فقال الفقيه: «كثيرا ما دعاني للإقامة في قصره، وأنا أتردد، وأما الآن فإني سأستجيب لرغبته وأنتقل إليه.» ثم اعتدل في مجلسه والتفت إلى سعيد والسراج خلف ظهره، فوقع ضوءه على عيني سعيد فزادهما لمعانا وإشراقا، وتخيل فيهما قوة كادت تسيطر عليه فقال: «إن من يحب الأمير عبد الله ينبغي أن يدعه يعرف حقيقة مركزه.»
فقال سعيد: «ظهر لي أنه كثير التواضع راغب في العزلة والابتعاد عن السياسة، ولولا ذلك ما ظننت أن أخاه الحكم ينال الخلافة دونه.»
فأشرقت أسارير الفقيه فرحا بهذا التصريح وقال: «وقد تعبت وأنا أشرح له ذلك وهو ينكره علي، فإذا ساعدتني أقنعناه، فإني أرى في عينيك قوة الإقناع.»
قال سعيد: «أنا لا ألتمس إقناعه بالقوة، ولا أظنه يحتاج إلى إقناع بأنه أفضل من أخيه. ولكنه يخشى إظهار ذلك، فإذا كان واثقا من محدثه صرح بما يدور في خلده. ثم هو لا يكفيه أن يفضل نفسه على أخيه بالقول، وإنما لا بد من العمل؟»
فقال الفقيه: «نبدأ أولا بالقول. هل تقنعه أنه أولى بالخلافة من أخيه؟»
قال سعيد: «يجب أن تبدأ أنت بذلك. أقنعه أولا بأن أخاه الحكم متكبر، يتوهم أنه فوق إخوته وسائر أهله، وأظهر له أن في قرطبة وسائر الأندلس أحزابا كبيرة ليسوا راضين عن بذخ الخليفة عبد الرحمن الناصر وإسرافه في بناء القصور وغيرها، وأنهم ناقمون على الحالة الحاضرة، وربما بايعوا واحدا من غير أبناء عبد الرحمن الناصر، وهو أولى بهذه المبايعة. ولا شك في أن هذا يهون عليه القبول.»
وكان الفقيه مصغيا بكليته إلى ما يقوله سعيد، وقد أدهشه دهاؤه، وشعر بالفرق العظيم بين رأييهما، وتحقق أنه إذا أتى الأمير عبد الله من هذه الناحية أقنعه، ولكن كبرياءه منعته من التصريح بفضل سعيد في إبداء هذا الرأي، فقال: «بورك فيك من رجل عاقل، وهذا ما خطر لي أن أقوله للأمير عبد الله، ولكنني أخشى إن سألني أين هذه الأحزاب أن أعجز عن الجواب.»
فأشار سعيد بأصبعه السبابة إلى صدره وقال: «اسألني عند الحاجة فأرشدك، واحذر إذا ذكرت ما تقدم للأمير عبد الله أن تشير إلي أو تذكر اسمي، إلا إذا سألك عن الأحزاب فقل له: «سنسأل سعيدا الوراق لعله يعرف؛ لأنه كان كثير الاختلاط بالناس.» هل فهمت؟»
فأعجب الفقيه برأي سعيد بأن لا يذكر اسمه في ذلك، فيحسب الأمير عبد الله أنه هو صاحب تلك الآراء فيعلوا قدرا في عينيه، فقال: «فهمت. أنت لا تريد أن أروي شيئا من ذلك عنك.»
قال سعيد: «نعم؛ لأن الغرض تقديم النصيحة للأمير عبد الله، ولا عبرة فيمن يقدمها.»
Page inconnue