنا المهجنة؛ كثروتهم وفاقتنا، وعزتهم وذلتنا، وقوتهم وضعفنا، وقدرتهم وعجزنا، وصولتهم وانهزامنا، وغير ذلك من المزايا والرزايا التي لا تعد ... لكن صمت الآذان وعميت الأبصار، ختم الله على قلوبهم وسمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم.
وقد كان الشاب محمد عبده يدعو هذه الدعوة وهو في الطليعة من أبناء جيله، ولكنه سجل بها طابع العصر كله من منتصف القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر، ومن هزيع الليل الأخير، إلى مطلع النهار.
Page inconnue