وبعد قليل أخذ الناس يتوافدون إلى منزل سعيد، وكل منهم يشتغل بشيء من كتابة أو نسخ أو مطالعة، وإذا أرادوا الاستفهام عن أمر صعب عليهم عمدوا إلى سعيد، وهو يرشدهم إلى ما يريدون. وكانوا يعتقدون الصدق فيما يقوله ولو خالف الحد المعقول؛ لأنه كان قوي الحجة، قوي الدليل، وكان في عينيه ما يشبه المغناطيس، إذا تفرس في عيني جليسه تغلب عليه كأنه جذبه بقوة مغناطيسية، فلا يشعر جليسه إلا وهو طوع إرادته.
وكان سعيد الوراق هذا في نحو الأربعين من عمره، صحيح البنية، عريض الكتفين، قوي العضل، كبير الرأس، تتجلي الرزانة في جبينه، والذكاء في عينيه، والثبات حول شفتيه. لا يباحث أحدا من الناس إلا أقنعه، وكان خفيف العارضين واللحية، قلما يضحك، ولكن الابتسام دائما في وجهه. وقد مضى عليه بضع سنين يشتغل بالوراقة في قرطبة، أو تجارة الكتب، ولم يعامله أحد إلا أعجب بأخلاقه العالية وذكائه المفرط، فكان الأدباء من الفقهاء وأهل الدولة يترددون على منزله كما يجتمع الناس في ناد للمطالعة والاستفادة، ولكنه كان يشترط أن يكون ذلك أثناء النهار، فإذا غربت الشمس أغلق منزله.
فلما رأى سعيد أن الناس يتوافدون على مكتبته في ذلك اليوم أمر خادمه بتقديم ما يحتاجون إليه، ولم يكن جوهر خادمه خصيا مثل سائر خدم قرطبة، فإن أهلها قلدوا أميرهم باقتناء الخصيان على اختلاف أجناسهم وكانت كثيرة يومئذ، وكانوا يأتون بهم من أطراف العالم إلى دار الإسلام، وخاصة الأندلس لأنها كانت أكثر الممالك الإسلامية رخاء في ذلك العهد، وإنما كان خادم سعيد بربريا من أهل المغرب في غاية السذاجة.
الفصل الرابع
خازن كتب الحكم
اشتغل الخادم جوهر بتقديم ما يحتاج إليه الناس، وتوجه سعيد إلى الغرفة التي فيها الفقيه ابن عبد البر، فرآه منهمكا في المطالعة يكتب في كراس بيده، وهو يتأمل فيما يكتبه، وقد نزع عمامته واستغرق في التفكير، وبينما هو ينظر إليه، سمع وقع خطوات خلفه، فالتفت فرأى تليدا صاحب مخزن كتب الحكم ولي العهد قادما على عجل - وهو خصي وجيه - فقابله سعيد مرحبا، فرآه يشير إليه بسبابته على شفتيه أن يسكت فسكت، وتقدم تليد حتى أطل على الفقيه ابن عبد البر خلسة، فلما رآه مستغرقا في الكتابة. همس في أذن سعيد: «إن الفقيه يهيئ خطابا ليتلوه بين يدي أمير المؤمنين غدا فينال منصب قاضي القضاة.» قال ذلك وهز رأسه استخفافا، ورجع وهو قابض على يد سعيد حتى دخلا غرفة أخرى والفقيه ابن عبد البر لم ينتبه.
فمشى سعيد مع تليد، وهو ينتظر ما يبدو منه، فإذا به يقول له: «بلغني أن رجلا من بني أمية اسمه أبو الفرج الأصفهاني ألف كتابا في الأغاني. هل سمعت عنه شيئا؟»
قال سعيد: «سمعت أنه يؤلف هذا الكتاب من عهد بعيد، ولا أدري إذا كان قد أتمه الآن أم لا.»
قال تليد: «سمعت أنه أحسن كتاب في الأدب.»
قال سعيد: «نعم، وقد بلغني أنه قضى معظم حياته في جمعه وتأليفه، وهو يغني عن سائر الكتب.»
Page inconnue