Genie de la réforme et de l'éducation : Imam Muhammad Abduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Genres
وقد أرخ إمامنا صاحب هذه السيرة لهذه الظاهرة الاجتماعية في تلك الفترة بعينها، فقال رحمه الله في مقاله عن محمد علي رأس الأسرة الخديوية: إن الأمراء «اضطروا أن يخففوا من ظلمهم، وأن يتخذوا لهم من الأهلين أنصارا يؤازرونهم عند قيام الحرب بينهم وبين خصومهم، فلما أحس الأهلون بحاجة الأمراء إليهم، زادوا في الدولة واضطروهم إلى قبول مطالبهم، فعظمت قوة الإرادة الشعبية عند أولئك الذين كانوا عبيدا بمقتضى الحكومة، وانتهى بهم الأمر أن قيدوا الأمراء والملوك معا ... نعم كانت الحكومة في مصر على نوع تخالف به الحكومات الشرقية، وكانت البلاد موزعة بين أمراء كل منهم يستغل قسما منها ويتصرف فيه كما يهوى، وكان كل منهم يطلب من القوة ما يسمح له بمد يده إلى ما في يد الآخر أو يدفع به صولته، فالخصام كان دأبهم والحرب كانت أهم عملهم؛ لذلك كان كل منهم يستكثر من المماليك ما استطاع ليعد منهم جنده، وكانت تعوزهم مؤنتهم إذا كثروا فاضطروا إلى اتخاذ أعوان من أهالي البلاد، فوجدوا من العرب أحزابا كما وجدوا منهم خصوما، ثم رجعوا إلى سكان القرى فوجدوا فيهم ما يحتاجون إليه، فاتخذوا بيوتا منها أنصارا لهم عند الحاجة، وعرف هؤلاء حاجة الأمراء إليهم فارتفعوا في أعينهم وصار لهم من الأمر مثل ما لهم أو ما يقرب من ذلك؛ لهذا كنت ترى في البيوت المصرية بيوتا كبيرة لها رؤساء يعظم نفوذهم ويعلو جاههم ... وذلك كان يقضي على كل أمير من أولئك الأمراء أن يصرف زمنه في التدبير واستجلاب النصير، وإعداد ما يستطيع من قوة لحفظ ما في يده والتمكن من إخضاع غيره، وكان أنصاره من الأهالي يجارونه في ذلك خوفا من تعدي أعوان خصمه عليهم ... وهذا يحدث بطبعه في النفوس شمما وفي العزائم قوة، ويكسب القوى البدنية والمعنوية حياة حقيقية مهما احتقرت نوعها، فكانت العناصر جميعها في استعداد لأن يتكون منها جسم حي واحد يحفظ كونه ويعرف العالم مكانته».
ثم انتقل إلى عصر محمد علي، فقال ما فحواه إنه خاف على سلطانه من أبناء البلاد، «فوجه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة، فلم يدع منها رأسا يستتر فيه ضمير (أنا)، واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلا لجمع السلاح من الأهلين، وتكرر ذلك منه مرارا حتى فسد بأس الأهالي وزالت ملكة الشجاعة منهم، وأجهز على ما بقي في البلاد من حياة في أنفس بعض أفرادها، فلم يبق في البلاد رأسا يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه، أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه. وأخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى، كأنه كان يحن لشبه فيه ورثه عن أصله الكريم حتى انحط الكرام وساد اللئام، ولم يبق في البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة وعلى أي وجه ... فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأي وعزيمة واستقلال نفسي، ليصير البلاد جميعها إقطاعا واحدا له ولأولاده، على إثر إقطاعات كثيرة كانت لأمراء عدة».
ثم قال: «أين البيوت المصرية التي أقيمت في عهده على قواعد التربية الحسنة؟ أين البيوت المصرية التي كانت لها القدم السابقة في إدارة حكومة أو سياساتها أو سياسة جندها مع كثرة ما كان في مصر من البيوت الرفيعة العماد، الثابتة الأوتاد؟ ... إنه أرسل جماعة من طلاب العلم إلى أوروبا ليتعلموا فيها، فهل أطلق لهم الحرية أن يبثوا في البلاد ما استفادوا؟ كلا، ولكنه اتخذهم آلات تصنع له ما يريد ... وظهر بعض الأطباء الممتازين وهم قليل، وظهر بعض المهندسين الماهرين وهم ليسوا بكثير، والسبب في ذلك أن محمد علي ومن معه لم يكن فيهم طبيب ولا مهندس، فاحتاجوا إلى بعض المصريين، ولم يكن أحد من الأعوان مسلطا على المهندس عند رسم ما يلزم له من الأعمال، ولا على الطبيب عند تركيب أجزاء العلاج، فظهر أثر استقلال الإرادة في الصناعة عند أولئك النفر القليل من النابغين، وكان ذلك مما لا تخشى عاقبته على المستبدين.» •••
ومن المحقق أن الخطة التي نسبها الأستاذ الإمام إلى محمد علي إنما كانت إحدى خططه المرسومة في سياسته العامة، التي أراد بها أن يحصر الأمر كله بين يديه، وأن يجرد البلد من كل قوة تحدث نفسها بمقاومته، أو الانتقاض على حكمه، أو منازعته في شأن من شئون الدولة، سواء بدرت هذه المنازعة من جانب أبناء الترك كما كانوا يسمون المماليك عامة، أو من جانب أبناء العرب كما كانوا يسمون الفلاحين عامة، بغير تفرقة بين أبناء البادية وأبناء الريف، وكان همه الأكبر أن يتخلص من أولئك السادة الذين رشحوه للولاية وتقدموا مرة بعد مرة لمحاسبة الأمراء من قبله؛ لأنه علم أنهم قادرون على ترشيح غيره كما رشحوه، وعلى محاسبته كما حاسبوا غيره، وخشي من جانب الريف أن يدين أبناؤه لصاحب جاه أو صاحب «عزوة» من أهله، وبخاصة بعد التحالف بين بعض أبناء الريف وبعض خصومه الذين هجروا العاصمة فرارا من القتل والغيلة. ولم ينس محمد علي أن قبائل الأطراف ربما استقلت بالحكم زمنا، وامتنعت عن أداء الخراج لولاة الأمر في القاهرة كلما اتهمهم بالمروق من سلطان الدولة أو بالجور على حقوق الرعية، فلم يكفه أن يجرد أصحاب الجاه من قدرتهم على العصيان والانشقاق، بل حرص على تجريدهم من كل جاه لا يستمدونه منه ولا يرجعون به إليه.
غير أن الحاكم المستبد قد يستطيع أن يستأصل الغروس النامية، ولكنه لا يستطيع - مهما بلغ من طغيانه وحرصه - أن يستأصل الجذور الكامنة في أعماق أرضها، ولا البذور المدفونة في انتظار نبع يسري إليها أو سحابة تهطل عليها، وتتركها لما قسم لها من الحياة في تربتها.
ويظهر من سياسة الولاة بعد محمد علي أن سياسة التجريد والاستئصال لم تجرد الريف من تلك العناصر التي يحسب الوالي حسابها، ويشفق من عواقب إهمالها كما يشفق من عواقب استئصالها؛ فإن الوالي محمد سعيد لم يلبث أن شعر بسوء المغبة من هذا الإهمال، وأدرك ضرورة الاستعانة في حكم الريف، فكتب إلى الأقاليم قبل انقضاء جيل محمد علي مراسيمه التي يقول في أحدها بعد تمهيد وجيز: «وقد سنح لخاطرنا أن أجعل الحكام ممن يوثق باعتمادهم في الأمور الدينية والمدنية من عمد أبناء العرب بنواحي المديريات مع أبناء الترك، على سبيل التجربة وإبراز ما انطووا عليه من الثمرات المقصودة بالذات أو ضدها، وهناك يكون الإقدام على تقدمهم أو بتعيين تأخرهم عن برهان واضح، فابتدأنا بتنصيب اثنين من عمد نواحي مديرية المنيا وبني مزار نظار أقسام، وجعلناهما موقعا للتجربة، وأمرنا مدير الجهة المذكورة بتنصيب جانب من العمد حكام أخطاط. والآن تعلقت إرادتنا أن يكون حصول ذلك بسائر الأقاليم، فأصدرنا أوامرنا إلى المديرين عموما وهذا إليكم لتنتخبوا من عمد أبناء العرب المجربين الأطوار المتصفين بحسن الاستقامة والسياسة، من يليق بالتقدم لمناصب الحكومة ، وترتبوا نظار أقسام مديريتكم على الثلث منهم، بأن يكون اثنان - هكذا - نظار أقسام من أبناء الترك وواحد من أبناء العرب، كما أن حكام الأخطاط يكون منهم ثلاثة من أبناء الترك وواحد من أبناء العرب، وقبل أن ترتبوهم اعرضوا علينا بيان أسمائهم وأسماء بلادهم وأقسامهم وأخطاطهم ...»
وازداد شعور الولاة بضرورة المعاونة بينهم وبين أبناء القرى على حكمها وولاية شئونها، فشاعت الدعوة إلى الحكم النيابي في عهد إسماعيل، وكان من أغراض إسماعيل في مجاراته لهذه الدعوة أن يستخلص بعض السلطة من الرقابة الأجنبية باسم الأمة، ليتصرف به ما استطاع على أيدي أعوانه وأوليائه من الوجهاء وعمد الأقاليم، ولكنه - ولا ريب - كان يعمد إلى هذه الحيلة؛ لأنه يدرك أن مشاركة هؤلاء الريفيين في حصة من الحكم وسيلة لا غنى عنها لتوطيد سلطان الحاكم وضمان البقاء لصاحب الولاية الكبرى في العاصمة، ولم تكن ثورة عرابي في عصر خليفته توفيق إلا أثرا من آثار التهاون في اتباع هذه السياسة، أو أثرا من آثار العدول عنها لتغليب عنصر «أبناء الترك» على عنصر «أبناء العرب» في وظائف الجيش والحكومة.
على أن ودائع الخير في القرية لم تكن في عصر من العصور محصورة في أبناء «البيوتات» التي تتميز بالجاه والمال وسعة الثراء من الأرض والعتاد، فإن هذه البيوت نفسها لم تكن لتستقر في مكانها لو لم يكن قرارها على أساس آخر مكين ... هو أساس الأسرة أو أساس «البيت» على الإجمال، وليس بالنادر أن يكون البيت الصغير دعامة للبيوتات العالية تعزها وتعتز بها، وتتصل جميعا بوشيجة جامعة من النسب والمصاهرة، وربما تعرضت البيوتات العالية لسطوة الحاكم المستبد إذا وقفت منه موقف المناجزة، أو وقف منها موقف الحذر والريبة؛ لأنه أقوى من كل بيت منها على حدة، وأقدر على أن يأخذها متفرقة واحدة بعد واحدة قبل أن تأخذه دفعة واحدة وهي متفقة عليه. أما البيوت الصغيرة التي تتوارى عن بصر الحاكم الكبير وتغلب الظلم بالكثرة، فهي الذخيرة الخالدة التي لا تفنى مواردها، ولا يتأتى للطغيان أن يجردها من مروءة العرف التي تتوشج مع الشعور بحقوق القرابة والمصاهرة، وحياء النسيب من النسيب، ودالة الصغيرة على الكبيرة، وكرامة الكبير على الصغير، وليس من شأن القروي الذي ينتمي إلى قرابة واسعة موفورة العدد من هذه القرابات المعروفة في بلاد الريف أن يستكين إلى حاكمه الصغير في القرية إلى غير نهاية، وليس من شأنه أن يعجز عن النجاة بنفسه من جوار إلى جوار بين عشرته وذوي قرباه، كلما ضاقت به الحال وبلغ به الجور والنكاية غاية الاحتمال.
والأسرة على أوضاعها العريقة هي عصمة القروي من جور حكامه وعوارض زمانه، سواء منها ما يتوطد بالجاه والعصبة القوية، وما يتوطد بالعدد الكثير والنسب المتشعب والصهر المتجدد والعرف الموروث، متلاحقا متمكنا على مدى الأسلاف والأعقاب.
وقد صادفتنا هذه الحقيقة في ترجمتنا لسعد زغلول كما تصادفنا الآن في ترجمتنا لأستاذه وزميله محمد عبده، فقلنا في فصولها الأولى: «إن الآصرة عظيمة الشأن في آداب المصريين من أقدم عصور التاريخ، ولم يتجرد المصري من عواطف الأرحام بين أبوة وأمومة وبنوة وقرابة وآصرة دانية أو قاصية.» وذلك هو قوام العرف الاجتماعي في أخلاقه وعلاقاته، وهو أيضا قوام المحافظة المصرية التي تحب الألفة وتعرض عن البدع والخوارق. والوصايا باتخاذ الأسرة معروفة في الأدب المصري منذ آلاف السنين، ففي وصايا بتاح حوتب التي كتبت قبل أكثر من ستة وأربعين قرنا يقول الوزير لتلميذه: «إذا كنت رجلا ذا منزلة، فاتخذ لك منزلا وأحبب قرينتك الحب الجميل، وأطعمها واكسها، وطيب أوصالها، وأدخل السرور على قلبها طول حياتك ...» ولم تنس الوصية بتوقير الأسرة وصلة الأرحام بعد ذلك كلما كتبت الوصايا في العهد القديم، ففي نسخة من وصية عاني محفوظة في مخطوطات الأسرة الثانية والعشرين يقول الحكيم: «اتخذ لك زوجة في شبابك لتنجب لك ولدا تربيه وأنت في صباك، وتعيش حتى تراه في عداد الرجال، وما أسعد الرجل الذي له عشيرة كبيرة، إن الناس يوقرونه من أجل بنيه.»
Page inconnue