قال الناصر: «سنحضرها ونشنف أسماعنا بحديثها. وأما الآن فاصدقني، قد بلغني أنك بارع في فن التنجيم!»
فقال سعيد: «ذلك شيء تعلمناه من الصغر، ولا يزال بعضه عالقا بالذهن.»
قال الناصر: «إن خير العلم ما أخذ في الصغر؛ لأنه يكون كالنقش في الحجر.»
الفصل السادس والثلاثون
التنجيم
وقد كان الملوك في عصر الاستبداد يشعرون بحاجتهم إلى المنجمين؛ لكثرة من كانوا يحيطون بهم من أهل الدسائس والمتملقين، فهم لا يثقون بهم ولا يرون لهم غنى عنهم، فإذا كانوا يؤمنون بالتنجيم استعانوا به على استطلاع الأسرار وكشف المؤامرات. وكان الناصر قد سمع عن سعيد الوراق من قبل، وعن مهارته في كل فن، ولما دخل عليه ياسر بكتاب ابنه عبد الله ذكر سعيدا بالخير، وأطرى علمه وبراعته في التنجيم، فوقع من نفسه موقعا حسنا، ولم يكن الناصر ساذجا، فلم يشأ أن يستسلم لسعيد قبل أن يتدبر أمره، فسأله عن قبيلته فقال له ياسر: «إنه غريب لا أهل له، ولا يهمه غير الاشتغال بالكتب وبيعها.» فسبق إلى ذهنه حسن الظن به وفتح له قلبه من أول لقاء، وحينما كلمه شعر بقوة فيه ارتاح لها، وتوقع أن يكون عونا له.
أما سعيد فلم يفته شيء مما جال في خاطر الناصر، فأخذ يستعد لتدبير ما جاء من أجله فقال: «لا ينبغي لمولاي - حفظه الله - أن يستسلم لحقير مثلي، ولا أن يركن إلى التنجيم كثيرا فإنه قد يخطئ.»
فأعجب الناصر بتواضعه وزاد ثقة به، فقال: «إن قولك هذا يزيدني ثقة بعلمك، فإني لم أر بين المنجمين الكثيرين في قصري من يعترف بالقصور مثلك.»
فرفع سعيد بصره إلى الناصر وحدق في عينيه وقال: «ولكنني لا أحب أن أدعى منجما، فإذا شاء مولاي أن ينتفع بشيء من علمي فأرغب إليه أن يكتم خبري عن خاصته، ولا يعدني في جملة المنجمين، بل يجعلني في جملة الخدم، ويتخذني معلما لتلك الجارية، وأنا لا أدخر وسعا في بذل روحي في خدمته من كل وجه.»
فاستحسن الناصر رأيه وقال: «سأفعل ذلك، أما الآن وقد فتح الحديث، فأخبرني بما يدلك عليه علمك من حالنا، قل لا تخف.»
Page inconnue