قالت الزهراء: «اسأل يا سيدي، فإني لا أقول غير الصدق.»
قال الناصر: «أتحبين ابني عبد الله؟»
قالت الزهراء: «نعم أحبه.» ولم يتلجلج لسانها ولا تغير وجهها.
فبغت لهذه الجسارة ونظر في وجهها وأجال نظره فيها، وهي لا تبالي، فقال لها: «تقولين ذلك بكل جسارة؟!»
قالت الزهراء: «ألم تشترط علي الصدق؟ إني أحب الأمير عبد الله. كيف لا أحبه وهو ابن سيدي أمير المؤمنين؟»
فرأى في هذا التعبير ما يخفف الغضب، وندم على رجوعه للسؤال فسكت، ومشى إلى غرفته، وعادت هي إلى غرفتها واستلقت على سريرها، وتنهدت كأنها أطلقت نفسا كان محبوسا في صدرها ويكاد يخنقها، فأتاها جوهر، وأخذ يماجنها التماسا لتسليتها، فأشارت إليه أن يتركها وحدها.
الفصل الخمسون
الهواجس
ثم أمرت إحدى وصيفاتها أن تهيئ لها الفراش، وجاءت وصيفة أخرى لتساعدها على تبديل ثيابها وهي مستغرقة في الأفكار، فلما فرغت من تبديل الثياب أمرت بإطفاء الأنوار إلا ضوءا ضعيفا. وأرخت الكلة (الناموسية) على سريرها تلتمس النوم ولكن عبثا.
فما أن استلقت حتى تراكمت عليها الهواجس، وأخذت تفكر في حالها وما يبدو عليها من سعادة يحسدها عليها الناس، وما يعتور تلك السعادة من أسباب الشقاء، فعادت بذاكرتها إلى صباها منذ حملها النخاسون من جبال الصقالبة وهي طفلة ومعها أخوها، ولما تذكرت أخاها تنهدت وتقلبت على جنبها الأيمن تريد أن تنسى تلك الذكرى، فلم تزدها هذه الرغبة إلا تذكيرا، فتذكرت كيف حملت مع أخيها إلى إيطاليا وعليهما أطمار بالية لا تقيهما البرد، ولكن جمالها كان يلفت الأنظار، وقد وقعت في يد أحد تجار الرقيق من اليهود، وكان خبيرا بخفايا التجارة، فعرف أن مثل هذه الجارية لا يدفع ثمنها إلا المسلمون في صقلية، وكانت جزيرة صقلية يومئذ في حوزة المسلمين تحت سيطرة دولة العبيديين في المغرب، وكان أمراؤها يتقربون إلى خلفاء تلك الدولة بأمثال هذه الهدايا، فأراد أن يبتاع الزهراء ليرسلها هدية، فأبت وتوسلت إلى التاجر أن لا يبيعها إلا مع أخيها؛ لأنها كانت شديدة التعلق به، ولم يكن لها تعزية في ذلك الأسر والفقر سوى وجود أخيها معها، فأطاعها التاجر واشترط مع أمير صقلية أن يشتري الاثنين معا، فرضي وابتاعهما؛ لأن جمال الزهراء بهره، وأعجبه ما آنسه من لطفها وذكائها، وحدثته نفسه أن يستبقيها له، لكنه كان في حاجة إلى مهمة من الخليفة العبيدي صاحب إفريقية، وهو يومئذ المهدي، فاستقر رأيه على أن يرسلها إليه ويستبقي أخاها عنده يربيه في داره، ويدربه على الجندية على جاري عادتهم في استخدام المماليك، فأبت الزهراء عليه ذلك، وتوسلت إليه أن يرسل أخاها معها فيكون حيث تكون، فلم يطاوعه قلبه على رد طلبها بعد ما آنسه من لهفتها.
Page inconnue