أبطال الرواية
مراجع هذه الرواية
1 - قرطبة وعبد الرحمن الناصر
2 - مكتبة في قرطبة
3 - ياسر كبير الخصيان
4 - خازن كتب الحكم
5 - عابدة
6 - عتاب
7 - الاجتماع
8 - المناجاة
9 - السحر والتنجيم
10 - الاحتفال
11 - القصور
12 - القصر الزاهر
13 - استقبال الرسل
14 - الهدية
15 - تغيير
16 - الفقيه في طريقه
17 - الأمير عبد الله
18 - الوشاية
19 - سعيد وعبد الله
20 - عبد الله وعابدة
21 - الانصراف
22 - المؤامرة
23 - عبد الله يناجي نفسه
24 - رسول ولي العهد
25 - الجواب
26 - المائدة
27 - كتاب آخر
28 - الجواب الثاني
29 - ختام الجلسة
30 - طبيب ماهر
31 - طارق
32 - إلى أمير المؤمنين
33 - قصر الزهراء
34 - ياسر
35 - مجلس الخليفة
36 - التنجيم
37 - سعيد وعابدة
38 - جوهر
39 - بيت المنام
40 - المجلس
41 - العباسيون والأمويون
42 - الغناء
43 - نحنحة من وراء الستار
44 - التعليم
45 - أين الزهراء؟
46 - في الحديقة
47 - الزهراء
48 - العتاب
49 - الحيرة
50 - الهواجس
51 - حديث عن الصبا
52 - سبب الفراق
53 - ماذا وجدت؟
54 - الدرس
55 - كشف الحجاب
56 - الوعود
57 - الرجوع إلى الصواب
58 - الواقع
59 - موعد آخر
60 - طارق آخر
61 - سعيد وهواجسه
62 - حديث ذو شجون
63 - المشورة
64 - الانتقام السريع
65 - الندم
66 - الورقتان
67 - الفرار
68 - الأرباض
69 - الخوف
70 - الفشل
71 - الفخ
72 - اليأس
73 - شد الوثاق
74 - صاحب النقمة
75 - اللقاء
76 - المحاكمة
77 - موقف هائل
78 - الجسارة
79 - الحب
80 - عابدة وسالم
أبطال الرواية
مراجع هذه الرواية
1 - قرطبة وعبد الرحمن الناصر
2 - مكتبة في قرطبة
3 - ياسر كبير الخصيان
4 - خازن كتب الحكم
5 - عابدة
6 - عتاب
7 - الاجتماع
8 - المناجاة
9 - السحر والتنجيم
10 - الاحتفال
11 - القصور
12 - القصر الزاهر
13 - استقبال الرسل
14 - الهدية
15 - تغيير
16 - الفقيه في طريقه
17 - الأمير عبد الله
18 - الوشاية
19 - سعيد وعبد الله
20 - عبد الله وعابدة
21 - الانصراف
22 - المؤامرة
23 - عبد الله يناجي نفسه
24 - رسول ولي العهد
25 - الجواب
26 - المائدة
27 - كتاب آخر
28 - الجواب الثاني
29 - ختام الجلسة
30 - طبيب ماهر
31 - طارق
32 - إلى أمير المؤمنين
33 - قصر الزهراء
34 - ياسر
35 - مجلس الخليفة
36 - التنجيم
37 - سعيد وعابدة
38 - جوهر
39 - بيت المنام
40 - المجلس
41 - العباسيون والأمويون
42 - الغناء
43 - نحنحة من وراء الستار
44 - التعليم
45 - أين الزهراء؟
46 - في الحديقة
47 - الزهراء
48 - العتاب
49 - الحيرة
50 - الهواجس
51 - حديث عن الصبا
52 - سبب الفراق
53 - ماذا وجدت؟
54 - الدرس
55 - كشف الحجاب
56 - الوعود
57 - الرجوع إلى الصواب
58 - الواقع
59 - موعد آخر
60 - طارق آخر
61 - سعيد وهواجسه
62 - حديث ذو شجون
63 - المشورة
64 - الانتقام السريع
65 - الندم
66 - الورقتان
67 - الفرار
68 - الأرباض
69 - الخوف
70 - الفشل
71 - الفخ
72 - اليأس
73 - شد الوثاق
74 - صاحب النقمة
75 - اللقاء
76 - المحاكمة
77 - موقف هائل
78 - الجسارة
79 - الحب
80 - عابدة وسالم
عبد الرحمن الناصر
عبد الرحمن الناصر
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
عبد الرحمن الناصر :
الخليفة الأموي بالأندلس.
الزهراء:
محظية الخليفة.
الحكم:
ولي العهد.
عبد الله:
الابن الثاني للخليفة.
ابن عبد البر الكسيباني:
من كبار فقهاء قرطبة.
سعيد:
جاسوس الخليفة الفاطمي في القيروان.
ياسر:
خادم أمير المؤمنين.
ساهر:
خادم للأمير عبد الله.
عابدة:
جارية من مولدات بغداد.
سالم:
شقيق الزهراء.
مراجع هذه الرواية
هذه هي المراجع التي اعتمد عليها المؤلف في تأليف الرواية ووقائعها التاريخية:
تاريخ المقريزي.
الأمالي للقالي.
طبقات الأدباء.
كتاب الحوشي.
المؤرخ كوندي.
نفح الطيب.
تاريخ رومي.
الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني.
الأحكام السلطانية.
تاريخ ابن خلدون.
العقد الفريد.
الفصل الأول
قرطبة وعبد الرحمن الناصر
قرطبة عاصمة الأمويين في الأندلس، تقع شمالي نهر يعرف باسم الوادي الكبير في جنوب إسبانيا، وقد بلغت غاية حضارتها وأوج مجدها في زمن عبد الرحمن الناصر، (تولي سنة 300-350 للهجرة)، وهو أول من تسمى خليفة من ملوك الأندلس. تولى الملك والأحوال مضطربة، والبلاد قائمة قاعدة؛ لاختلاف الأحزاب وكثرة المطالبين بالحكم من العرب والبربر؛ غير الإفرنج المجاورين له في إشتوريا، وغليكية، ونافار، وبمبلونة، وغسكونية، وغيرها، وقد ظل يحارب ويناضل ويجد ويجتهد، حتى دانت له الرقاب، واستقر له الملك، واستتب الأمر، فتقرب إليه ملوك عصره بالهدايا، وأوفدوا إليه الوفود من القسطنطينية، ورومية، وفرنسا، وروسيا، وغيرها.
ولما أحس من نفسه بالقوة، ورأي الخلافة العباسية قد ضعفت، وأصبح الجنود الأتراك يسيطرون على خلفائها، سمى نفسه أمير المؤمنين، فلم يلق معارضة، واتفق في أثناء ذلك قيام الدولة الفاطمية (العبيدية) في المغرب، وهم شيعة يطلبون الخلافة باسم علي، فأصبحت الخلافة الإسلامية يدعيها ثلاث دول: العباسيون في العراق، والفاطميون في المغرب، والأمويون في الأندلس.
ازدهرت قرطبة في أيام عبد الرحمن الناصر، وزاد عمرانها، وكثرت قصورها ومتنزهاتها. يكفي من ذلك قصرها الكبير لأنه آية من آيات الزمان، كان مؤلفا من أربعمائة وثلاثين دارا، بينها قصور فخمة، لكل منها اسم خاص، كالكامل، والمجدد، والحائر، والروضة، والمعشوق، والمبارك، والرستق، وقصر البديع، وقد تفننوا في زخرفتها وإتقانها، وأنشئوا فيها البرك، والبحيرات، والصهاريج، والأحواض، وجلبوا إليها الماء في قنوات الرصاص على المسافات البعيدة من الجبال حتى أوصلوه إليها، ووزعوه فيها وفي ساحاتها ونواحيها، في قنوات من الفضة الخالصة، والنحاس المموه، إلى البحيرات الهائلة، والبرك البديعة، والصهاريج الغريبة في أحواض الرخام الرومية المنقوشة، ينصب فيها الماء من أنابيب الذهب أو الفضة في صور الحيوانات الكاسرة، أو الطيور الجميلة، على أشكال مختلفة.
ومن عجائب قرطبة مسجدها المشهور، ولم يكن في بلاد الإسلام أعظم منه ولا أعجب بناء، وكان في مكانه كنيسة للنصارى شاركهم فيها المسلمون عند الفتح، كما فعلوا بالمسجد الأموي بدمشق، ثم قاموا بتوسيعه والزيادة فيه، حتى كانت سعته في عصر عبد الرحمن الناصر مائتين وخمسة وعشرين ذراعا طولا، ومائتين وخمسة أذرع عرضا، وأغرب ما في هذا المسجد مئذنته التي لم يكن في مساجد المسلمين مئذنة تشبهها؛ إذ بلغ طولها إلى موقف المؤذن أربعة وخمسين ذراعا، وإلى أعلى الرمانة ثلاثة وسبعين ذراعا، وعرضها ثمانية عشر ذراعا.
ومما ابتدعه عبد الرحمن الناصر من القصور، قصر الزهراء، ذكروا أنه بناه استجابة لطلب جارية له اسمها الزهراء، على بعد أربعة أميال من قرطبة، وهو أشبه ببلد كبير طوله من الشرق إلى الغرب ألفان وسبعمائة ذراع، وعرضه ألف وخمسمائة ذراع، وعدد أعمدته أو سواريه أربعة آلاف وثلاثمائة سارية، بعضها نقل إلى قرطبة من رومية، وإفريقية، وتونس، وبعضها أهداه صاحب القسطنطينية، وفيها المصنوع من الرخام الأبيض، والأخضر، والوردي، والمجزع. وكان في الزهراء مسجد فخم، وعدة قصور وحدائق. على نحو ما تقدم في وصف القصر الكبير. وفيها البحيرات تسبح فيها الأسماك على اختلاف ألوانها وأنواعها، وأحواض الرخام المنقوش على أشكال شتى، بين مذهب وغير مذهب، في جملتها حوض مزين بتماثيل الإنسان جيء به من القسطنطينية، وأقامه عبد الرحمن الناصر في دار المنار بالمجلس الشرقي المعروف بالمؤنس، وجعل عليه اثني عشر تمثالا من الذهب الأحمر، مرصعة بالدر النفيس الغالي مما صنع بدار الصناعة في قرطبة على صورة أسد وبجانبه غزال وإلى جانبه تمساح، يقابله ثعبان، وعقاب، وفيل، وفي الجنبين حمامة، وشاهين، وطاووس، ودجاجة، وديك، وحدأة، ونسر، وكلها من الذهب المرصع بالجوهر، يجري الماء من أفواهها، وقد أنفق في بناء هذا القصر ما يزيد على عشرين مليون دينار.
1
هذا خلاف ما كان في دولة عبد الرحمن الناصر من رواج العلم، فقد كانت قرطبة كعبة العلم ومجتمع العلماء ومقصد باعة الكتب، وكان اقتناء الكتب من ضروريات الحياة عندهم. كانوا يفعلون ذلك اقتداء بخليفتهم وأبنائه.
الفصل الثاني
مكتبة في قرطبة
قال جوهر خادم المكتبة: «مالي أري الناس في شاغل عن النسخ والمطالعة اليوم يا سيدي؟»
فأجابه سعيد صاحب المكتبة: «إن الناس في شاغل عن كل شيء بسبب رسل قيصر الروم، الذين جاءوا بالهدايا من قسطنطين بن ليون صاحب القسطنطينية، إلى مولانا أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر، فخرجوا من قرطبة لمشاهدة الوفد قبل وصوله. كأنك كنت غائبا عن قرطبة؟»
قال جوهر: «لم أكن غائبا، ولكنني لم أبرح هذه الدار منذ أسبوع يا سيدي.»
فانتبه إليه سعيد، وقال: «صدقت، إن الخليفة حين بلغه مجيء رسل ملك الروم أمر أن يستقبلوا أحسن استقبال، وأرسل جماعة من خاصته يستقبلونهم في بجاية، وأن يحسنوا خدمتهم في الطريق، فوصلوا أمس إلى قرب قرطبة، فأمر بإرسال الجند والحاشية والخدم للقائهم، فاشتغل أكثر الناس بانتظارهم في الطرق، ومشاهدة موكبهم، فلم يأتنا أحد منهم.»
فقال جوهر: «ومن هم رسل ملك الروم؟»
فاستغرب سعيد سذاجة خادمه جوهر، وقال له: «إنهم أناس مثلنا. هل تحب أن تراهم؟»
قال جوهر: «نعم.»
قال سعيد: «ولكن ذلك غير مستطاع لأحد؛ لأن الخليفة عبد الرحمن الناصر أمر أن ينزلوا في الربض خارج المدينة، بمنية الحكم ولي العهد، وأن يمنعوا من مخالطة الناس، وأن يقام الحجاب على أبوابهم حتى لا يخاطبوا أحدا ولا يراهم أحد.»
فقال جوهر: «عجبا! وهل يخشى منهم على دولته؟»
قال سعيد: «كلا، ولكن للملوك سياسة لا تفهمها. هذا الفقيه ابن عبد البر قادم، أعدد له المقعد، وضع له الدواة على المنضدة في غرفة المطالعة.»
ولم يتم سعيد كلامه حتى وصل ابن عبد البر، وهو من كبار الفقهاء في قرطبة، وقد شب في حاشية الحكم ولي العهد، ثم لازم أخاه عبد الله بن الناصر. وكان عبد الله يحب العلماء وأهل الأدب ويكثر من مجالستهم.
وكان ابن عبد البر هذا يتردد على هذه المكتبة مثل كثيرين من الأدباء ومحبي المطالعة. وكانت قرطبة يومئذ في أوج مجدها، واقتناء الكتب فيها من لوازم الرخاء - كما تقدم - بل هي كالأثاث لا يستغنى عنها في بيت من البيوت؛ لأن الخليفة نفسه كان محبا للعلم مقربا للعلماء، وشب أولاده على ذلك، وخاصة الحكم ولي العهد، وأخوه عبد الله، واقتدى بهم سائر أهل الدولة، والناس على دين ملوكهم، فأصبحت تجارة الكتب من أروج التجارات عند الوجهاء وأهل الرياسة، فكثر الوراقون، وهم الذين يشتغلون ببيع الكتب ونسخها.
وكان سعيد صاحب هذه المكتبة قد أنشأها في الربض خارج قرطبة، في بيت على ضفة الوادي الكبير (نهر قرطبة)، فهي تطل على قرطبة عن بعد وبينهما النهر، وقد جعلها أشبه بنادي مطالعة أكثر منه بمستودع كتب، أو دار نسخ، فكان أدباء قرطبة يتوافدون عليها للمطالعة، أو الشراء، أو النسخ، فيلمسون من سعيد استئناسا ولطفا وتساهلا، ويرتاحون لمعاشرته؛ لسعة اطلاعه ودماثة أخلاقه، وكان سعيد كثير الاحتفاء بالناس وخاصة بالفقيه ابن عبد البر، وكان هذا يظن أن احتفاء سعيد به راجع إلى رغبة الانتفاع منه بكتاب يبيعه بواسطته لولي العهد، أو لأخيه عبد الله بن الناصر؛ لأن الفقيه كان معدودا من خاصة عبد الله، وكان هذا مغرما باقتناء الكتب، فإذا سمع بكتاب بذل في سبيله الأموال الطائلة حتى يقتنيه، وكثيرا ما كان يبتاعها من عند سعيد بواسطة ابن عبد البر، ولكن احتفاء سعيد به كان لغرض آخر يبعد عن ذهن الفقيه ابن عبد البر إدراكه.
فلما أطل الفقيه من باب الحديقة، خف سعيد لاستقباله في الدار، ورحب به، فدخل وعلى وجهه أمارات الاستعجال، فتجاهل سعيد ورحب به، وقال: «ما بال الفقيه قد أبطأ علينا اليوم؟ لعله كان في جملة الذين خرجوا لمشاهدة رسل القسطنطينية؟»
فقال الفقيه وهو يخرج يده من جيب جبته، وفيها لفافة من الورق: «كلا، لم أذهب معهم، ولكني شغلت بالمطالعة. هل في مكتبتك كتاب البيان والتبيين للجاحظ؟»
قال سعيد: «نعم، أظنك تشتغل بإعداد خطبة تتلوها في يوم الاحتفال باستقبال هؤلاء الرسل في حضرة الخليفة؟»
فضحك الفقيه ضحكة معجب بنفسه ولم يجب، وظل ماشيا وهو يصلح عمامته، ويخرج منها قلما كان قد غرسه فيها حين قام مسرعا من منزله لمراجعة شيء في كتاب «البيان والتبيين»، ومشى سعيد أمامه حتى وصل إلى مخزن الكتب، وهو غرفة واسعة فيها رفوف مثبتة في الحائط، وعليها الكتب مرتبة حسب موضوعاتها، وأكثرها من كتب الأدب، ولم يكن يتجاسر على إظهار كتب الطبيعيات، والفلسفة؛ لأن أصحابها كانوا متهمين بالكفر، وبدلا من أن يأمر الخادم أن يخرج كتاب «البيان والتبيين» ويقدمه للفقيه، أسرع سعيد بنفسه وأحضره إليه مبالغة في الإكرام، فتناول الفقيه ابن عبد البر الكتاب وجلس على المقعد المعد له وهو يقول: «إن هذا الكتاب عندنا منه عدة نسخ في مكتبة مولانا الأمير عبد الله، ولكنني أردت أن أخلو به هنا بجوارك يا صاحبي.»
فقال سعيد: «إن ذلك من حسن حظي يا مولاي.» وتركه وانصرف إلى ناحية من المنزل تطل على النهر، وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل، فرأي الناس في الزوارق عائدين من استقبال رسل القسطنطينية، وعرف من حديثهم أن الرسل قد وصلوا إلى الربض، ونزلوا في منية الحكم فوقف برهة صامتا واستغرق في تأملاته حتى نسي موقفه، ولم ينتبه حتى ناداه جوهر الخادم، فالتفت إليه، فإذا هو يشير له أن يأتي، فأسرع نحوه وهو يقول والدهشة بادية على وجهه: «إن ياسرا فتى أمير المؤمنين.» وتلعثم لسان جوهر من الدهشة.
الفصل الثالث
ياسر كبير الخصيان
فتعجب سعيد لمجيء ياسر في ذلك اليوم، وكان قد سمع بخروجه، هو وتمام الفتى الآخر، لاستقبال رسل الروم مبالغة في إكرامهم؛ لأن ياسرا، وتماما، كانا كبيري الخصيان في القصر، بما يشبه «الباش آغا» في ذلك العهد، وكان للخصيان في ذلك العهد أيضا سطوة ونفوذ؛ لأنهم أصحاب الخلوة مع الخليفة عبد الرحمن الناصر وحرمه، وبيدهم القصر السلطاني، فإرسال كبيري الخصيان لاستقبال هؤلاء الرسل يعد من المبالغة في الإكرام.
وكان ياسر طويل القامة، أبيض الوجه؛ لأنه من الصقالبة البيض، أزرق العينين، غائرهما، عريض ما بينهما، بارز الوجنات، أجرد الوجه مثل سائر الخصيان.
فاستقبله سعيد ورحب به، فرأي على وجهه انقباضا، فتجاهل وقال له: «أهلا بالأستاذ ياسر!» ودعاه للدخول إلى قاعة المطالعة للاستراحة.
فرد ياسر التحية لسعيد بصوت رفيع كصوت الأطفال مثل أصوات سائر الخصيان، ولم يبتسم كعادته، ولكنه أطاع سعيدا ومشى معه حتى جلس على مقعد قدمه له، فجلس وهو يتلفت، فقال له سعيد: «هل يلزم مولاي شيء من الكتب أو الورق فأحضره؟»
قال ياسر: «لا، ولكنني حسبت الفقيه محمد بن عبد البر دخل هذا المكان!»
قال سعيد: «نعم يا سيدي، وهو يطالع في الغرفة الأخرى. هل أدعوه؟»
قال ياسر: «كلا، دعه في عمله.»
فأراد سعيد أن يعرف ما تنطوي عليه نفسه، فقال له: «ألم تذهب اليوم يا سيدي لاستقبال رسل صاحب القسطنطينية؟»
قال ياسر: «نعم، ذهبت وأنا عائد الآن، وقد وصل القوم إلى الربض، فأقمنا عليهم الحراس حتى يأمر أمير المؤمنين بإحضارهم إليه.» قال ذلك، وفي نفسه شيء يكتمه.
فقال سعيد: «أعتقد أن يوم استقبالهم سيكون حافلا. أين يكون ذلك يا ترى؟»
قال ياسر: «في القصر الزاهر من قصور الخلافة. إنهم يهيئون المكان منذ أيام.»
قال سعيد: «كنت أظن أن أمير المؤمنين يستقبل هؤلاء الرسل في قصر من قصور الزهراء الفخمة؟»
فقال ياسر: «ولكن مولاي الأمير أمر أن يهيئوا القصر الزاهر لهذه الغاية.»
قال سعيد: «إنه سيكون مشهدا جميلا في داخل القصر.»
فأدرك ياسر أن سعيدا يرغب في الحضور، فقال له: «إذا شئت الحضور فادخل في رفقة الفقيه ابن عبد البر فلا يعترضك أحد. وإن كنت أنا في جملة المستقبلين فلا بأس عليك.» قال ذلك وبلع ريقه كأنه يخفي امتعاضا خامره، وكان سعيد يرقب كل حركة تبدو منه، فلما لاحظ استياءه، قال وهو يظهر الدهشة: «وهل هناك شك في أن تكون أنت ضمن المستقبلين؟! لا ريب أنك ستكون في المقدمة.»
فقال ياسر وفي صدره شيء يريد التصريح به ليشفي ما في نفسه من الغيظ، ولكنه أمسك نفسه وقال: «ربما لا أكون هناك.» فضحك سعيد وأظهر أنه لم يصدق كلامه، وقال: «كلا، إنك ستكون في صدر البهو. إني أعرف منزلتك عند أمير المؤمنين.»
فنهض ياسر فجأة ووضع أنامله على فم سعيد، كأنه يتلطف في إسكاته، وابتسم وقال: «كانت تلك المنزلة؛ ولكن ...» وخشي أن يخونه لسانه فيقول ما يندم عليه، فتظاهر بتغيير الحديث، وقال: «إني أري أناسا قادمين إليك، ولا أحب أن يعلم أحد بمجيئي إلى هنا اليوم. أستودعك الله.» قال ياسر ذلك وخرج تاركا سعيدا يفكر في سبب مجيئه، وفيما بدا منه من الألفاظ القليلة العدد، الكبيرة المعنى، وقد أهمه الاطلاع على ما في نفس ياسر.
وبعد قليل أخذ الناس يتوافدون إلى منزل سعيد، وكل منهم يشتغل بشيء من كتابة أو نسخ أو مطالعة، وإذا أرادوا الاستفهام عن أمر صعب عليهم عمدوا إلى سعيد، وهو يرشدهم إلى ما يريدون. وكانوا يعتقدون الصدق فيما يقوله ولو خالف الحد المعقول؛ لأنه كان قوي الحجة، قوي الدليل، وكان في عينيه ما يشبه المغناطيس، إذا تفرس في عيني جليسه تغلب عليه كأنه جذبه بقوة مغناطيسية، فلا يشعر جليسه إلا وهو طوع إرادته.
وكان سعيد الوراق هذا في نحو الأربعين من عمره، صحيح البنية، عريض الكتفين، قوي العضل، كبير الرأس، تتجلي الرزانة في جبينه، والذكاء في عينيه، والثبات حول شفتيه. لا يباحث أحدا من الناس إلا أقنعه، وكان خفيف العارضين واللحية، قلما يضحك، ولكن الابتسام دائما في وجهه. وقد مضى عليه بضع سنين يشتغل بالوراقة في قرطبة، أو تجارة الكتب، ولم يعامله أحد إلا أعجب بأخلاقه العالية وذكائه المفرط، فكان الأدباء من الفقهاء وأهل الدولة يترددون على منزله كما يجتمع الناس في ناد للمطالعة والاستفادة، ولكنه كان يشترط أن يكون ذلك أثناء النهار، فإذا غربت الشمس أغلق منزله.
فلما رأى سعيد أن الناس يتوافدون على مكتبته في ذلك اليوم أمر خادمه بتقديم ما يحتاجون إليه، ولم يكن جوهر خادمه خصيا مثل سائر خدم قرطبة، فإن أهلها قلدوا أميرهم باقتناء الخصيان على اختلاف أجناسهم وكانت كثيرة يومئذ، وكانوا يأتون بهم من أطراف العالم إلى دار الإسلام، وخاصة الأندلس لأنها كانت أكثر الممالك الإسلامية رخاء في ذلك العهد، وإنما كان خادم سعيد بربريا من أهل المغرب في غاية السذاجة.
الفصل الرابع
خازن كتب الحكم
اشتغل الخادم جوهر بتقديم ما يحتاج إليه الناس، وتوجه سعيد إلى الغرفة التي فيها الفقيه ابن عبد البر، فرآه منهمكا في المطالعة يكتب في كراس بيده، وهو يتأمل فيما يكتبه، وقد نزع عمامته واستغرق في التفكير، وبينما هو ينظر إليه، سمع وقع خطوات خلفه، فالتفت فرأى تليدا صاحب مخزن كتب الحكم ولي العهد قادما على عجل - وهو خصي وجيه - فقابله سعيد مرحبا، فرآه يشير إليه بسبابته على شفتيه أن يسكت فسكت، وتقدم تليد حتى أطل على الفقيه ابن عبد البر خلسة، فلما رآه مستغرقا في الكتابة. همس في أذن سعيد: «إن الفقيه يهيئ خطابا ليتلوه بين يدي أمير المؤمنين غدا فينال منصب قاضي القضاة.» قال ذلك وهز رأسه استخفافا، ورجع وهو قابض على يد سعيد حتى دخلا غرفة أخرى والفقيه ابن عبد البر لم ينتبه.
فمشى سعيد مع تليد، وهو ينتظر ما يبدو منه، فإذا به يقول له: «بلغني أن رجلا من بني أمية اسمه أبو الفرج الأصفهاني ألف كتابا في الأغاني. هل سمعت عنه شيئا؟»
قال سعيد: «سمعت أنه يؤلف هذا الكتاب من عهد بعيد، ولا أدري إذا كان قد أتمه الآن أم لا.»
قال تليد: «سمعت أنه أحسن كتاب في الأدب.»
قال سعيد: «نعم، وقد بلغني أنه قضى معظم حياته في جمعه وتأليفه، وهو يغني عن سائر الكتب.»
قال تليد: «بلغ مولاي الحكم خبر هذا الكتاب، وأن مؤلفه أموي مثله، فأحب اقتناءه، وهو يدفع ما تشاء للحصول عليه.»
قال سعيد: «سأبعث في طلبه من العراق؛ لأن صاحبه مقيم هناك.»
قال تليد: «إذا فعلت ذلك لا تذكر خبر مجيئي إليك، ولا خبر هذا الكتاب. هل فهمت؟»
فأجاب سعيد: «نعم.» وقد أدرك أنه يريد أن يخفي ذلك وخاصة عن الفقيه ابن عبد البر؛ لاتصاله بعبد الله شقيق الحكم. وكان عبد الله ينافس أخيه الحكم في اقتناء الكتب، فإذا سبق أحدهما إلى اقتناء كتاب جديد عد ذلك فخرا له.
وودع تليد سعيدا بالإشارة، وهم بالخروج فتبعه سعيد إلى الباب وقال له: «هل كنتم في جملة الخارجين لاستقبال رسل الروم. يا حبذا لو كنت معكم!»
قال تليد: «كلا.»
فقال سعيد: «لو كنت ضمن المستقبلين لما حدث ما أغضب ياسرا.» قال ذلك وهو لا يعرف شيئا عما أغضبه، ولكنه أراد بذلك أن يعرف سر غضبه.
فقال تليد: «هل علمت ما حدث؟ إني أري ياسرا على حق في غضبه؛ لأن تماما مع أنه أقرب عهدا في خدمة القصر، نراه قد شمخ بأنفه عليه ويريد أن يتقدمه في المجالس والاحتفالات، ولكن ياسرا عاقل لا أظنه يحاسبه على هذه الجسارة.» قال ذلك وودعه وهو يقول: «لا تذكر خبر مجيئي لأحد.»
فأدرك سعيد من هذه المحادثة سبب غضب ياسر واستبشر به، وكتمه في نفسه وعاد إلى عمله، ولما اقتربت الشمس من المغيب أخذ الناس في الانصراف، والفقيه ابن عبد البر مستغرق في مطالعته وكتابته، ولم يشأ سعيد أن ينبهه. خرج الجميع ولم يبق هناك غيره، فانتبه الفقيه لنفسه لما غابت الشمس وخيم الظلام، وهم بالنهوض فرأي جوهرا الخادم يحمل إليه سراجا مضيئا وهو يقول: «إن سيدي قد بعث إليك بهذا السراج لتستضيء به، حتى تتم عملك.»
الفصل الخامس
عابدة
فشكر الفقيه له اختصاصه بهذا الإكرام، وظل جالسا يكتب، وقد انتهت الضوضاء، وبينما هو في ذلك، إذ سمع وقع أقدام خارج غرفته، فالتفت فلمح شبحا مر ببالها يكاد أن يكون امرأة حاسرة الوجه جميلة الطلعة، فاستغرب الفقيه ذلك وأنصت لعله يستطلع شيئا، فسمع سعيدا يرحب بالقادم بصيغة التأنيث، فدفعه حب الاطلاع إلى رؤية القادم، فنهض وأطل من الباب وهو يتجاهل، فإذا به يرى فتاة على جانب كبير من الجمال تخاطب سعيدا بلسان فصيح يدل على علم وأدب، وسعيد يقول لها: «أتيت أهلا ووطئت سهلا يا عابدة. لقد طال انتظاري لحضورك.»
فقالت عابدة: «لم يكن تأخري عن عمد، ولكنني شغلت بمطالعة كتاب «العقد الفريد» لابن عبد ربه، ونسخه؛ فإن هذا الرجل قد جمع فيه ما لا مثيل له في سواه من العروض، والشعر، والأخبار، والأمثال، والتاريخ، ناهيك بالفوائد الصحية، والعظات الدينية. وقد نظم أعمال أمير المؤمنين شعرا، وتوفي وهو ينظمها منذ ثماني سنوات (فقد توفي ابن عبد ربه سنة 328ه).» قالت عابدة ذلك وأخرجت من تحت ثيابها صرة كبيرة وقالت: «وهذه هي النسخة التي نسختها.»
فتناولها سعيد منها وهو يقول: «أنت التي نسختها بيدك؟»
قالت عابدة: «نعم، أنا التي نسختها بيدي، وأرجو أن تعجبك.»
فأخذ سعيد يقلب النسخة ويتصفحها وهو يقول: «إن هذا الكتاب نادر المثال. ومع أن صاحبه توفي في هذه المدينة منذ تسعة أعوام فإني لم أجد نسخة منه بمثل هذا الخط وهذا الضبط.» قال سعيد ذلك وهم بالمسير نحو غرفة الفقيه ابن عبد البر وهو يقول: «أظن أن هذه النسخة تليق بمكتبة الأمير عبد الله ابن أمير المؤمنين.»
فلما رأي الفقيه ابن عبد البر أن سعيدا يتقدم نحوه عاد إلى مجلسه، وتظاهر بأنه كان مشتغلا بالكتابة، فلما وصل سعيد إلى الباب قال: «هل يأذن لي الفقيه بالدخول؟»
قال الفقيه: «تفضل، ادخل.»
فدخل سعيد والكتاب بيده، وأشار إلى الفتاة أن تدخل، فدخلت وهي حاسرة الوجه، والذكاء يتجلى في عينيها، فدهش الفقيه لرؤيتها واستغرب كشف وجهها على هذه الصورة، وتوسم لأول وهلة أن تكون نصرانية أو يهودية؛ لأن اليهود كانوا يعنون بالأدب العربي، والتفت إلى سعيد وهو ينتظر ما يبدو منه، فإذا هو يقدم له الكتاب ويقول: «جاءتني هذه الأديبة بهذا الكتاب مكتوبا بخط يدها، وهو كتاب «العقد الفريد» لابن عبد ربه، وأظن أن في مكتبة مولانا الأمير عبد الله عدة نسخ مثله!»
فتناول الفقيه الكتاب وهو ضخم، وأخذ يقلبه على ضوء السراج ويعجب بجمال خطه وضبطه، وقال: «نعم، فيها منه عدة نسخ، ولكن لا شبيه بينها لهذه النسخة، وأظن أن مولانا الأمير يرغب في اقتنائها إذا أرادت هذه الحسناء بيعها، وهل هذا هو خط يدها؟» ورفع بصره إليها.
قال سعيد: «نعم، وهل تستغرب ذلك؟ فكيف إذا عرفت أنها تعي هذا الكتاب وعشرات مثله في ذهنها، فلا تسألها عن شعر جاهلي أو إسلامي إلا ذكرته.»
فقال الفقيه: «ما شاء الله. إن ذلك نادر بين النساء.»
فقال سعيد: «هذا إلى أنها تحسن الغناء والعزف على العود.»
فدهش الفقيه وجلس يفكر فيما سمعه، وقال: «وأغرب من ذلك أنها نصرانية، أو يهودية على ما أظن!»
قال سعيد: «كلا، بل هي مسلمة.»
قال الفقيه: «ولكني أراها سافرة الوجه! وأضن بهذا الجمال أن تبتذله العيون.»
فالتفت سعيد إلى الفتاة كأنه يطلب إليها أن تجيب عن نفسها، فقالت بألفاظ رخيمة لها وقع على النفس أشد من وقع معانيها: «لا أرى مبررا لتغطية الوجه إلا ضعف النفس، وإني على رأي عائشة بنت طلحة؛ فقد كانت تجالس الرجال، ولا تحجب وجهها عنهم، ولما سئلت عن ذلك قالت: إن الله تبارك وتعالى وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضله عليهم، فما كنت لأستره، ووالله ما بي وصمة يستطيع أن يذكرني بها أحد.»
فلما سمع الفقيه كلام الفتاة زادت دهشته، والتفت إلى سعيد وقال هامسا: «من هي؟»
فقالت عابدة بألفاظ رخيمة لها وقع على النفس أشد من وقع معانيها: لا أرى مبررا لتغطية الوجه إلا ضعف النفس، وإني على رأي عائشة بنت طلحة.
قال سعيد: «هي جارية من مولدات بغداد.»
فهز الفقيه رأسه إعجابا وقال: «لله در بغدادكم وما يخرج منها! إن مثل هذه الجارية جديرة بأن تكون في دور الخلفاء أو الأمراء.»
فقطع سعيد كلام الفقيه قائلا: «ألا تظن أن مولانا الأمير يحب اقتناء هذه النسخة من كتاب العقد الفريد؟» وأشار سعيد إلى الكتاب بيده.
ففهم الفقيه أن سعيدا لا يحب أن يذكر خبر اقتناء الجارية بين يديها، فأجابه: «لا شك في ذلك، فإذا قدمته إليه بعد الفراغ من الاحتفال القادم أخذه وأكرمك، وأنا أذكر له خبرك قبل مجيئك، وإذا رأيت أن تأخذ هذه الفتاة معك ليراها ويسمع حديثها كان ذلك باعثا على رضاه وسروره.»
قال سعيد: «سأفعل، والآن متى يكون الاحتفال باستقبال رسل القسطنطينية؟»
قال الفقيه: «أظنه لا يكون قبل بضعة عشر يوما على عادة أمير المؤمنين، من تأجيل المقابلة زيادة في الإرهاب.»
قال سعيد: «إني شديد الرغبة في حضور هذا الاحتفال.»
قال الفقيه: «سأصحبك معي، ومتى حان الوقت أخبرتك وذهبنا معا.»
فشكر له سعيد وهم بالخروج، فقال الفقيه: «قد آن لي أن أنصرف، فأذن لي إذا شئت.»
قال سعيد: «لك الخيار يا سيدي، ولا بأس عندي من بقائك هنا في عملك، وإذا أردت كتبا أخرى غير «البيان والتبيين» قدمته مع السرور. وهذا كتاب «العقد الفريد» بين يديك، ولعله يفيدك فيما تحتاج إليه في خطبتك من المشاهد التاريخية، أو الأمثال. تفضل، اجلس.»
فشكر الفقيه ابن عبد البر لسعيد احتفاءه، وقال: «يكفي ما قرأته الآن.»
قال سعيد: «أظن خطبتك ستكون جامعة واعية، وأرجو أن تستفيد منها، فإذا استفدت عاد ذلك بالنفع على أصحابك، ولكن لا أدري إذا كنت تعدني من الأصحاب، أم لا؟»
فخجل الفقيه ابن عبد البر من هذا المديح، وقال: «إنك من أعز الأصدقاء يا سعيد. وإذا وفقني الله وظفرت بالمنصب الذي أتوقعه بعد هذا الاحتفال، رأيت مني ما يرضيك، فادع لي.»
قال سعيد: «إني أدعو لك بكل خير، وأراك أهلا لأكبر المناصب العلمية، فمن أولى منك برئاسة القضاة أو الخطباء؟!»
الفصل السادس
عتاب
فتظاهر الفقيه ابن عبد البر بالتواضع، وأسرع فوضع أوراقه في جيبه وخرج، فشيعه سعيد إلى الباب، ثم أمر خادمه جوهرا أن يغلق الباب وراءه، فلما سمع إغلاق الباب تنهد طويلا وعاد إلى الجارية، فإذا هي لا تزال واقفة في انتظاره، فلما استقبلها نظرت إليه بعينين براقتين تكادان تنطقان وقالت: «هل تأذن لي بالانصراف؟»
فأشار إليها سعيد أن تجلس، وتلفت حوله حتى يتحقق من خلو المكان من الرقباء، فجلست عابدة على وسادة في غرفة ليس فيها غير بساط ومناضد صغيرة لوضع الأقلام، أو الكتب، أو أدوات الكتابة، وسراج قائم على مسرجة يخفق لهبه فيتطاير سناجه في تلك الغرفة همسا، كما تتصاعد زفرات عابدة ولا يشعر بها سعيد أو لعله يشعر ويتجاهل.
فلما جلست عابدة جلس سعيد أمامها وكانت تنظر إليه، فلما وقع بصرها على بصره بادرت إلى الإطراق لأنها لا تطيق التفرس في عينيه لحظة، فإذا فعلت أحست كأن سهاما تخترق بصرها إلى أحشائها، أو أن تيارا كهربائيا يسري في جسمها، فتنتفض له جوارحها، ولم يكن سعيد يجهل ذلك، ولكن مطلبه غير مطلبها، فلما أطرقت عابدة، قال لها: «ما بالك لا تنظرين إلي يا عابدة؟»
قالت عابدة: «ألم تعلم أني لا أستطيع التطلع في عينيك؟!»
قال سعيد: «كنت أظن أنك تفعلين ذلك حياء!»
قالت عابدة: «لم يبق ثمة باعث على الحياء بيننا، وقد أطلعتك على خفايا قلبي وتفاهمنا مليا.»
قال سعيد: «يسرني أنك فهمت مرادي وذهب سوء الظن.»
قالت عابدة: «نعم فهمت، ولكن يظهر لي أن هذا الانتظار لا حد له، وأنت قابع ببيع الكتب ونسخها ومقابلة الناس والعمل على راحتهم.» قالت ذلك وأبرقت عيناها وظهر الارتباك على شفتيها كأنها تخفي شيئا تريد أن يفهمه سعيد دون أن تقوله.
أما سعيد فأحس بحدة ذلك التصريح فتغيرت سحنته، وقال: «لست وراقا، ولا ناسخا كما تعلمين، وإنما أنا ...» والتفت حوله خشية أن يسمعه أحد، وسكت وهو يصر على أسنانه.
فقالت عابدة: «لا تغضب يا سعيد، ولا تحسبني أعاتبك، ولكني أستبطئ النجاح. إن زهرة عمرنا كادت تنقضي في هذه الديار مختبئين.»
فرفع سعيد بصره إليها وقال: «يعجبني فيك حماستك في سبيل الأمر الذي جئنا من أجله إلى هذه الديار، ولا تظني أنني أجهل قصدك؛ فأنا أعلم أنك أرفع نفسا من أن يكون طلبك مني مثل مطلب سائر النساء الجاهلات، وقد تعاقدنا وتعاهدنا على ذلك. وأما استبطاؤك النجاح، فقد تكونين محقة فيه، وقد تكونين مخطئة، فالأمور مرهونة بأوقاتها. وهل تحسبينني غافلا؟! ولكن اعلمي يا عابدة أن الساعة دنت وفتح باب الفرج الآن، وأصبح إتمام العمل عليك.» قال ذلك وتفرس في وجهها.
فتحمست عابدة وقالت: «علي أنا! إني رهن إشارتك يا سعيد، وإذا كان قضاء الأمر متوقفا علي، فاعتبر أنه انقضى.»
فأعجب سعيد بهذا القول الدال على قوة العزيمة والحزم، وقال: «هل تطيعينني؟» فتنهدت عابدة وقالت: «وهل أستطيع أن أعصاك يا سعيد؟! لست أعلم ماذا في عينيك يؤثر على خاطري. إن بصري لا يكاد يتركز على بصرك حتى أشعر كأنك غلبتني على أمري وربطت إرادتي بإرادتك، وأحس كأنني جزء منك، خضع لإرادتك أنت ويعصاني أنا، فكيف تسألني إذا كنت أطيعك!» قالت عابدة ذلك وأطرقت حياء.
فقال سعيد: «هل تطيعينني حتى الموت؟»
قالت عابدة: «حتى الموت، وبعده.»
قال سعيد: «لا أعني أن تعرضي نفسك للموت. بل أعني إذا اقتضت الحال أن تقتلي أحدا بيدك، هل تفعلين؟»
قالت عابدة: «إذا كان ذلك في استطاعتي فعلته.» قالت ذلك وقد أحست بقشعريرة خفيفة وسكتت.
فتحفز للوقوف وهو يقول: «إني ذاهب الآن إلى الاجتماع.»
فتنهدت عابدة وقالت: «ألا يزال القوم يجتمعون كالعادة؟»
قال سعيد: «نعم، وهم يزدادون عددا وقوة حتى دخل في جمعيتنا هذه كل رؤساء القبائل الناقمة على عبد الرحمن الناصر، وفيهم آل حصفون الذين غلبهم على أمرهم، وجماعات كتامة، وغيرهم من البربر، وإنما نحن ننتهز الفرص.»
قالت عابدة: «وهل يعتقدون حتى الآن أنهم يجتمعون لإصلاح حال بلادهم.»
قال سعيد: «إن المفهوم من أغراض هذه الجمعية عند أعضائها أنها تشكو من تفضيل عبد الرحمن الناصر للخصيان الصقالبة على أبناء العرب أو غيرهم من الأحرار، وتنتقد بذخه وإسرافه، هذا كل ما يفهمونه من الأغراض، وليس في هذه البلاد من يفهم حقيقة الغرض الأصلي إلا أنا وأنت، فاجعليه في طي الكتمان.»
فأطرقت عابدة لحظة، وقد بدا الاهتمام على جبينها، وقالت: «دعني أذهب معك يا سعيد.»
قال سعيد: «ولماذا؟»
قالت عابدة: «أفعل كما تفعلون؛ لعلي أستحث القوم على العمل.»
قال سعيد: «أحسنت. هيا بنا» ونهض سعيد، ونهضت عابدة معه، وقد التفت بردائها، فأمسك سعيد بيدها وخرج من باب آخر في المنزل، وسارا في الظلام وعابدة لا ترى شيئا، ولو سار بها سعيد إلى الجحيم وهو قابض على يدها لسارت ولم تبال؛ لأنها أسيرة إرادته، مثلها في ذلك كمن يخضع للتنويم المغناطيسي.
سارا مدة بين صعود وهبوط، وقد بعدا عن الأبنية حتى وقف بها سعيد في مكان سمعت فيه أنين ساقية وخرير ماء فقال لها: «وصلنا يا عابدة.»
الفصل السابع
الاجتماع
فنظرت عابدة إلى ما حولها، فرأت بين يديها ماء يجري في نهر. عرفت ذلك من لمعان سطحه في الظلام، فقالت: «نحن على ضفة الوادي الكبير، نهر قرطبة!»
قال سعيد: «اصبري»، وأخذ بيدها وأدخلها دهليزا شديد الظلام بجانب الساقية، فتلمسا الحائط حتى أطلا على باب، فأخرج سعيد من جيبه مفتاحا فتحه به ودخل، وأغلقه خلفه، وعابدة تحدق بعينيها من شدة الظلام، فإذا هي ترى شعاعا ضعيفا ما زال يشتد حتى ظهر، فرأت نفسها عند باب مغلق، فتقدم سعيد وقرعه قرعا خاصا ففتح له، ونظر إلى عابدة على شعاع النور، فرأى سحنتها قد تغيرت لشدة القلق في أثناء الطريق، فأشار إليها أن ترخي النقاب ففعلت، ودخل أمامها، ثم أمرها أن تدخل، ومشى بها إلى مجلس في صدر القاعة فأجلسها على وسادة إلى جانبه، وتفرست في الوجوه فرأت شيوخا وشبانا عرفت بعضهم، ورأت أناسا بينهم من رجال الدولة المروانية أنفسهم، فتهيبت برهة، ثم سمعت سعيدا يتكلم فقال: «يا قوم، نحن الآن في جلسة مقدسة، وقد أتيت بهذه الأديبة من أهل دعوتنا؛ لتعلموا أن النساء يشاركننا في النقمة على الحالة الحاضرة، فإلى متى نحن صابرون؟»
فنهض رجل من الحاضرين وهو في عنفوان الشباب، وقال: «نحن صابرون لصبرك. قم بنا فإننا قائمون.»
قال سعيد: «صدقت، ولكنني لا أرى العجلة تنفع. إن الأمر الذي نحن ساعون فيه يحتاج إلى إعمال الفكر؛ نحن ساعون إلى المطالبة بحق ضائع. إن هذا الرجل الذي سمى نفسه خليفة، وتلقب بأمير المؤمنين، وقد استبد بالأحكام وأخرج من المناصب أهلها، وسلمها إلى جماعة من الخصيان والعبيد حملوا إليه حمل الأغنام من أقصى الشمال، فاشتراهم كما يشتري الماشية، ثم اختصهم بقربه وأغفل أهله وأبناء عشيرته، ولم يبق إلا أن يولي القضاء فتى من فتيانه الصقالبة أو الإفرنج. إنه ينفق الأموال في بناء القصور وإقامة التماثيل، ويصنع حجارة البناء من ذهب، وقد نهى الله عن ذلك. إن الذين فعلوا هذا من قبله أضاعوا الدولة والمملكة، فتبصروا في أمركم.»
فنهضت عابدة والنقاب لا يزال على وجهها وقالت: «إني فتاة لا أعلم علمكم، ولكنني أعلم أن طول الصبر عجز، وأن المبادرة حزم. إن عبد الرحمن صاحب هذا البلد قد أفرط في الإسراف، وحط من قدر العرب وغيرهم من المسلمين الذين هم أصل هذا الدين وعماده؛ فعهد بأكثر مناصب الدولة إلى الخصيان والعبيد، واستكثر من هؤلاء حتى غصت بهم قصوره، وشيد قصر الزهراء على اسم جاريته، وملأه بالخصيان والجواري والعبيد. إن في هذا القصر وحده ثلاثة عشر ألف وسبعمائة وخمسين فتى من الخصيان، وفيه من الصبيان الصقالبة ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسون صبيا، وعدد النساء الصغار والكبار فيه ستة آلاف وثلاثمائة وأربع عشرة امرأة. ما فائدة الدولة من هؤلاء وهو ينفق عليهم ألوف ألوف الدنانير من مالها؟! أتعلمون كم مقدار ما ينفقه؟ إن إحصاءها فوق طاقتي، ولكنني أذكر لكم مقدار ما ينفق لإطعام أسماك إحدى بحيرات الزهراء. علمت أن مقدار ذلك في اليوم اثنا عشر ألف خبزة، وستة أقفزة من الحمص. تلك هي نفقة طعام أسماك إحدى البحيرات، فكم يكون مقدار ما ينفق على سائر حيوانات تلك القصور من الخيل، والأسود، والكلاب! بل كم تبلغ نفقات أولئك الألوف من الخصيان والعبيد! والبلية الكبرى من كثرة النساء؛ لأن كثرتهن تكثر الخصيان. هل فيكم من يستطيع أن يعرف كم يتكلفن؟ كلا، ولكنكم تعرفون جميعا أنها تكاليف باهظة.»
كانت عابدة تقول ذلك بصوتها الرخيم، فلما وصلت إلى هنا بلعت ريقها، وسكتت برهة، ثم عادت إلى الكلام، فقالت: «وهؤلاء الخصيان المجلوبون بالشراء أصبحوا الآن كبار رجال الدولة؛ كصاحب الخيل، وصاحب الطراز، وقد اتخذ منهم جنده وحاشيته ، وجالسهم وقربهم وأصبح إذا أراد أن يكرم وافدا، بعث منهم خصيا يستقبله، كما فعل اليوم بإنفاذه ياسرا وتماما لاستقبال رسل ملك القسطنطينية. وقد اتخذ من العبيد أيضا جندا وحاشية، وأهمل العرب والبربر الذين فتحوا هذا البلد وجاهدوا في سبيل الإسلام. إن أعماله هذه دليل على قرب سقوط هذه الدولة، ولا يغرنكم ما تسمعون به من الذهب، ولا ما تشاهدونه من أسباب الرخاء والترف، فقد كان مثل ذلك أو أكثر منه في الدولة العباسية على عهد الرشيد والمأمون، ولكنهم أهملوا أهل عصبتهم، واعتمدوا على الأتراك يحاربون بهم، فأصبح النفوذ للأتراك، وهو مصير الخصيان هنا إن لم تبادروا بمنعه. ويكفي لفتاة مثلي أن تقول ذلك، وإذا رأيتم أني أستطيع عملا فكلفوني به، والسلام.»
وكانت عابدة تتكلم والحاضرون ينصتون كأن على رءوسهم الطير، وقد أحسوا بإهمالهم، فنهض منهم شاب متحمس وقال: «إني أفدي الأمة بنفسي، فانتدبوني للقتل أو الفتك. إن أهلي وعشيرتي يعدون بالمئات، وهذا دمي بين أيديكم.»
وتلاه صائح بمثل قوله، وعلت الضوضاء، فوقف سعيد وقال: «لا داعي بنا إلى العجلة، سأخبركم بالوقت المناسب. لكنني أرغب إليكم أن تجعلوا نصب أعينكم أن هذه الدولة لا بأس من بقائها، وإنما العيب في أميرها، ولا نرى ولي العهد إلا مثله؛ فإن أقرب المقربين إليه خصي صقلبي هو جعفر، فإذا صارت الخلافة إليه هل يرجى منه غير ما نراه من أبيه؟ لقد أعمى عبد الرحمن الناصر أبصار الناس بالأبهة والزخارف. أعمى أبصار الناس بالقصور التي بناها لجاريته. وابنه الحكم سيكون مثله، ولا بد من النظر لمن يصلح للخلافة سواهما. على أني أشكر لهذه الفتاة التي أتتنا وبثت فينا روح الهمة والنشاط، وهي نفسها سيكون لها شأن في هذا العمل الجليل.»
وبعد قليل انفضت الجلسة، وقد أقسم كل منهم على كتمان الأمر والثبات، وعاد سعيد ومعه عابدة من حيث أتيا، حتى إذا وصل إلى منزله قال لها: «لقد أعجبتني؛ لأنك لم تذكري دولة العبيديين، ولم تقولي شيئا عن الشيعة؛ لئلا يرتابوا في أمرنا.»
فقالت عابدة: «ألم أقل لك إني أشعر كأني عضو من أعضائك، فلا أقول سوى ما توحيه إلي، ويكفي أنك تريد ذلك وإن لم تصرح به. والآن، هل تسمح لي بالانصراف؟»
قال سعيد: «موعد لقائنا يوم ذهابنا إلى الأمير عبد الله نقدم له كتاب «العقد الفريد»، وسوف أبعث إليك بالخبر في حينه.»
فحركت عابدة رأسها إيجابا، وابتسمت وانصرفت وهي تلتفت إليه، وكان خادمها الخصي في انتظارها في الخارج ليسير في خدمتها إلى منزلها.
الفصل الثامن
المناجاة
انصرفت عابدة وسعيد يشيعها ببصره، ثم وقف برهة وهو غارق في بحار الهواجس ينظر إلى الأرض، تارة يحك ذقنه بسبابته، وتارة أخرى يتشاغل بإصلاح قبعة كان يلبسها على رأسه. والخادم واقف وبيده المصباح ينتظر أمره، ولا يجسر على أن يخاطبه تهيبا مما كان يبدو على وجهه من مظاهر الاهتمام والارتباك. ثم انتبه سعيد لنفسه وسار إلى غرفة النوم، وأشار إلى الخادم أن يضع المصباح هناك وينصرف.
ثم نهض سعيد، وأغلق باب الغرفة واستلقى على فراشه، ولم يبدل شيئا من ثيابه، كأنه لا ينوي النوم في تلك الساعة لما قام في خاطره من الذكريات. وظل مستلقيا برهة وهو غارق في التفكير، ثم جلس فجأة، وأخذ يناجي نفسه قائلا: «ماذا أفعل؟ إنها تحبني كثيرا، ولكنني لا أشعر أني أحبها، بل لا أستطيع أن أحبها؛ مع أنها جميلة وذكية و... لماذا لا أحبها ويستريح قلبي من التفكير في سواها!» وضرب جبينه بكفه وصر على أسنانه، ونهض وأخذ يمشي في الغرفة، ثم وقف وقال: «مسكينة عابدة! إنها جميلة، وأديبة، وذكية، وهي تحبني، بل هي تهيم بي وتتفانى في سبيل رضاي، فلماذا لا أحبها! لماذا لا أحبها وأنزع صورة تلك القاسية القلب، الشامخة الأنف من ذهني! نعم، ينبغي لي أن أبغض هذه وأرذلها وأطرد طيفها من ذهني. آه! إني إذا فعلت ذلك فأنا سعيد البطل الحازم، وأكون أهلا للأمر الذي يحسبني هؤلاء القوم أسعى إليه، وأني إنما قمت هنا لنصرة المظلومين، ولدفع الظلم عن المظلومين. نعم، ينبغي أن يكون هذا غرضي الوحيد. نعم ، إذا طردت ذلك الخيال من ذهني؛ خيال تلك المتكبرة القاسية، إذا نزعتها من فكري وأحببت عابدة، إذا فعلت ذلك يرتاح قلبي وأتفرغ للعمل العظيم الذي يتوقعه الناس مني. نعم، هكذا يجب أن أعمل. هكذا يجب أن يكون سعيد القائد الحكيم الحازم.»
قال سعيد ذلك وأخذ يخلع ثيابه، فخلع الفراجية وعلقها على وتد في الحائط، ثم نزع قبعته من على رأسه ودار وهو لا يدري أين يضعها لاضطراب ذهنه، فرمي بها إلى الأرض، وأطفأ المصباح، واستلقى، فعادت إليه هواجسه، وهجره النوم، وتراكمت عليه الخيالات، فوضع الغطاء فوق رأسه كأنه يختبئ من هذه الخيالات فلم يرها إلا تزداد، وازداد انتباهه حتى سمع دقات قلبه بأذنيه. فصبر حتى أخذته سنة من النوم برهة، فرأي حلما أزعجه، فوثب من فراشه كالمجنون وهو يقول: «لا لا، يجب أن أحب عابدة التي تكاد تعبدني، وأنزع تلك الصورة من ذهني، وإلا فما أنا سعيد كما يسمونني. ما بالي لا أشعر أني أستطيع ذلك! ما هذا الخيال الذي يتردد أمام عيني! اذهب عني، دعني وشأني، إني قد عزمت على السلوان، كيف لا! إني أشعر بقوة أزيح بها الجبال، وأغالب أعقل الناس وأدهاهم، فكيف لا أستطيع امتلاك قلبي؟ ماذا أرى؟ هذا خيالها.» وأطبق كفيه على عينيه، كأن أمامه شبحا لا يريد أن يراه وقال: «اذهبي عني، دعيني وشأني، قد آن لي أن أرجع إلى رشدي، وقد بلغت الأربعين من عمري، فيجب أن أنسى عواطف أبناء العشرين والثلاثين. نعم، يجب أن أنساها لأنها نسيتني وتعلقت بسواي. تعلقت بسواي؟ إذن هي احتقرتني فيجب أن أنتقم منها. انتقم منها؟ لا، لا، لعلها معذورة، وإذا رأتني تتذكر الماضي وتعود إلي! هل يكون ذلك! وا فرحتاه! إني أراها تبتسم لي وتهم بمعانقتي. آه! ما أجمل رضاها! إنه ينسيني عابدة وسائر العباد. هل يجود علي الزمان بذلك! نعم، لا بد أن يجود. سأجعله يجود رغم أنفه. سأضحي بكل شيء في سبيل الوصول إلى تلك الحبيبة، فإما أن أنالها أو أنتقم منها ومن ...» وسكت لأنه سمع حركة فتوهم أن عابدة قادمة نحوه، فوقف، والظلام حالك، وهو يتوقع أن يسمع قرع الباب فلم يسمعه، فعلم أنه واهم، ولكنه عاد إلى تذكر عابدة فقال: «عابدة المسكينة! هل أهملها؟ لا، بل أجعلها سعيدة مع سواي. أو ... ولكن بعد أن تخدمني في تحقيق غرضي.»
الفصل التاسع
السحر والتنجيم
قضى سعيد معظم الليل في أمثال هذه الهواجس، ولم ينم إلا عند الفجر بعد أن تعب وخارت قواه، وأصبح في اليوم التالي فعاد إلى عمله، وشغل عن هواجسه بمقابلة الزائرين، وهو على أحر من الجمر في انتظار يوم الاحتفال، وقد أخذ في التفكير والتدبير لينتفع من الاجتماع في ذلك اليوم.
وأتته عابدة في أثناء الانتظار تتذرع إلى رؤيته بالسؤال عن وقت الاحتفال، فأجابها بأنه لا يزال يترقب معرفة الموعد، فمكثت عنده حينا تتشاغل باطلاعها على الكتب وهو يبدي سروره برؤيتها، وفي ذهنه تردد لم يظهره لها؛ لأنه كان قوى الإرادة، كبير المطامع، لا يبالي بما يقف في طريقه نحو هدفه، ولا بما قد يرتكبه في ذلك السبيل من الكبائر، فانتهز فرصة اجتماعه بعابدة في أثناء تلك الفترة لتهيئة المعدات التي ينوي إعدادها لتحقيق غرضه، وهي توافقه ولا ترى غير ما يراه، وفي جملة تلك المعدات كتاب قديم أخرجه من خزانة وأخذ يقلب صفحاته، وفيها رسوم وأشكال أشبه بالطلاسم، وهي لا تزداد بذلك إلا تعلقا به وانقيادا له، حتى صارت تعتقد أنه يستطيع كل شيء.
وبينما هما في ذلك أنبأهما جوهر الخادم بمجيء الفقيه ابن عبد البر، فخف سعيد لاستقباله، فلما دخل ورأي عابدة فرح بها، ووافق وجودها غرضا جاء من أجله، فحياها وسلم عليها سلام من يعرفها، فردت عابدة التحية بأدب وحشمة زادتها رفعة في عينيه، فوجه كلامه إلى سعيد قائلا: «أظن أنني أتيت في وقت غير مناسب!»
فأظهر سعيد سروره وقال: «بالعكس يا سيدي، فقد جئت وقت الحاجة إليك.»
فنظر الفقيه إلى الكتاب الذي بين يدي سعيد وقال: «لعلك عثرت على كتاب جديد!»
قال سعيد: «كلا يا مولاي. إن هذا الكتاب قديم .» وجعل يقلب فيه، فوقع بصر الفقيه على رسوم وأشكال اعتاد أن يرى مثلها في كتب السحر، فقال: «وساحر أيضا! إنك رجل نادر المثال.»
فقال سعيد: «لا تستغرب شيئا أيها الفقيه؛ فإن الإنسان إذا جد وجد، ولا أراني أعرض شيئا لا يستطيعه سواي، وعلى كل حال فليس لي ما للفقيه من العلم الواسع في الفقه وأصوله، وهو الخطيب المفوه.»
فقطع الفقيه ابن عبد البر كلامه بطريقه يوهمه بها أن شيئا خطر له في تلك اللحظة، ولم يكن في ذهنه من قبل، مع أنه جاء من أجله، فقال: «ليس لي شيء من ذلك، وقد ذكرتني أمر الخطاب.»
فأدرك سعيد ما في نفس الفقيه فسبقه إلى القول: «إنما قلت ما قلته تمهيدا لسماع خطابك. هل أتممته؟»
فمد الفقيه ابن عبد البر يده إلى جيب قفطانه، وأخرج منديلا فيه لفافة ففضها وهو يقول: «هذا هو الخطاب، ولم يأت كما كنت أحب، ولكن لا بأس به.»
فأومأ سعيد إلى عابدة، فقالت للفقيه: «لا أظن أننا نستحق أن نسمعه قبل مولانا أمير المؤمنين!»
فقال الفقيه وقد أثر قولها فيه: «كيف لا؟ إذا شئت تلوته عليك، ولكنني لا أراه أهلا لإعجاب أديبة مثلك.»
فابتسمت عابدة وأشارت إلى الفقيه أن يقرأ إذا شاء، فقال: «أتلوه عليكما على سبيل التجربة، وإذا بدا لكما انتقاد فنبهاني إليه.»
فأشار سعيد بعينيه وشفتيه أن الفقيه أكبر من أن يكون موضع نقد ضعاف مثلهما، ثم أصلح الفقيه موقفه، وأخذ يتلو الخطاب كما يتلى في حضرة الخليفة، وسعيد وعابدة صامتان مصغيان يبديان الإعجاب عند بعض المواقف، وهو يجود، وما أتى الفقيه على آخر الخطاب حتى امتلأ إعجابا بنفسه، وسعيد وعابدة يطنبان ويعجبان حتى قال سعيد: «إن هذا الخطاب إذا قدره أمير المؤمنين حق قدره جعلك قاضي القضاة أو شيخ أهل الفتوى.»
فحنى الفقيه رأسه تواضعا، وهو في الحقيقة يعتقد في نفسه أضعاف ما سمعه، ولكنه خاطب سعيدا قائلا: «إن ذلك يرجع إلى التوفيق، فإذا وفقت إلى ساعة سعيدة وآزرتني بدعائك نجحت إن شاء الله ، ولكن هذا كتاب «الطوالع» بيدك فأخبرني عما سيكون من حظي بعد تلاوة الخطاب.»
فقال سعيد وهو يفتح الكتاب: «إن ذلك يتوقف على اليوم الذي سيقام فيه الاحتفال؛ إذ إن لكل يوم طالعا، قد يوافق نجمك وقد لا يوافقه. هل تعرف متى يكون الاحتفال؟»
قال الفقيه: «حددوا له يوم السبت القادم الموافق 11 ربيع الأول.»
فأخذ سعيد يقلب صفحات الكتاب ويقرأ، ثم يعيد القراءة، ويعيد التقليب، وقد ظهرت البغتة في عينيه وهو يقول: «هل أنت متأكد من أن الاحتفال سيكون يوم السبت؟ لعلك أخطأت!» فاختلج قلب الفقيه في صدره خوفا، وقال: «لعل ذلك اليوم لا يوافق طالعي؟»
قال سعيد: «لا أعني ذلك، ولكنني أحب أن أعرف الذين سيحضرون ذلك الحفل، فإن الطالع يتغير بتغير الجواذب والدوافع من الطوالع الأخرى.» ثم وصل إلى صحيفة وقف عندها طويلا، وقال: «إن طالعك إذا استقل لا خوف عليه في أي يوم كان، أما إذا زاحمه طالع آخر أرى صفته في هذا الكتاب، وكان ذلك في يوم السبت، فقد يصيبه ضرر، ولكن ذلك غير مؤكد، فتوكل على الله، واعلم أنك أحسنهم جميعا، وإنما أرغب إليك متى أحرزت ذلك المنصب الرفيع أن لا تنسى صاحبك سعيدا.»
فأقلق الفقيه ذلك الارتياب، ولكنه اطمأن للعبارة الأخيرة، فضحك وهز رأسه استخفافا، ولسان حاله يقول: «كيف أنساك؟!» وزاد ذهنه تعلقا بالظفر بهذا المنصب.
وبينما هم في ذلك، إذ دخل ياسر كبير فتيان عبد الرحمن الناصر، وكان قد أكثر من التردد على سعيد بعد مقابلته الأخيرة، وأفضى إليه بأمور زاد فرحه بها وزادت الروابط بينهما سرا، ورفعت الكلفة؛ ولكن سعيدا تظاهر أمام الفقيه بالاحتفاء بياسر، وبالغ في احترامه وإكرامه، وأحضر له مقعدا ليجلس عليه، والفقيه ابن عبد البر لا يزال قابضا على اللفافة، فهم بوضعها في جيبه، وأخذ في السلام على ياسر، فآنس منه حفاوة وإكراما فوق العادة، فاستأنس به، فقال سعيد لياسر: «هل يرغب الأستاذ في خدمة أقوم بها؟»
قال ياسر: «كلا، ولكنني تذكرت سؤالك عن موعد الاحتفال باستقبال رسل القسطنطينية لأنك ترغب في حضوره، وكنت قد جئت على بغلتي إلى هذه الجهة لغرض لي، فرأيت أن أمر بك وأخبرك أن الاحتفال سيكون يوم السبت القادم، وقد سرني أني لقيت الفقيه ابن عبد البر هنا لأوصيه بمرافقتك إلى القصر الزاهر حيث يكون الاحتفال.»
قال سعيد: «أشكرك يا سيدي على هذه العناية.» والتفت إلى الفقيه وسأله عن موضع اللقاء، فقال: «نلتقي في المسجد بقرب باب الجنان المطل على الرصيف فوق الوادي الكبير، وهو أقرب أبواب القصر إلينا على ما أعتقد.»
قال سعيد: «حسنا، سأوافيك إلى هناك صباح يوم السبت القادم إن شاء الله.»
وهم ياسر بالانصراف، فاستوقفه الفقيه بقوله: «هل كنت تعرف قبل الآن أن سعيدا له دراية بعلم التنجيم والطوالع؟»
قال ياسر: «وأعرف غير ذلك أنه طبيب وكيميائي.»
فبغت الفقيه لقول ياسر وهز رأسه وقال: «وكيميائي أيضا! إنه حقا لعبقري.»
وكانت عابدة في أثناء ذلك الوقت مشغولة بكتاب في يدها تقلب صفحاته، وكلما سمعت مديحا في سعيد اختلج قلبها فرحا به، وتنهدت تنهدا عميقا.
وانتبه الفقيه لها في تلك اللحظة، فقال لياسر: «وهل عرفت هذه الفتاة الأديبة؟ لا أظن أن في قصور أمير المؤمنين فتاة في مثل أدبها وعقلها.»
فالتفت ياسر إلى الفتاة وقد خجلت من ذلك الإطراء، وعلت وجهها حمرة الخجل وأبرقت عيناها، فقال: «هل تعرف الشعر والأدب؟»
قال سعيد: «نعم يا سيدي. إنها تحفظ كثيرا من أشعار العرب وأمثالهم وأخبارهم.»
قال ياسر: «ليس يوجد بين نساء قصر أمير المؤمنين من تحفظ الشعر إلا الزهراء؛ ولذلك فإنها أقرب جواريه إليه كما تعلمون؛ لأن مولانا عبد الرحمن الناصر كثير الشغف بالأدب وأهله، على أن معرفتها قليلة بجانب ما تذكره عن هذه الفتاة.»
فندم الفقيه ابن عبد البر على توجيه نظر ياسر إلى عابدة؛ مخافة أن يسعى في أخذها إلى الخليفة، وهو يحب أن تكون للأمير عبد الله فيكون له حظ من أدبها، فغير الحديث واستأذن في الانصراف على موعد اللقاء يوم السبت التالي، وبعد قليل انصرف ياسر بعد أن ودع سعيدا وقد تفاهما.
الفصل العاشر
الاحتفال
وأخذ أهل قرطبة يتأهبون لاستقبال رسل ملك القسطنطينية في البناء المعروف بالقصر الزاهر، أحد أبنية القصر الكبير؛ لأن هذا القصر كان مؤلفا من عدة قصور كما تقدم، وهو يقع في الطرف الغربي من قرطبة، يطل على الوادي الكبير، وهو نهرها الذي يجري من الشرق الشمالي إلى الغرب الجنوبي، والقصر يشغل مساحة كبيرة تتخللها البساتين والحدائق، والأحواض، والبرك، والبحيرات، والقصور ونحوها، ويحيط بها جميعا سور له بضعة أبواب: منها بابان في الجنوب يطلان على النهر، هما باب الجنان والسطح، وواحد في الشمال اسمه باب قورية، وآخر في الشرق هو باب الجامع، والأخير في الغرب ويقال له باب الوادي، والاثنان الأولان يشرفان على النهر، وبينه وبينهما رصيف عريض يفصل قرطبة عن النهر، يخرج إليه الوجهاء وأهل الدولة للتنزه بقرب الوادي الكبير (النهر).
وفوق النهر جسر فخم (كوبري) يصل بين قرطبة وأرباضها الجنوبية طوله ثمانمائة ذراع، وعرضه عشرون ذراعا، وارتفاعه ستون ذراعا، وعدد قناطره ثماني عشرة قنطرة، وفوقه أبراج عددها تسعة عشر برجا، وهو يعد من مفاخر قرطبة، ولا يزال حتى الآن من آثارها الفخمة.
وكان منزل سعيد في الأرباض الجنوبية، ولا بد له في ذهابه إلى القصر من العبور على ذلك الجسر، فلما كان اليوم المحدد، لبس ملابس فاخرة، كي يسترعي انتباه أهل قرطبة، وبها شبه من ملابس العلماء والأطباء مع فخامة وإتقان، ولا سيما العمامة الكبيرة، مع أن أهل الأندلس قلما كانت لهم عناية بالعمائم، وغرس في عمامته قلم الكتابة وتمنطق فوق القفطان بمنطقة من جلد غرس فيها دواة من الفضة، واكتحل بالإثمد اكتحالا كثيفا، وركب بغلته وساقها يطلب باب الجنان من أبواب القصر، وسار خادمه في ركابه، وكان ركوب البغال في الأندلس من دلائل الجاه والثروة، فقطع سعيد مسافة وهو يطلب الجسر، فعرف قربه من في ذلك الوادي خمسة آلاف رحى
1
تطحن الحنطة وغيرها، وجميعها تدور بقوة اندفاع الماء.
وبعد قليل أشرف سعيد على الجسر، فرأى الأقدام قد تزاحمت فيه؛ لكثرة الوافدين على القصر، أو على الرصيف لمشاهدة الاحتفال بأولئك الرسل، ورأى ما على الجسر من الأبراج في الجانبين، وبين البرج والآخر ثمانون ذراعا، وعليها الأعلام منصوبة تخفق مع الريح، فقطع الجسر بين الجماهير، والشمس لم تتكبد السماء بعد، فوصل إلى الرصيف وقد تجمهر فيه الناس رجالا ونساء وأطفالا، بين راكب وماش، وواقف على طول الرصيف وخاصة بقرب الجسر؛ لأن الرسل سيمرون عليهم أثناء انتقالهم إلى منزل ولي العهد في الربض بعدوة قرطبة إلى القصر الكبير، وقد تفرق الجند في الطرقات لمنع الزحام وخاصة على الجسر.
فظل سعيد سائقا بغلته في محاذاة الرصيف إلى الجامع، فلم يجد الفقيه ابن عبد البر هناك، ولكنه وجد خادما صقلبيا واقفا في انتظاره، فلما رأي سعيدا قال له: «إن مولانا الفقيه سبقك إلى السطح المشرف فوق الباب خلف هذا الجامع، ويرجوك أن تذهب إلى هناك لتشرف من ذلك السطح على النهر والجسر، والرصيف والقصر جميعا.»
فساق سعيد بغلته إلى ذلك الباب، وعليه سطح مشرف لا مثيل له في العالم،
2
فتحول وترك البغلة للخادم وصعد إلى السطح من سلم بجانب الباب، فرأي الفقيه جالسا في انتظاره، فوقف له ورحب به، وقال: «أظنني أتعبتك بالمجيء إلى هنا، ولكنني أعلم أنك تسر بهذا المنظر الجميل.»
فوقف سعيد إلى جانبه وتلفت إلى ما يشرف عليه، فإذا هو يرى النهر وفيه الزوارق من جهة الجنوب، وفوق الجسر، وعليه الأعلام تخفق فوق الأبراج، وقد تزاحم الناس واحتكت مناكبهم، وبينهم العربي، والصقلبي، والبربري، والمستعرب (وهو في اصطلاحهم الإسباني الذي يتكلم اللغة العربية) من الرجال، والنساء، والأطفال، يتخللهم الباعة بالأطباق على رءوسهم، وفيهم من يحمل طعاما أو فاكهة أو ياميشا، والسقاة يحملون جرار الماء على ظهورهم، ينادون: «يا عطشان، سبيل.» وبين هذه الجموع من الناس رجال الجند، تتشابه ملابسهم، وفيهم الصقالبة البيض والرحالة العبيد، وقد رتبوا صفوفا حسب رتبهم وأجناسهم، فوقف صف من العبيد يلبسون الجواشن والأقبية البيضاء، وعلى رءوسهم الخوذات الصقلبية، وفي أيديهم التراس الملونة على طول الجسر إلى باب الجنان من أبواب القصر، يتخللهم فرسان منهم .
الفصل الحادي عشر
القصور
وأومأ الفقيه إلى سعيد أن يلتفت نحو الشمال الغربي؛ ليرى أبنية القصر وبساتينه، فرأى ما بهره من القصور المختلفة الأشكال، وبينها الحدائق والبساتين، تتخللها البرك والبحيرات والأحواض المصنوعة من الرخام المنقوش، وعليها تماثيل من الرخام أو الفضة على أشكال مختلفة، يجري ماؤها من أنابيب، بعضها كأفواه الحيوانات، أكثرها من الرخام، وبعضها من الفضة والبعض الآخر من الذهب، تتلألأ عن بعد في أشعة الشمس، وبعض الأحواض عليها التماثيل من النحاس المموه على أشكال جميلة، والماء ينساب من جوانبها فيتلون رشاشه بألوان قوس القزح، فانبهر سعيد من تلك المناظر لأنه لم تسبق له رؤيتها من ذلك السطح المشرف فقال: «في الحقيقة إن الخليفة عبد الرحمن الناصر قد أبدع في بناء هذا القصر وإتقانه، وأغرب ما فيه هذه الأحواض المنقوشة وعليها التماثيل، يتفجر الماء من جوانبها أو رءوسها أو أفواهها. هل هو ماء النهر حمل إليها؟»
فضحك الفقيه وقال: «ماء النهر؟! وهل يصعد الماء من هذا الوادي إلى هذه القصور؟ إنه ماء مجلوب من هذه الجبال العالية على أبعاد شاسعة، وقد أنفقوا في سبيل جلبه ما لا يقدر من الأموال. يكفي أن تتصور جلب هذا الماء من تلك الجبال إلى هذه القصور في قنوات من الرصاص، فكم حفروا من صخور، وبنوا من سدود لكي يجري الماء بانتظام في الأنابيب! ثم تصور توزيع الماء بعد وصوله إلى هذه القصور والبحيرات والبرك والصهاريج، حتى يتدفق من تماثيل الفضة، أو الرخام، أو النحاس المموه، وبعضه يجري من أنابيب الذهب، غير ما أنفق في نقش هذه التماثيل الرخامية فوق الأحواض!»
كان الفقيه ابن عبد البر يتكلم، وسعيد مطرق يفكر، حتى فرغ الرجل من كلامه، فقال له: «لا يدهشني مقدار ما أنفق من الأموال مثلما يدهشني صنعه لهذه التماثيل، فهل أفتيتم له بعملها، وهي محرمة على ما أعلم؟»
فهز الفقيه رأسه وقال: «ومن الذي أفتى له؟! إنه هو الذي أفتى لنفسه.»
ثم استوقفهما صوت النفير، فالتفتا نحو الجسر، فرأيا الناس يتسابقون نحوه لمشاهدة أولئك الرسل، وقد أقبلوا على جيادهم وعليهم الملابس المذهبة تتألق في أشعة الشمس فوق السروج المفضضة، وقد أحاطت بهم كوكبة من الوصفاء من شباب الصقالبة، عليهم الدروع السابغة، والسيوف المزينة، وقد امتطوا جيادا عليها اللجم المحلاة بالذهب، وقد بالغ عبد الرحمن الناصر في إظهار الأبهة والعظمة إرهابا للأعداء.
فأراد سعيد أن ينزل من السطح، فقال له الفقيه: «إلى أين؟ إن الطريق مكتظ بالناس، ولا سبيل لنا في الذهاب إلى القصر الآن، فالأفضل أن نمكث هنا ريثما يمر الركب ثم ندركه على عجل، أو نسبقه من طريق قصير أعرفه. انظر إلى ما أراده أمير المؤمنين من الإرهاب بحشد خيرة رجاله في طريق أولئك الرسل! إن رجالته العبيد واقفون على الجسر صفوفا، وهذه كوكبة من الفتيان الأصاغر تحيط بالرسل. ألا ترى هؤلاء الروم قد أحنوا رءوسهم خوفا ورهبة! انظر إلى باب الجنان، وكم نصب عليه من الأعلام! وكم وقف بجانبيه من الفرسان وعليهم الملابس الثمينة! وهؤلاء ذوو الأسنان من الفتيان الصقالبة قد لبسوا البياض وبأيديهم السيوف، ووراءهم - ابتداء من هذا الباب حتى الباب الثاني من أبواب القصر - صف من الرماة وقد تنكبوا قسيهم وجعابهم، وإذا أمعنت النظر في الوقوف بالباب الثاني وما وراءه، رأيت طائفة أخرى من الصقالبة الأكابر في ملابس أثمن وأبهج، ولا ريب عندي أن أولئك الرومان قد دهشوا من هذه المناظر. وسترى أغرب من ذلك متى ذهبت إلى القصر، ورأيت ما أعدوه هناك من الرياش والأثاث، ومظاهر الملك وأبهة الدولة.»
قال سعيد: «أخشى أن يبدأ الاحتفال قبل وصولنا فيذهب سعينا هباء؟»
فهز الفقيه رأسه استخفافا وقال: «لا يبدءون قبل وصول الخطباء، ومع ذلك فإني آخذك من طريق قصير نصل منه إلى القصر قبل وصول الناس إليه.»
قال سعيد: «افعل، إذا شئت.»
فتحول الفقيه ومعه سعيد، فلما صار في الطريق، أشار إلى سعيد أن يترك بغلته ويسير معه ماشيا لأن ذلك أسهل عليهما، فأشار سعيد إلى جوهر خادمه أن يحتفظ بالبغلة، ومشى مع الفقيه، فسار به في البساتين بين الأشجار والرياحين ، وقد سره المشي هناك بدلا من الركوب، ليتمكن من رؤية كل شيء، وقد وقف طويلا عند بعض الأحواض الرخامية يتأمل انسياب الماء من جوانبها، أو من أواسطها في الأنابيب المختلفة الأشكال والألوان، وحولها البستانيون يتعهدونها بالإصلاح والري والتنظيم. ولاحظ الفقيه إعجاب سعيد بما يشاهده هناك، فقال له: «أراك يا سعيد قد دهشت مما تراه في هذا القصر من البذخ! فكيف إذا دخلت قصر الزهراء ورأيت أبهاءها وقاعاتها وحدائقها وقبابها! كيف إذا رأيت القبة التي صنعت قراميدها من الذهب!»
فقال سعيد: «قراميدها من الذهب؟! إني أستغرب ذلك من أمير المؤمنين بعد أن عهدت إليه الخلافة، فصار نائبا عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهو الناهي عن اتخاذ ذلك!» فأومأ إليه الفقيه بسبابته على شفته السفلى أن: «دع هذا الكلام الآن.»
الفصل الثاني عشر
القصر الزاهر
وظل سعيد والفقيه يتنقلان من بستان إلى بستان، ومن حديقة قصر إلى حديقة قصر آخر وقد سبقا الموكب، حتى أطلا على القصر الزاهر، وهو من أجمل أبنية القصر الكبير، فانتبه سعيد على الخصوص لواجهته، فرأي عليها نقوشا كالوشم على المعصم في أشكال جميلة، بين أقواس منحوتة على أشكال هندسية عربية، تتخللها الأبواب من أسفل، وهي في غاية ما يكون من إتقان النقش، ويزينها في الطبقة العليا النوافذ والأحنية والقناطر كالرواق القائم على أساطين الرخام، وعلى تيجانها نقوش وكتابة، وفوق التيجان الأقواس قد قطعت سقوفها مربعات متداخلة ورسمت فيها الآيات والدعوات حفرا أو تصويرا، وعلى أفاريز النوافذ أبيات من الشعر مذهبة، والأفاريز من الشكل المقرنص، وتنتهي تلك الطبقة بطنف بارز هو امتداد السطح إلى الخارج، وعليه نقوش في غاية الجمال، وحول النوافذ زجاج ملون مصنوع على أشكال هندسية في أجمل زينة.
لم يستطع سعيد التفرس في ذلك البناء طويلا لما رآه ببابه من الحرس وقوفا، وهم من خاصة الفتيان الأكابر والمقدمين. عليهم الملابس المحلاة بالقصب، وعلى أكتافهم الظهائر المذهبة، وعلى رءوسهم قلنسوات هرمية الشكل، يزينها الطراز المذهب، وقد تقلدوا السيوف المذهبة وهم نخبة الرجال قامة وجمالا وهيبة ، مما يلفت الأنظار، فتهيب سعيد من تلك العظمة، ولم يكن يتصور أبهة الملك تبلغ إلى هذا الحد، فقال في نفسه: «كيف يكون إذن البهو الداخلي الذي أعدوه لاستقبال الرسل؟!» ولم يستطع دخول القصر إلا بعد أن رأى الحرس رفيقه الفقيه ابن عبد البر، وتحققوا أنه من حاشية الأمير عبد الله وصنيعة الحكم، فدخل وتبعه سعيد، فمشيا في طرقات بين الأشجار مفروشة بالأزهار والرياحين، حتى بلغا الباب الخارجي وقد فرش من عتبته حتى الدهليز وصحن الدار، وهو البهو الخارجي، بأنفس البسط وأندر الأرائك، وظللت أبواب الدار وحناياها بظلل الديباج وأثمن الستائر.
وصعد سعيد ورفيقه من ذلك الصحن على بضع درجات من الرخام المذهب إلى بهو واسع، قد نقش سقفه وأفاريزه بالذهب والألوان الزاهية، أكثرها الأحمر، والأزرق، والأصفر، وقد جللت جدرانه بالديباج، وفرشت أرضه بالسجاد الثمين، ونصبت المقاعد والكراسي في جوانب البهو على حسب الرتب والمناصب.
وفي صدر البهو سرير الخليفة من الذهب مرصع بالزمرد والياقوت، فوقه قبة فيها نقوش وأبيات على أبدع تصوير، وقد فاحت رائحة العنبر من مبخرة مذهبة نصبت في بعض جوانب البهو، ولم يؤذن بدخولهما هذا المجلس؛ لأن الخليفة لم يكن قد وصل بعد، فوقفا حائرين وسعيد يتفرس في كل شيء، ويعمل فكره في كل شيء. ثم لاحت منه التفاتة فرأى ياسرا ينظر إليه، فأشار سعيد أنه يريد الدخول فتقدم ياسر وقال له: «لا يجوز الدخول قبل مجيء الخليفة، ولكن لا بأس من دخولكما خلسة من باب سري، فتجلسان في مكان لا يراكما فيه أحد، ومتي انتظم عقد المدعوين، تجلسان في هذا المكان مع جماعة الفقهاء.» وأشار لهما إلى المكان.
فسر سعيد لهذه الفرصة، ودخل ومعه الفقيه ابن عبد البر، حتى وقفا وراء أحد الأعمدة في آخر البهو، بحيث يريان كل قادم، ولا يراهما أحد.
ولم تمض برهة حتى سمعا لغطا ورأيا الخصيان في حركة، فعلم الفقيه ابن عبد البر أن الخليفة عبد الرحمن الناصر قادم، فتهيب وظهرت الدهشة على وجهه، فأدرك سعيد ذلك، فالتفت إليه وقال : «أظن أن مولانا أمير المؤمنين قادم؟» فأومأ الفقيه ابن عبد البر برأسه أن: «نعم.»
ثم رأياه مقبلا وقد تزيا بزي الخلفاء، فنظر سعيد إلى الفقيه كأنه يستفسره، فقال له بصوت خافت: «لو دخلت على أمير المؤمنين منذ بضع عشرة سنة لرأيت ملابسه تختلف عنها الآن، ولم تر هذا القضيب بيده، فإنه قضيب الخلافة، ولم يكن خليفة إلا منذ ذلك الحين؛ ولذلك تراه الآن يلبس العمامة المرصعة بالجواهر ويحمل القضيب بيده، وهذه بردته مثل بردة سائر الخلفاء، لكنه جعلها بيضاء تشبها بملابس أقربائه بني أمية بالشام، وترى تحت البردة قباء من الوشي، وهي من ملابس الأمويين في أيام دولتهم بالشام.»
كان الفقيه ابن عبد البر يتكلم بصوت منخفض يحذر أن يسمعه أحد؛ لخلو القاعة من الناس وهدوء المكان، وسعيد شاخص ببصره إلى عبد الرحمن الناصر يتبين ملامحه ويستطلع فراسته، فرآه أبيض اللون مشربا بحمرة، أزرق العينين، وعلى محياه هيبة وقوة، وقد مشى وبيده قضيب الخلافة، والجلال يتجلى في جبينه والذكاء ينبعث من عينيه، وقد وخطه الشيب، وشغل سعيد على الخصوص بما على عمامته من الجواهر، والتفت نحو الفقيه فرآه يبالغ في الانزواء خوفا من وقوع بصر الخليفة عليه، فقال له: «إن أمير المؤمنين فوق ما كنت أتصور، ويظهر لي مع أن والدته أمة نصرانية أن هيبة الخلفاء لم تنقص شيئا.»
الفصل الثالث عشر
استقبال الرسل
فقال الفقيه ابن عبد البر لسعيد: «لا أظنك تجهل أن أكثر الخلفاء في الدولتين، الأموية والعباسية، أمهاتهم من الإماء، وبعضهن من الجواري. أما أم مولانا عبد الرحمن الناصر فهي نصرانية جميلة، وكان اسمها مرية.»
1
وفي أثناء هذا الحديث كان الخليفة قد جلس على السرير في صدر البهو فوق عرش مرتفع، ووقف بين يديه جماعة من كبار الفتيان يتلقون أوامره، وعليهم ملابس تأخذ بالبصر، لما فيها من الطراز المذهب، والألوان الزاهية، وسعيد لا يرفع بصره عن عبد الرحمن الناصر، وقد شغله أمره كثيرا.
فرآه ينظر إلى باب البهو ويبتسم ويشير برأسه مرحبا، فالتفت سعيد فرأي الحكم ولي العهد داخلا وعليه ملابس فاخرة ونضارة الشباب تتجلى على وجهه، وقد فاحت منه رائحة المسك، ومن رآه يعرف أنه ولي العهد؛ لأنه كان يلبس القلنسوة الخاصة بذلك، فلما اقترب من أبيه استدعاه وأجلسه إلى يمينه وهو يبتسم له.
ثم دخل ابنه الثاني الأمير عبد الله، وكان البهو قد تكاثر فيه الناس، فلم يعد الفقيه يخشى أن يسمع صوته، فلما دخل الأمير عبد الله، لفت نظر سعيد إليه وقال: «هذا مولانا الأمير عبد الله كيف تراه؟»
قال سعيد: «أراه أحسنهم جميعا. إني أرى التقوى ظاهرة على وجهه، وأظنهم لو خيروه في ملبسه لاختار الجبة والعمامة العادية، وكان في غنى عن هذه الملابس الفاخرة بما يزينه من الخصال الحميدة.»
فقال الفقيه: «لقد أصبت بفراستك يا سعيد كبد الحقيقة، إن الأمير عبد الله يفعل ذلك في منزله، فإنه من الزهد والتقوى على جانب عظيم، حتى تكاد لا تجد عنده من الخصيان أحدا، وهو على غير رأي والده؛ ولذلك سموه الزاهد، وله شعر جيد.»
2
فقطع سعيد كلامه قائلا: «هذا هو الرجل المطلوب. إنه إذا تولى الخلافة أعادها إلى رونقها من الأدران الخارجية.»
فهمس الفقيه في أذن سعيد: «دعنا من هذا الآن.»
وجاء بعد عبد الله إخوته؛ عبد العزيز، فالأصبع، فمروان. ثم أشار الخليفة إلى الخصيان الأكابر الموكلين باستقبال الناس، وإدخالهم إلى مجالسهم - وفي جملتهم ياسر - أن يدخلوا سائر بني مروان، فدخل المنذر، ثم عبد الجبار، ثم سليمان، فجلسوا عن يسار الخليفة. ثم دخل الوزراء فجلسوا يمينا ويسارا، وأخيرا دخل الفقهاء فاندس الفقيه ابن عبد البر وسعيد في جملتهم وجلسوا في أماكنهم المخصصة لهم.
ودخل الشعراء فاحتلوا أماكنهم، واصطف الحجاب من أهل الجندية من أبناء الوزراء، والموالي، والوكلاء، وغيرهم، وقوفا في أطراف البهو وراء جدار قصير يفصل البهو عن شبه الرواق حوله. فكان من ذلك منظر يتهيب له الشجاع، وقد زاده هيبة سكوت الناس، حتى الخليفة وأولاده.
وجاء ياسر بعد قليل فوقف بحيث يعلم الخليفة إذا وقف هناك أن عنده أمرا يريد عرضه عليه، فاستقدمه فقال له: «إن الرسل في البهو الخارجي، فهل يأمر مولاي بإدخالهم؟»
فقال الخليفة: «أدخلهم.»
فعاد ياسر، وقد علم الحاضرون أن الرسل قادمون، فاتجهت الأبصار نحو الباب، وإذا بياسر قد عاد ثم تنحى فتقدم الرسل خاشعين؛ وهم بضعة رجال يرأسهم واحد منهم، وقد ارتدوا ملابس كبار الروم، فتقدم الرئيس، وكان يرتدي القلنسوة والبرنس فخلعهما قبل دخوله، فتناولهما أحد الخدم، وفعل مثل ذلك زملاؤه من الرسل.
فمشوا أولا بين صفين من الجند في البهو الخارجي، حتى انتهوا إلى البهو الداخلي، فحالما وقع بصرهم على سرير الخليفة خروا سجدا لحظة، ثم نهضوا ومشوا بضع خطوات وعادوا إلى السجود. فعلوا ذلك مرارا إلا رجلا منهم كان خلفهم، وكان يحمل جعبة من الديباج على كفيه باحترام، فاكتفى بإحناء رأسه، ولما اقتربوا من سرير الخليفة تنحى الوفد إلا رئيسه، فتقدم وهوى على يد الخليفة يقبلها، فمنعه الناصر من ذلك، وأشار إليه أن يجلس هو ورفاقه على وسائد من الديباج مطرزة بالذهب، أعدت لهم على بعد عشرة أذرع من السرير تقريبا
3
فجلسوا، إلا حامل الجعبة.
الفصل الرابع عشر
الهدية
وبعد برهة أذن لهم الخليفة بالكلام، وكان يخاطبهم عن طريق التراجمة، فنهض رئيس الوفد وتقدم إلى سرير الخليفة باحترام، وقدم له تلك الجعبة بعد أن تناولها من حاملها، فأشار الخليفة إلى من يفتحها، ففتحها أحد الخصيان فوجد داخلها درجا من الفضة عليه غطاء من الذهب، قد نقشت عليه صورة قسطنطين الملك مصنوعة من الزجاج الملون البديع، ففتح الدرج فوجد فيها كتابا من ورق مصبوغ بلون سماوي مكتوبا بالذهب بالخط الإغريقي (اليوناني)، هو كتاب صاحب القسطنطينية (قسطنطين بن ليون) إليه، وداخل هذا الكتاب مدرجة (رسالة) مصبوغة أيضا ومكتوبة بالفضة بالحروف اليونانية.
1
فتناول الخليفة الكتابين وأخذ يقلب فيهما، فوجد على الكتاب الأول طابع ذهب وزنه أربعة مثاقيل، على الوجه الواحد منه صورة السيد المسيح، وعلى الآخر صورة قسطنطين الملك، وصورة ولده، وأما المدرجة ففيها وصف هدية قسطنطين للخليفة عبد الرحمن الناصر التي كان أرسلها مع الوفد وعددها.
وكانت أنظار الجالسين متجهة إلى ما يتضمنه ذلك الكتاب، فأشار الخليفة إلى من يترجمه، فقرءوا العنوان على ظاهره ما ترجمته: «قسطنطين ورومانين المؤمنان بالسيد المسيح، الملكان العظيمان، ملكا الروم» في سطر ثم: «العظيم الاستحقاق والفخر، الشريف النسب، عبد الرحمن الخليفة الحاكم على العرب بالأندلس، أطال الله بقاءه» في سطر آخر، فأمر الخليفة من يتولى الاحتفاظ بالكتاب ويستلم الهدية، فاستوقف انتباهه منها اسم كتاب فرح به أكثر من سائر الهدية، وهو كتاب «الحشائش» تأليف ديسقوريدس العالم النباتي المشهور، فأمر الخليفة بإحضار الكتاب للاطلاع عليه، فأتوه به، فإذا هو مكتوب بالخط الإغريقي، وقد صورت فيه الحشائش كلها بالتصوير الرومي العجيب. وجاء مع هذا الكتاب أيضا كتاب هروشيوس صاحب القصص، وهو تاريخ للروم فيه أخبار العصور، وقصص الملوك باللغة اللاتينية، وكان في جملة ما كتبه إليه:
2 «إن كتاب ديسقوريدس لا تجتنى فائدته إلا برجل يحسن فهم اللغة اليونانية، ويعرف طبيعة هذه الحشائش، فإن كان في بلدك هذا الرجل فزت أيها الملك بفائدة الكتاب. وأما كتاب هروشيوس فعندك في بلدك من اللطينيين من يقرؤه باللغة اللطينية، وإن عرضته عليهم نقلوه من اللطينية إلى اللغة العربية.»
فلما أطلع عبد الرحمن الناصر على ذلك الكتاب انبسطت نفسه، وسر سرورا عظيما بتلك الهدية، واعتز بسلطته ومقامه. وكان سعيد في أثناء اشتغال الخليفة بمشاهدة الهدية يحدث جاره الفقيه ابن عبد البر، ولما كاد الخليفة أن يفرغ من مشاهدة الهدية، آنس سعيد اضطرابا على وجه الفقيه، فعلم أنه يتهيب من الوقوف للخطابة، وهم بسؤاله فسبقه الفقيه إلى السؤال قائلا: «ها نحن في المجلس، ولا يلبث الخليفة أن يدعوني للخطابة، فما رأيك هل أنجح؟ استطلع لي الطالع.» فأخرج سعيد الكتاب من جيبه خلسة وفتحه، وأخذ يقلب فيه وينظر إلى الحاضرين حوله، ويعيد النظر في الكتاب، والفقيه ابن عبد البر ينتظر ما يقوله، ولما طال سكوت سعيد شغل بال الفقيه وارتبك في أمره خشية أن يسمع ما يغضبه، وبينما هو في ذلك الاضطراب، إذ سمع صوتا يناديه من صدر البهو عرف أنه صوت الحكم ولي العهد يقول: «يسمعنا الفقيه محمد بن عبد البر الكسيباني كلمة في وصف هذا المجلس الحافل.»
وكان الخليفة هو الذي طلب إلى ولي العهد أن يختار من يرى من الفقهاء أهلا للخطابة قبل أن يتقدم الشعراء للنشيد، فاختار ابن عبد البر لأنه كان صنيعته، وكان يدعي القدرة على إجادة الكلام إجادة ليست في وسع غيره، فلما سمع ابن عبد البر ذلك النداء أجفل وزاد ارتباكه وذهب الخطاب من ذهنه، لكنه وقف وقد امتقع لونه وأخذت لحيته ترقص في وجهه، وشفتاه ترتجفان، وزادته أبهة المقام وجلا، فأرتج عليه، ولم يهتد إلى كلمة يقولها، فغلبه الخجل والقنوط فأغمي عليه وسقط إلى الأرض، فهرع إليه سعيد وظل يعنى به حتى أفاق، فأجلسه وأخذ يخفف عنه.
ونهض في أثناء ذلك إسماعيل القالي صاحب الأمالي، وكان حاضرا فخطب، وخطب أيضا منذر بن سعيد أحد الفقهاء فأجاد كثيرا، وأدى ذلك إلى توليه القضاء بعد حين. ثم أنشد الشعراء قصائدهم إلى أن انفض الاحتفال وتفرق الناس، ومضى كل منهم إلى سبيله.
الفصل الخامس عشر
تغيير
أما سعيد فشارك رفيقه الفقيه في أسفه إلى أن قال له: «والله إني كنت خائفا من هذا الفشل من قبل؛ ولذلك رأيتني ارتبكت في الجواب حين سألتني عن الطالع.»
فقال الفقيه: «لا أدري ما الذي أنساني الخطاب كأني لم أخط منه حرفا، ولعل ذلك من سوء الطالع. أظن أن وجود القالي أفسد علي طالعي.»
قال سعيد: «لا، بل هو منذر بن سعيد. يا لله! إنما الدنيا حظوظ وطوالع! أيرتج على الفقيه ابن عبد البر ويفلح المنذر بن سعيد!» قال ذلك بنغمة الأسف وهز رأسه وعمد إلى أن يتمم غرضه، فأظهر أسفه الشديد على ما اتفق للفقيه ابن عبد البر وقال: «والأمر الذي ساءني على الخصوص ...» وسكت.
فابتدره الفقيه قائلا: «لا بد أن يكون قد ساءك ارتباكي مع اعتقادك الأكيد أني أستطيع الكلام، وقد سمعت خطابي وأعجبت به.»
فقطع سعيد كلامه قائلا: «إن ارتباكك ساءني طبعا، ولكن هناك أمرا آخر أغضبني. دعنا من ذلك الآن.»
فازداد الفقيه رغبة في الاستطلاع، فقال: «وما ذلك؟ قل.»
قال سعيد: «ساءني أني سمعت ولي العهد، ولكن أخشى أن أكون مخطئا.»
فقال الفقيه: «لا، لا، قل ما سمعته.»
قال سعيد: أظنني سمعته يقول حين رآك وقعت مغشيا عليك ووقف منذر بن سعيد وخطب ما خطبه، سمعت ولي العهد يقول: «هذا صاحبها والأولى بها، وليس الكسيباني، فلا أدري ماذا يعني؟»
فقال الفقيه: «ألا تدري وأنت تستطلع الغيب؟! أظنك تخشى غضبي! قل ولا تخش شيئا.»
قال سعيد: «أظنه يعني منصة القضاء.»
قال الفقيه: «قد أصبت، وسينال هذا المنصب المنذر، بورك له فيه.»
فقال سعيد وهو يضحك: «لك أسوة بالأمير عبد الله العالم الزاهد. ألم تكن الخلافة أولى به؟!»
فأحس الفقيه ابن عبد البر من تلك الساعة بنقمة على الحكم، رغم ما كان غارقا فيه من نعمة، فإن فشله وفوز زميله منذر بن سعيد هاج حسده وأعماه عن الحقيقة، وزاده غرورا بنفسه، فعزا إخفاقه إلى تصادم الطوالع، وكان لقول سعيد تأثير كبير على اعتقاده، فتوهم أنه مظلوم وأن الحكم هو السبب في ظلمه، فأحس بالنقمة عليه. ولم يكن سعيد غافلا عما جال في ذهن الفقيه وهو الذي أثار كامن حقده وهاج عاطفة الحسد فيه على المنذر، والنقمة على الحكم، فلما لمح إلى أفضلية عبد الله في الظفر بالخلافة على أخيه الحكم، نظر إلى الفقيه فاستشف من ملامحه استعدادا للاقتناع، ولكن الخوف منعه من التصريح، فابتدره قائلا بصوت ضعيف لئلا يسمعه أحد سواه: «لعلي تجاوزت في قولي إلى أبعد مما يسمح به، ولكنني قلت ذلك مدفوعا بالانتصار للحق. وأنا وراق أبيع الكتب وأعرف ما يقتنيه ولي العهد منها، لكن ما شأني به!» قال ذلك وأظهر أنه يريد أن يفترق عنه.
فتوسم الفقيه ابن عبد البر من ذلك التلميح شيئا يهمه الاطلاع عليه، فعمد إلى استدراج سعيد كي يكشف له عن ذلك السر، فقال: «مهما يكن من اطلاعك على ذلك فإني أعلم منك به، وأنا كما تعلم قد عاشرت الحكم طويلا.»
قال سعيد : «مهما عاشرته فإنك لا تعرف عنه ما أعرفه أنا؛ فإنه يستحي أن يعرف الناس - وخاصة الفقهاء - أنه يطالع الفلسفة، فتضعف ثقتهم بدينه.»
فبغت الفقيه وقال: «يطالع كتب الفلاسفة؟! نعوذ بالله من خليفة فيلسوف! إن الخلفاء يقاومون الفلاسفة ويضطهدونهم خوفا على عقائد الناس، فكيف يكون الخليفة نفسه من أهلها؟!»
فتجاهل سعيد ما كان من أثر ذلك الخبر في نفس الفقيه، وأظهر أنه قد آن له أن يفارقه، وكان الفقيه أكثر رغبة في الفراق لأمر خطر له، يريد أن يسعى إليه.
وكانا قد خرجا من القصر وسارا حتى وصلا إلى باب السطح حيث تركا البغلتين، فقال الفقيه: «سنفترق الآن. لا تحزن يا صاحبي، إن الزمان يدور، وسوف يعلم الحكم وأبوه ...» وسكت، وتظاهر سعيد بالتجاهل، وقال: «متي أتقدم بكتاب «العقد الفريد» إلى الأمير عبد الله؟»
قال الفقيه: «بعد يومين. هل تعرف منزله؟»
قال سعيد: «أين هو؟»
قال الفقيه: «في قصر مروان خارج قرطبة بالأرباض.»
قال سعيد: «عرفته. أستودعك الله.»
قال الفقيه: «سنتكلم فيما بعد. لا تنس أن تحضر معك عابدة لأني كلمت الأمير بشأنها، وهو يريد أن يراها.»
قال سعيد: «سمعا وطاعة.» وركب بغلته وتوجه إلى منزله.
الفصل السادس عشر
الفقيه في طريقه
فارق الفقيه ابن عبد البر صاحبه سعيدا، وهو يتمنى لو طال الحديث بينهما في مسألة الأمير عبد الله؛ لأنه رأى في الطعن على الحكم وأبيه شفاء لما تولاه من الخجل في ذلك الاحتفال. وكان قد نشأ في بيئة تميل إلى التعصب للتقاليد القديمة ورفض كل جديد، فرأى في انتقاد عبد الرحمن الناصر لاقتنائه الخصيان والتوسع في البذخ والترف بابا للنقمة عليه، ولكنه كان غاضبا على الحكم، فلما سمع ما قاله سعيد من حبه للفلسفة، أباح لنفسه التشهير به، ولم يشأ أن يتأكد من صحة الخبر خشية أن يكون كاذبا فيضعف عزمه عن تحقيق ما يسعى إليه.
ظل الفقيه غارقا في مثل هذه الهواجس معظم الطريق، وهو لا ينتبه لبغلته كيف تسير، ولا إلى أين تتجه، ولولا الخادم الذي كان يقودها ، أو ينبه المارة لمسيرها لعثرت أو تاهت، وخاصة على الجسر؛ لأنه كان غاصا بالناس بعد فراغهم من مشاهدة الاحتفال، ولما قطع الجسر قل الازدحام، وما زال الفقيه راكبا حتى اقترب من قصر مروان، وهو منزل الأمير عبد الله، ولم ينتبه إلا وهو بالقرب منه، فاستوقف بغلته وأشار إلى الخادم أن يحول زمامها نحو منزله لعلمه أن عبد الله لم يعد إلى قصره بعد، لاشتغاله بالحديث مع أبيه، أو أخيه، وهو مع ذلك يخجل من مقابلته.
ساق الفقيه بغلته إلى منزله، وهو على مقربة من قصر مروان، فترجل ودخل غرفة نزع فيها ملابسه وتهيأ للراحة، فجاء الطاهي يدعوه إلى المائدة ليتناول الطعام، فتذكر أنه جائع فنهض، وتناول طعامه وعاد إلى مجلسه، وأمر الخادم أن لا يدخل عليه أحدا التماسا للراحة، وهو في الحقيقة يطلب الانفراد بنفسه خجلا من الناس بسبب فشله في إلقاء الخطاب، حتى تهيأ له أن الناس جميعهم عيون تتغامز عليه أو تهزأ منه، لتلجلجه ولعثمة لسانه، وأصبح إذا لاحظ أن الخصي يبطئ في تنفيذ أمره توهم أنه يفعل ذلك احتقارا له بسبب ذلك الفشل أيضا، وهذا راجع إلى ضعف الثقة بالنفس أو الجبن، ولو كان قوي الثقة بنفسه، لم يبال بفشل قد يصيب كل إنسان، ولكان له من اعتداده بمواهبه الأخرى ما يذهب عنه ذلة ذلك الفشل.
تناول الفقيه الطعام وهو منقبض النفس فعسر هضمه، فزاد ذلك اضطراب تفكيره وتجسيم فشله. فلما اختلى بنفسه أخذ يفكر فيما يشفي غليله، ويبرر موقفه بين يدي الأمير عبد الله، وكان لا يكف منذ انضم إليه يفتخر بفصاحته وقوة ذكائه، فكيف يظهر منه هذا الضعف؟! فلم يجد خيرا من أن يزعم أن السبب ارتباك طرأ عليه لشيء شاهده في تلك الجلسة، ويشرك عبد الله معه كي يحفزه إلى مشاركته في الانتقام، ولما خطر له هذا الخاطر ارتاحت نفسه، وكانت الشمس قد مالت نحو المغيب، فنهض ولبس ثيابه وصفق، فجاء الخصي، فأمره أن يحضر له البغلة، فركبها وسار يطلب قصر مروان، منزل الأمير عبد الله.
وكان عبد الله شابا في مقتبل العمر. قد تثقف كما تثقف سائر أولاد عبد الرحمن الناصر، وشب على حب العلم والأدب والتقوى والدين، ولم يكن حر الفكر مثل أخيه الحكم؛ ولذلك فإنه لم يكن يستريح لغير الفقهاء المتعصبين الذين ينكرون النظر في غير علوم الدين، ولم يكن يقتني غير كتب الأدب والدين، ولو بحثت فيما تحتويه مكتبته ما وجدت فيها ورقة في الفلسفة أو المنطق أو الطب أو غيرها من كتب الطبيعيات. وأما أخوه الحكم، فربما وجدت عنده كتبا تحوي هذه الموضوعات، لكنه لم يكن يظهرها مجاراة للعامة في ميولهم.
وكان الأمير عبد الله صادق السريرة بغير دهاء أو تعقل، ونظرا لتقواه وتدينه، فقد كان كل من يأتيه من جهة الدين يغلبه أو يتسلط على أفكاره؛ ولذلك كان يحترم الفقهاء ويقربهم إليه وخاصة الفقيه ابن عبد البر؛ لما سبق إلى ذهنه من سعة علمه ومقدرته على حل المشاكل، ليس لدليل محسوس، وإنما اعتقد ذلك بناء على دعوى الفقيه لنفسه.
الفصل السابع عشر
الأمير عبد الله
ولم يكن قصر مروان بعيدا عن منزل الفقيه ابن عبد البر، وكان في استطاعته أن يذهب إليه ماشيا، ولكنه أراد أن يحتفظ بمظاهر الأبهة بركوب البغال؛ لئلا يقول قائل إن فشله في ذلك اليوم حط من قدره أو أذله، ولولا ذلك الفشل لذهب إلى منزل الأمير ماشيا، ولم يبال بشيء؛ لثقته باحترام الناس له، ولكن فشله صغر من نفسه، فأصبح يخشى العار لأتفه الأمور.
وصل الفقيه ابن عبد البر إلى باب حديقة القصر، وحالما رآه الحارس نهض وفتح له الباب، فدخل الفقيه على بغلته إلى الحديقة والخادم يمشي خلفه، فلما اقترب من باب القصر، تقدم الحاجب وهو خصي جميل الطلعة أصله من خصيان الزهراء جارية عبد الرحمن الناصر، أهدته إلى الأمير عبد الله فأعجب به وجعله كالحاجب أو المباشر، وقربه إليه لما آنسه فيه من اللطف وخفة الروح، واسمه «ساهر»، فلما رأى الفقيه ابن عبد البر مقبلا أسرع إليه وساعده في النزول عن بغلته وهو يرحب به، فسأله عن الأمير عبد الله.
فقال ساهر: «هو في مكتبته يطالع.»
فطلب الفقيه منه أن يخبره بمجيئه، فقال ساهر: «ليس على الفقيه حجاب.»
فاستأنس الفقيه ابن عبد البر ومشى في أثره حتى دخل القاعة، وهي مفروشة بالطنافس والمساند فجلس، وخرج ساهر ليخبر الأمير عبد الله بمجيء الفقيه، ومكث هذا والهواجس تتقاذفه فيما سيراه على وجه الأمير من التغير، ولم تمض لحظة حتى أقبل الأمير عبد الله وبيده كتاب يظهر من نظافة أطرافه أنه نسخ من عهد قريب، فوقف الفقيه وتأدب في السلام، فلم يجد في وجه الأمير عبد الله تغيرا، فارتاحت نفسه، وأخذ يتخير عبارات اللطف يغطي بها فشله، والأمير عبد الله يسايره حتى جلس إلى جانبه والكتاب لا يزال في يده.
فقال الفقيه ابن عبد البر: «أرى في يد الأمير كتابا جديدا!»
قال الأمير عبد الله: «نعم، هو كتاب جديد ومؤلفه ما زال على قيد الحياة.»
فنظر الفقيه إلى غلاف الكتاب وقال: «لا أذكر أني رأيت هذا الكتاب بين كتب مولاي قبل الآن!»
قال الأمير عبد الله: «لأنه أتاني في هذه الساعة.»
قال الفقيه: «في هذه الساعة! من أين؟»
قال الأمير عبد الله: «بعث به إلي أخي الحكم ولي العهد، وكان قد خاطبني بشأنه اليوم ونحن في البهو.»
فلما سمع الفقيه اسم الحكم والبهو، تذكر أشياء كثيرة، وكاد يظهر التأثر على وجهه، لكنه تجلد وقال: «يقول مولاي الأمير إن مؤلفه على قيد الحياة!»
قال الأمير عبد الله: «نعم، وهو الآن في قرطبة، وقد شاهدته في هذا الصباح وسمعت خطابه.»
فانتبه الفقيه للأمير عبد الله وقال: «أظنه كتاب «الأمالي» لإسماعيل بن القاسم القالي! فقد علمت أنه ألف هذا الكتاب لمولانا ولي العهد، وطاف البلاد في البحث والتنقيب من أجله.»
قال الأمير عبد الله: «نعم، هو بعينه، وقد قدمه لأخي فذكره لي في صباح هذا اليوم وأرسله إلي لأطالعه، وإذا أعجبني كلفت أحد الوراقين بنسخه.»
فأطرق الفقيه برهة وهو يتأمل، ثم قال: «ولماذا لم يقدمه القالي للأمير عبد الله، وهو يعرف قدر العلم؟»
فضحك الأمير عبد الله وقال: «لا أدري. هل تزعم أن أخي لا يعرف قدر العلم؟!»
فأجاب الفقيه وهو يهز كتفيه: «هو يعرف كل شيء طبعا، ولولا ذلك لم يجعله أبوه ولي العهد.» وظهر من ملامح وجهه أنه يضمر شيئا آخر.
فقال الأمير عبد الله بسذاجة وصدق نية: «ربما كان هذا من أسباب ولاية العهد، ولكن الولاية آلت إليه لأنه أكبر إخوته.»
فقال الفقيه: «ليس الكبر شرطا من شروط الولاية؛ فإن الخليفة يجب أن يتحقق فيمن يوليه بعده أن يكون أهلا للحكم، وتكون شروط الخلافة متوفرة فيه؛ ولذلك رأينا كثيرين من الخلفاء عدلوا عن أكبر أولادهم إلى من هم دونهم في السن، أو بايعوا غير أبنائهم رغبة في مصلحة المسلمين.»
الفصل الثامن عشر
الوشاية
فرأى الأمير عبد الله أن في كلام الفقيه ابن عبد البر خروجا عما ألف سماعه منه، ولكنه كان حسن الظن فيه، فقال له: «لم يعدل الخلفاء عن أكبر أولادهم إلى سواهم إلا لأسباب تخالف شروط الخلافة.»
قال الفقيه: «هل يذكر مولاي الأمير عبد الله شروط الخلافة؟»
قال الأمير عبد الله: «أعرف أن لها عشرة شروط.»
قال الفقيه: «هل وجدت من بينها أن يكون الخليفة أكبر إخوته؟»
قال الأمير عبد الله: «كلا، ولا أن يكون ابن الخليفة السابق، فإذا عملنا بذلك، وجب اختيار ولي العهد من جمهور المسلمين، وإنما هي قواعد اصطلح عليها الخلفاء بعد أن اتسعت دولة الإسلام.»
قال الفقيه: «ما لنا ولهذا! دعنا منه، وقل لي إذا شئت: ما هي أهم شروط الخلافة، وأولها؟»
قال الأمير عبد الله: «أولها حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن ظهر مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة وبين له الصواب وأخذه بما يلزم من الحقوق.»
قال الفقيه: «يكفي هذا الشرط، فهل هو متوفر في مولانا ولي العهد؟»
فاستغرب الأمير عبد الله سؤال الفقيه وقال: «كيف لا؟! دعنا من هذا البحث الآن.»
قال الفقيه: «دعنا منه إذا شئت ، ولك الأمر يا سيدي. لكن لم يعد يمكنني كتمان ما في نفسي من الغيظ، بعد أن كتمته أعواما.»
فتفرس الأمير عبد الله في وجه الفقيه ابن عبد البر، فرأى الجد فيه، فقال: «وما هو؟»
قال الفقيه: «هل أقول ما في نفسي؟»
قال الأمير عبد الله: «قل، ولا بأس عليك.»
قال الفقيه: «ما برحت منذ أسندت ولاية العهد إلى مولانا الحكم، وأنا أقول في نفسي: لماذا لا تكون لسيدي الأمير عبد الله؛ لعلمي أن شروط الخلافة أوفر فيك عنه. ينبغي لسيدي الأمير عبد الله أن يعتقد صدق نيتي في خدمة المسلمين، ولا يخفى عليك أني صنيعة مولاي الحكم، وأنا أعرف الناس به، وقد خدمت مولاي الأمير أيضا واطلعت على الحقيقة في الأميرين، فكنت كلما خطر لي هذا الخاطر أشعر بانقباض، وأنا أكتم ذلك عن مولاي الأمير، وأما الآن فلا أجد بدا من التصريح بعد أن كدت أفتضح أو افتضحت في ذلك الموقف بالأمس، فلم أستطع كلمة أقولها، ولا أظن أن الأمير عبد الله ينسب ذلك إلى جهلي؛ فما هذه أول مرة وقفت فيها خطيبا كما تعلم، ولكنني أعترف لك أني حين شاهدت مجلس أمير المؤمنين وأبنائه إلى جانبه، ورأيت تمييز الحكم بالولاية والشارة والمجلس مع علمي بفضل الأمير عبد الله وما ترجوه الأمة على يده، لم أتمالك عن الغضب، وانقبضت نفسي وشغل خاطري حتى فقدت رشدي، فلما طلب إلي الكلام لم أستطعه كما رأيت.» قال ذلك، وقد بدا الاهتمام على محياه وعينيه، وتندى جبينه بالعرق.
فلما سمع الأمير عبد الله كلام الفقيه، اعتقد في إخلاصه، لكنه لم يقتنع بانتقاده، فقال: «أراك تقول ما تقوله نتيجة غضبك لنفسك، فلا ينبغي لك أن تجعل ذلك ذريعة للطعن على ولي العهد، ولولا اعتقادي صدق سريرتك لم أصبر على سماع كلامك. إن الحكم أجدر مني بهذا المنصب من كل وجه؛ إنه أكبر مني سنا، وأوسع علما، وأكثر خبرة.»
فخشي الفقيه عاقبة تصريحه، وكاد يغلب على أمره بين يدي الأمير عبد الله، فعمد إلى التخلص، فقال : «قد أسأت فهم مرادي يا سيدي؛ فما أنا طاعن على ولي العهد، ولكنني أقول ما أعرفه، ومع ذلك فأنت صاحب الرأي، وكنت أحسبك تؤمن بصدق نيتي في خدمة المسلمين. أنت أعلم مني بما صارت إليه الخلافة من الانغماس في الترف والانحراف عن خطة الخلفاء الراشدين. ألم تر ما يأتيه أمير المؤمنين من تقديم الخصيان دون سواهم حتى كادت السلطة تئول إلى غير أهلها. لا أخشى أن يحدث ذلك في عصر الخليفة عبد الرحمن الناصر لتعقله وتقواه، ولكنني أخشى منه في أيام الحكم وهو لا يبالي.»
فقطع الأمير عبد الله كلام الفقيه وقال: «دع هذ الحديث أيها الفقيه وحدثنا بما يفيد، إني أراك قد تطاولت في طعنك إلى والدنا الخليفة عبد الرحمن الناصر صاحب هذه الدولة، وهو الذي أقام بنيانها وحارب الكفار وغلب الأعداء وناصر الدين!»
فابتدره الفقيه قائلا: «حاشا لله أن أنكر عليه ذلك! وإنما أنا أخشى ممن يخلفه. ألا تخشى على الإسلام إذا كان خليفته يقرأ كتب الفلسفة؟»
فصاح الأمير عبد الله: «كتب الفلسفة؟! تعني أن أخي يقرأ هذه الكتب؟ معاذ الله! وإذا فرض أنه يقرؤها فما علينا إلا النصيحة له بأن يتركها.»
فابتسم الفقيه ابتسامة مصطنعة وقال: «ننصحه؟! هل تظن أنه يقبل النصح؟! فلنتركه عساه يهتدي!»
وشعر الفقيه أنه فشل في وشايته بالحكم، ولم يجد في نفسه قوة على الإقناع، وكانت الشمس قد توارت وراء الأفق وأقبل الظلام، ولم يشعر الفقيه بذلك إلا حين رأى أحد الخدم قد دخل وبيده مسرجة أضاء مسراجها، ووضعها على مقعد في أحد جوانب القاعة، فتذكر الفقيه سعيدا الوراق، وما سمع من تعريضه بالأمر الذي باحث الأمير عبد الله فيه، فأجل الخوض في الموضوع ريثما يأتي، وكان على موعد من مجيئه في تلك الساعة.
الفصل التاسع عشر
سعيد وعبد الله
وبينما هما في ذلك، إذ جاء الحاجب يقول: «إن سعيدا الوراق بالباب يا سيدي.»
فالتفت الأمير عبد الله إلى الفقيه ابن عبد البر كأنه يستفسر منه عن سبب مجيئه، فقال الفقيه: «أظنه قد جاء بالكتاب الذي أخبرت مولانا عنه.»
فقطع الأمير عبد الله كلام الفقيه قائلا: «كتاب «العقد الفريد»! مرحبا بكل قادم علينا بمثل هذه التحف.»
فخرج الحاجب، ثم عاد ورفع الستارة عن الباب حتى دخل سعيد، وقد أبرقت عيناه وتجلت الهيبة على محياه، فحيا ووقف، فدعاه الأمير عبد الله إلى الجلوس، فجلس على وسادة وهو لا يحمل شيئا.
فقال الأمير عبد الله: «أنت سعيد الوراق؟ أظنني رأيتك قبل الآن! مرحبا بك. أين كتاب «العقد الفريد»؟»
قال سعيد: «هو في الخارج يا سيدي. هل أدخل به عليك؟»
قال الأمير عبد الله: «كيف لا؟!»
فنهض سعيد الوراق وعاد والكتاب في يده ملفوفا بملاءة من الحرير، فوضعه على وسادة بين يدي الأمير عبد الله، فأخذ يقلبه ويتأمل نظافة خطه وحسن تبويبه وضبط كتابته وسعيد صامت.
ثم قال الأمير عبد الله: «إنه خط جميل.»
فقال الفقيه: «ألم أقل لمولاي الأمير إنه خط فتاة؟»
فالتفت الأمير عبد الله إلى سعيد كأنه يستشهد به. فقال: «نعم يا سيدي، وقد رآها الفقيه بنفسه وسمع كلامها.»
فقطع الفقيه كلام سعيد الوراق وقال: «ألم أقل لك أن تأتي بها معك الليلة ليراها مولانا الأمير؟ أين هي؟»
قال سعيد: «قد أتيت بها، وهي في دار الجواري.»
قال الأمير عبد الله: «سنستقدمها بعد قليل. هل جاءتك كتب جديدة غير هذا؟»
قال سعيد: «سمعت عن كتاب لا يزال صاحبه يعمل في تأليفه، وهو أحسن كتب الأدب على الإجمال لأنه يغني عنها جميعا.»
فتطاول الأمير عبد الله عند ذلك وقال: «أظنك تعني كتاب الأمالي للقالي؟»
وتناوله من جانبه، وقدمه إليه ليراه.
فأخذه سعيد وفتح أول صفحة منه، فوجد عليها علامة الحكم فقال: «هذا لمولاي ولي العهد. وقد علمت أن الإمام أبا إسماعيل القالي ألفه، وفي الحق أن مولانا الحكم يبذل الأموال في اقتناء الكتب ويرغب أهلها في التأليف.»
فأحس الأمير عبد الله بغيرة من هذا الإطراء وقال: «هل هذا هو الكتاب الذي أشرت إليه الآن؟»
قال سعيد: «كلا يا سيدي.»
قال الأمير عبد الله: «وأي كتاب تعني إذن؟»
فتظاهر سعيد بالتردد، وقال: «كتاب آخر أهم من هذا، وربما زاد على خمسة أضعافه.»
قال الأمير عبد الله: «وما اسمه؟ أو ما اسم مؤلفه؟»
فنظر سعيد إلى الفقيه ابن عبد البر، كأنه يوسطه في أن يعفيه الأمير عبد الله من ذكر اسم الكتاب، ولم يكن الفقيه يعلم بشيء من ذلك، فظهرت الدهشة على وجهه، فسئم الأمير عبد الله الانتظار، فقال: «ما بالك يا صاحب؟ لعلك ندمت على ما صرحت به؟!»
فأظهر سعيد التلطف والاستعطاف، وقال: «نعم، ندمت، وكان ينبغي لي أن أحفظ ما اؤتمنت عليه سرا، ولكن سبقني لساني.»
فازداد الأمير رغبة في معرفة ذلك السر، وقد ظهر التغير في عينيه، فسبقه الفقيه إلى الكلام قائلا: «تحفظ ذلك السر عن مولانا الأمير عبد الله؟! وممن تخشى إفشاءه؟!»
قال سعيد الوراق: «أخشى ممن لا يفضله في الحكم غير أمير المؤمنين!»
ففهم الأمير عبد الله أنه يعني أخاه ولي العهد، فقال: «إذا كان الأمر يتعلق بأخينا الحكم، فماذا عليك إذا قلته من باب العلم بالشيء؟»
قال سعيد: «هل يسمح لي مولاي الأمير أن أقول كلمة؟»
قال الأمير عبد الله: «تفضل، قل.»
قال سعيد: «إن الكتاب من كتب الأدب، ويليق بالأمير عبد الله أكثر مما يليق بأخيه ولي العهد؛ لعلمي بميل كل منهما إلى أي نوع من الكتب.»
فاستبشر الفقيه أنه سيذكر ميله إلى كتب الفلسفة، فلما رآه سكت أتم كلامه فقال من تلقاء نفسه: «أظنك تعني أن الحكم يميل إلى اقتناء كتب الفلسفة؟»
فعض سعيد على شفته السفلى، وأظهر أنه استاء من تصريح الفقيه، وتصدى للدفاع عن الحكم فقال: «من قال ذلك؟! ربما اقتنى ولي العهد بعض كتب الفلسفة، لكنه أكثر رغبة في كتب الأدب، والشعر، واللغة. أليس هو الذي حمل القالي على جمع هذا الكتاب وهو من كتب اللغة، وهذه مكتبته وفيها ألوف من هذه الكتب. دعنا من هذا الآن.»
فقال الأمير عبد الله: «لم أعد أستطيع الصبر على كتمان اسم ذلك الكتاب واسم مؤلفه بعد ما تقدم . قل من هو؟» قال ذلك بلهجة الآمر.
فأظهر سعيد أنه يقول ذلك إذعانا لأمره، وقال: «إن الكتاب يا سيدي في الغناء واسمه الأغاني.»
فقطع الأمير عبد الله كلامه قائلا: «الأغاني، للموصلي؟»
قال سعيد: «كلا يا سيدي. إن مؤلفه أبو الفرج الأصفهاني، الأديب المشهور، وهو من بني أمية. إن الكتاب لم يخرج بعد للناس، ولكنني سمعت عنه شيئا كثيرا واطلعت على صفحات منه في بغداد، ولكن لا فائدة لنا من الحديث عنه؛ فقد علمت أن مولانا ولي العهد بعث بمن يشتري الكتاب من مؤلفه، وأوصاه أن يبذل له ما شاء من الدنانير.»
فالتفت الفقيه إلى سعيد وقال: «فإذا أراد مولانا الأمير عبد الله اقتناءه فمن الذي يمنعه؟!»
قال سعيد: «لا أدري، ولكني أعلم أن ولي العهد بعث بمن يشتريه، ثم إني عرفت ذلك سرا، وإنما أفضيت به هنا مصادفة وإذعانا لأمر الأمير.»
فتنحنح الأمير عبد الله ليخفي ما اضطرم في نفسه من الغيرة على تقدم أخيه عليه حتى في الأمور الأدبية، كاقتناء الكتب ونحوها، وأخذ يقلب صفحات كتاب «العقد الفريد» بين يديه. فابتدره سعيد، وهو يتظاهر بأن الكتاب يثير دهشته قائلا: «هل رأيت أجمل من هذا الخط يا سيدي؟» واستأذنه في تناول الكتاب ففتح الفصل الأول منه، وهو يبحث فيما يصحب السلطان فوضع يده على فقرة من ذلك الفصل وقال: «أظن أن مولاي فطن لهذه القاعدة من الخط، إنها خط أبي علي بن مقلة الكاتب المشهور في بغداد، وقد توفي من بضع سنين (328ه).»
فصاح الأمير عبد الله: «ابن مقلة؟ هذا خطه؟ بيده؟» قال سعيد: «كلا يا مولاي، ولكن الجارية التي نسخته من مولدات بغداد، وقد تعلمت الخط عن ابن مقلة نفسه.»
فجعل الأمير عبد الله يتفرس في الخط، وسعيد يوجه نظره إلى فقرة أخرى من ذلك الفصل، وفيها حكاية مجيء عمر بن الخطاب إلى الشام، وأخذ يظهر أنه يقرأ هذه القطعة إعجابا بخطها، فقرأ منها: «إن عمر بن الخطاب لما أتى إلى الشام، قدم على حمار، ومعه عبد الرحمن بن عوف على حمار، فتلقاهما معاوية في موكب ثقيل، فجاوز عمر حتى أخبر فرجع إليه، فلما قرب منه نزل إليه فأعرض عنه، فجعل يمشي إلى جانبه راجلا، فقال له عبد الرحمن بن عوف: «أتعبت الرجل!» فأقبل عليه عمر فقال: «يا معاوية، أنت صاحب الموكب آنفا مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟» قال: «نعم يا أمير المؤمنين.» قال: «ولم ذاك؟» قال: «لأننا في بلد لا نمتنع فيه من جواسيس العدو، ولا بد لهم مما يرهبهم من هيبة السلطان، فإن أمرتني بذلك أقمت عليه وإن نهيتني عنه انتهيت.» فقال: «لئن كان الذي تقول حقا، فإنه رأي أريب، وإن كان باطلا فإنها خدعة أديب.»
1
ثم قرأ بعده ببضعة عشر سطرا، حكاية مجيء أبي موسى الأشعري على عمر بن الخطاب، وفيها من المبالغة بالزهد والرغبة عن الملذات ما فيها، فقرأ منها قول عمر: «يا ربيع، إنا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق وسبائك وصناب، ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم شهواتهم فقال:
أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها
ثم أمر أبا موسى أن يقرني وأن تستبدل بأصحابي.»
وكان سعيد يقرأ ذلك ويوقع النبرات في أماكنها، بحيث يتضح المعنى المراد، وكان الأمير عبد الله يسمع ويعتبر؛ لقرب عهده بكلام الفقيه عن بذخ أبيه. ولاحظ الفقيه ذلك فقال: «لله در عمر بن الخطاب وسائر الخلفاء الراشدين؛ فقد كان أحدهم يلبس الثوب من الكرباس الغليظ، وفي قدميه نعلان من ليف، وحمائل سيفه ليف، ويمشي في الأسواق كبعض الرعية، وإذا خاطب أدنى الرعية أسمعه أغلظ من كلامه، وكانوا يعدون هذا من الدين الذي بعث به النبي
صلى الله عليه وسلم ،
2
أين هم وأين الخلفاء بعدهم!»
فقال سعيد: «لقد صدق الفقيه، وإن الجديرين بالخلافة قليلون، وقد تغير الناس وتغيرت أحوالهم بعد الخلفاء الراشدين، فانغمسوا في الأبهة والترف، ولم يفعل ذلك أحد منهم إلا دل على قرب ضياع دولته؛ كما أصاب العباسيين في بغداد في أواخر دولتهم، وأخشى أن يتفشى ذلك في هذه الدولة، والحق يقال لا أرى بين أبناء أمير المؤمنين أقرب في أخلاقه وتدينه من الخلفاء الراشدين غير مولانا الأمير عبد الله؛ فهو التقي الزاهد. لا أقول ذلك للفتنة - وقانا الله منها - فإن الأمر قد استتب الآن لمولانا الحكم، ولكنني أقول ما يخطر لي.»
فنظر الفقيه إلى الأمير عبد الله من طرف خفي، وأشار بعينيه كأنه يستشهد بما قاله سعيد على صحة قوله.
الفصل العشرون
عبد الله وعابدة
وخشي سعيد أن يقول الفقيه ابن عبد البر شيئا يغضب الأمير عبد الله؛ لأنه كان لحدة ذهنه يكاد يستطلع ما يدور في ذهن من يخاطبه، فأراد أن يغير الحديث فقال: «ما لنا ولهذا الآن؟ هل يأذن الأمير عبد الله بانصرافي؟»
فأظهر الأمير عبد الله الدهشة، وقال: «تنصرف؟! إلى أين؟ أين هي الفتاة التي ذكرتها؟ هل هي جاريتك؟»
قال سعيد: «هي جارية لي، ولكنها جارية أدب وشعر ومنادمة، وليست لشيء غير ذلك، فإنها تثقفت وحفظت الشعر وأتقنت الخط والغناء والعزف على العود. هل يأمر مولانا بإحضارها في هذه الساعة؟»
فصفق الأمير عبد الله فأتى ساهر الحاجب، فأمره أن يحضر الفتاة، فخرج وعاد بها، فدخلت وانصرف الحاجب، وكانت عابدة قد هيأت نفسها لملاقاة ابن الخليفة عبد الرحمن الناصر كما أوصاها سعيد، فلبست ثوبا جميلا، وأصلحت شعرها، ونظفت أسنانها، وبدت رائعة الجمال فضلا عما كان يبدو عليها من الهيبة والذكاء.
فلما وقع نظر الأمير عبد الله عليها شعر بميل إليها، واستلطفها وأشار إليها أن تجلس. فجلست متأدبة، وقد أطرقت حياء، فابتدرها الأمير عبد الله قائلا: «ما اسمك يا حسناء؟»
قالت عابدة: «اسمي عابدة يا سيدي.»
فأعجبته رخامة صوتها، فقال: «قد أنبأنا سعيد أنك تحفظين الشعر وأخبار العرب، فأي شعر تحفظين؟»
قالت عابدة: «أحفظ ما شئت يا سيدي، من شعر الجاهليين، أو الإسلاميين، أو المحدثين. كما تشاء.»
قال الأمير عبد الله: «هل اطلعت على جمهرة أشعار العرب لأبي زيد؟»
قالت عابدة: «نعم، وحفظت نوادره، وديوان الحماسة للبحتري، وطبقات الشعراء لابن قتيبة، وقرأت أكثر دواوين المحدثين، وكثيرا من كتب الأدب، وآخرها كتاب «العقد الفريد» هذا. إنه كتاب جميل.»
فصفق الأمير عبد الله فأتي ساهر الحاجب، فأمره أن يحضر الفتاة، فخرج وعاد بها، فدخلت، وانصرف الحاجب، وكانت قد هيأت نفسها لملاقاته.
قال الأمير عبد الله: «لقد زدته جمالا بخطك الأنيق.» قال ذلك وتناول كتاب «الأمالي» بيده، ولم يكد يفتحه حتى قالت: «أليس هذا كتاب «الأمالي» للقالي؟»
فاستغرب الأمير عبد الله معرفتها إياه، وهو يحسب أن الكتاب لم يره أحد سواه بعد أخيه الحكم، فقال لها: «وهل قرأته؟»
قالت عابدة: «تصفحته على عجل فحفظت منه شيئا علق بذهني، أتلو عليك منه إذا شئت ما يتعلق بأخبار أجدادكم بني أمية في الشام.»
فأبرقت أساريره إعجابا وسرورا، وقال لها: «اقرئي علينا ما يخطر لك.»
قالت عابدة: «هل أقص عليك حديث عبد الملك بن مروان لما خرج لقتال مصعب بن الزبير؟ إن عبد الملك كان رجلا شديدا استخلص الخلافة لنفسه، وكان طلابها كثيرين. حاربهم واستقل بها. يعجبني من حماسته وعلو همته خروجه لمحاربة مصعب من الشام إلى العراق، وقد أرادت أم يزيد ابنه (امرأته) منعه عن المسير فقالت: «يا أمير المؤمنين لو أقمت وبعثت إليه لكان الرأي.» فقال لها: «ما إلى ذلك سبيل.» فلم تزل تمشي معه وتكلمه حتى اقترب من الباب، فلما يئست منه رجعت، فبكت وبكى الخدم معها، فلما علا الصوت رجع إليها عبد الملك فقال: «وأنت أيضا ممن يبكي؟ قاتل الله كثيرا كأنه يرى يومنا هذا حيث يقول:
إذا ما أراد الغزو لم تثن همه
حصان عليها نظم در يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقه
بكت فبكى مما شجاها قطينها»
ثم عزم عليها بالسكوت وخرج. إن عبد الملك أيها الأمير رجل طالب معال؛ ألم تره لم ينفك عن الخلافة حتى نالها، فقال فيه كثير:
أحاطت يداه بالخلافة بعدما
أراد رجال آخرون اغتيالها»
وكان الأمير عبد الله في أثناء كلامها ينظر إلى ما يبدو على وجهها من ملامح الإعجاب بعلو همة عبد اللك، وتقع كلماتها في أذنيه وقوع النغم الشجي على قلب الصب المتيم، وأحس بشيء استفزه للحماس، فقال: «لقد أحسنت يا عابدة، وهل تحفظين شعرا لغير بني أمية؟»
قالت عابدة: «ويعجبني من الشعر يا مولاي ما يستحث المروءة، ويهيج الأريحية، كقول زهير بن أبي سلمى في معلقته:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ومن يجعل المعروف في غير أهله
يكن حمده ذما عليه ويندم
ومن لا يزل يستحمل الناس نفسه
ولا يعفها يوما من الدهر يسأم
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم»
فلما بلغت إلى هنا صاح الفقيه ابن عبد البر: «لله در هذا الجاهلي ما أبلغه! إن كلامه يحرك الهمم.» أراد بذلك استنهاض همة الأمير عبد الله. أما عبد الله فأخذه الطرب من حسن إلقاء عابدة وتجاهل أمر الحماس، وكان كتاب «الأمالي» في يده، فقلبه حتى أتى على أبيات أشار بأصبعه عليها وقال: «إن أحسن مما ذكرت قول علي بن عباس هذا:
وحديثها السحر الحلال لو انه
لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت
ود المحدث أنها لم توجز
شرك العقول ونهزة ما مثلها
للمطمئن وعقلة المستوفز»
فالتفت سعيد إلى عابدة وقال: «قللي يا عابدة من الحماس.»
فقال الأمير عبد الله: «أظنك تخشى علي الخروج يا سعيد! والله لا مطمع لي في شيء من ذلك، والفقيه يعلم رأيي.»
فقال سعيد: «إذا لم يكن هناك باعث، فالخروج مظنة سوء.»
فقالت عابدة: «ويعجبني قول عمرو بن كلثوم من معلقته:
إذا ما الملك سام الناس خسفا
أبينا أن نقر الخسف فينا
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا»
فطرب الفقيه ابن عبد البر لهذا المعنى واستخفه السرور حتى ضحك، وهو ينظر إلى الأمير عبد الله، فقال عبد الله وهو يقلد إنشاد عابدة: «فنجهل فوق جهل الجاهلينا.»
قال ذلك وقد ظهر الجد في عينيه، فرأى سعيد الوقوف عند هذا الحد فقال: «هل يأمر مولاي الأمير عبد الله أن تغني عابدة له شيئا؟»
فقال الأمير عبد الله: «وهل تحسن عابدة الغناء؟ وعلى من تعلمت؟»
قالت عابدة: «تعلمت على مغني بغداد خلائف الموصلي وحفظت أغانيه.»
قال الأمير عبد الله: «أسمعينا ما تعرفينه.»
قالت عابدة: «هل أغني غناء إبراهيم بن المهدي الذي شغله الغناء عن طلب الخلافة فقضى عمره كأنه من العامة؟ إنه كان طروبا وله غناء حسن.»
فقال الفقيه: «غني يا عابدة. إنه غناء ابن خليفة يسمعه ابن خليفة، ولكن شتان بينهما.» فأخذت عابدة تغني:
هل تطمسون من السماء نجومها
بأكفكم أو تسترون هلالها
أو تدفعون مقالة من ربكم
جبريل بلغها النبي فقالها
الفصل الحادي والعشرون
الانصراف
فطرب الأمير عبد الله وأخذت عابدة بمجامع قلبه، وأحس بميل نحوها غير ميل الناس إلى الإماء؛ لأنه آنس فيها عزة وقوة وأدبا ورقة، فأحب أدبها وبلاغتها وذكاءها، فأمر بإعداد مائدة من الفاكهة والطعام والشراب المنعش؛ لأنه لم يكن يشرب الخمر، ولا النبيذ ولا يطيق رائحتهما.
فلما أعدت المائدة وليس عليها شيء من الخمر، نظر سعيد الوراق إلى الفقيه ابن عبد البر كأنه يساره، وقال: «هذا أولي بها.» وأشار إلى المائدة وخلوها من الخمر، ففهم الأمير عبد الله أنه يشير إلى الخلافة، ولكنه ظن أن إشارته جاءت عفوا مع أنها مقصودة، لكنه تجاهل واستعاد الفتاة أغنيات أخرى، فظلت تغني حتى طربوا، فقال الأمير عبد الله: «هل تجيد عابدة العزف على العود أو غيره؟»
فالتفت سعيد إلى عابدة فمدت يدها إلى جيبها فأخرجت عيدانا وأوتارا، وأخذت تركبها وتشدها، فصارت آلة كالقانون، وراحت تعزف عليها عزفا متقنا أشجى الأمير عبد الله، فقال لسعيد: «ما اسم هذه الآلة؟»
قال سعيد: «القانون يا سيدي.»
قال الأمير عبد الله: «لا أذكر أني رأيتها من قبل.»
قال سعيد: «إن مخترعها لا يزال على قيد الحياة، وهو عالم كبير، ولكنه من رجال الفلسفة، وقد تعمق في أبحاثها وألف فيها عدة كتب.»
فقطع الأمير عبد الله كلامه قائلا: «أظنك تعني الفارابي التركي الفارسي الذي نشأ في الشام؟»
قال سعيد: «نعم ، هو بعينه يا سيدي.»
فتصدى الفقيه ابن عبد البر للكلام فقال: «أليس هو صاحب القصة مع سيف الدولة يوم حضر مجلس غنائه وهو لا يعرفه، وسأله إذا كان يعرف الغناء فأخرج آلة عزف عليها، فبكى من في المجلس، ثم فكها وركبها وعزف عزفا آخر، فنام من في المجلس؟»
قال سعيد: «نعم، هو نفسه، وهذه هي الآلة التي عزف عليها، وقد تمكنت عابدة من أخذها منه.»
فازداد الأمير عبد الله إعجابا بالفتاة وتعلقا بها، فقال: «هل تبيع هذه الحسناء يا سعيد؟»
قال سعيد: «هي أرفع من وصمة البيع والشراء يا سيدي، ولكنني أكون - أنا وهي - في خدمة الأمير حفظه الله.»
قال الأمير عبد الله: «أما أنت، فإنني أرغب أن تمتنع عن بيع الكتب للناس، وتختصني بفضلك فتكون خازن كتبي، فتبقى أنت وعابدة بقصري. هل تستطيع ذلك؟»
فأشار سعيد برأسه إشارة الطاعة وقال: «إن من أسباب سعادتي أن أكون في خدمة مولاي الأمير عبد الله فأبذل جهدي في مصلحته، وقد كنت أرغب أن أقول له إن عابدة لا أتخلى عنها لأنها استأنست بي، وأنا أدرس لها أشياء من الأدب والشعر لم تكن تعرفها؛ ولذلك فإني أتردد عليها حينا بعد آخر.»
فقطع الأمير عبد الله كلامه قائلا: «لا حاجة بك إلى التردد. إنك تقيم في هذا القصر، وتتولى ترتيب الكتب في أماكنها، وتحضر إلي ما أريده منها، فإني لا أريد أن تكون في قرطبة مكتبة خيرا من مكتبتي.»
فأشار سعيد برأسه إشارة الطاعة، وسكت.
فصفق الأمير عبد الله، فجاء ساهر الحاجب فقال له: «أعدوا دارا خاصة لنزيلنا سعيد، وأدخلوا عابدة دار النساء مكرمة.»
فوقف سعيد يريد الانصراف، فطلب منه الأمير عبد الله أن يبقى، فقال: «لا بد لي من الانصراف لتدبير أموري والتفرغ لخدمة مولاي الأمير.»
ونهض الفقيه ابن عبد البر وهو يقول: «وأنا أريد أن يسمح لي الأمير عبد الله بالانصراف إلى منزلي.»
أما عابدة فلما أحست ببقائها وحدها، نظرت إلى سعيد وقد توردت وجنتاها من الحياء لبقائها وحدها هناك ، فتقدم سعيد إليها وربت على كتفها وقال لها: «لا تخشي شيئا يا عابدة، إنك في رعاية الأمير عبد الله، وستكونين معززة مكرمة.» والتفت سعيد إلى الأمير عبد الله وقال: «هل يأمر مولاي بإحضار القهرمانة لمرافقة عابدة إلى دار النساء فتأنس بها؟»
فأمر الأمير عبد الله بإحضار القهرمانة، فأتت إلى باب القاعة فخرجت عابدة معها وهي تلتفت إلى سعيد وقد شق عليها فراقه.
أما سعيد والفقيه، فودعا الأمير عبد الله، وركب كل منهما بغلته وانصرفا، ولما خرجا من الحديقة قال الفقيه لسعيد: «لا نلبث أن نصل إلى منزلي، فهل تبيت عندي الليلة؟»
قال سعيد: «لا بأس من ذلك.» وسارا في طريقهما، وقد سر الفقيه بنزول سعيد عليه؛ لأنه أراد الاستعانة به في إقناع الأمير عبد الله بما أراده ضد أخيه الحكم، ولم يعلم أن سعيدا أكثر منه رغبة في ذلك، ولكنه كان أكثر دهاء وأوسع صدرا.
دعا الفقيه سعيدا إلى غرفة واسعة فيها سراج مضيء، وقد فرشت أرضها بالحصر والأبسطة المتواضعة، وأمر الفقيه خادمه أن يعد لهما فراشين في تلك الغرفة ففعل، وأخذ الفقيه في تبديل ثيابه، وأحضر لسعيد ثوبا خفيفا لتبديل ثيابه أيضا، وبعد أن فرغا من ذلك، جلس كل منهما على فراشه وسعيد يقرأ كل حركة من حركات الفقيه، كأنه في ضميره، والفقيه يحاول أن يحتال في إغرائه على الأمير عبد الله.
الفصل الثاني والعشرون
المؤامرة
فلما جلسا، قال الفقيه لسعيد: «إننا قمنا بأشياء كثيرة في هذا اليوم.»
قال سعيد: «ولكنه انتهي بخير. إن الأمير عبد الله رجل فاضل عاقل، وأظنك تتردد عليه كثيرا، فليتك تقيم عندنا، فنسكن معا ونتعاون على الدرس، وتتفرغ لخدمته. إني أشعر بميل شديد إليه، ولا أدخر وسعا في تحقيق كل ما يرضيه لما آنسته من لطفه وتواضعه.»
فقال الفقيه: «كثيرا ما دعاني للإقامة في قصره، وأنا أتردد، وأما الآن فإني سأستجيب لرغبته وأنتقل إليه.» ثم اعتدل في مجلسه والتفت إلى سعيد والسراج خلف ظهره، فوقع ضوءه على عيني سعيد فزادهما لمعانا وإشراقا، وتخيل فيهما قوة كادت تسيطر عليه فقال: «إن من يحب الأمير عبد الله ينبغي أن يدعه يعرف حقيقة مركزه.»
فقال سعيد: «ظهر لي أنه كثير التواضع راغب في العزلة والابتعاد عن السياسة، ولولا ذلك ما ظننت أن أخاه الحكم ينال الخلافة دونه.»
فأشرقت أسارير الفقيه فرحا بهذا التصريح وقال: «وقد تعبت وأنا أشرح له ذلك وهو ينكره علي، فإذا ساعدتني أقنعناه، فإني أرى في عينيك قوة الإقناع.»
قال سعيد: «أنا لا ألتمس إقناعه بالقوة، ولا أظنه يحتاج إلى إقناع بأنه أفضل من أخيه. ولكنه يخشى إظهار ذلك، فإذا كان واثقا من محدثه صرح بما يدور في خلده. ثم هو لا يكفيه أن يفضل نفسه على أخيه بالقول، وإنما لا بد من العمل؟»
فقال الفقيه: «نبدأ أولا بالقول. هل تقنعه أنه أولى بالخلافة من أخيه؟»
قال سعيد: «يجب أن تبدأ أنت بذلك. أقنعه أولا بأن أخاه الحكم متكبر، يتوهم أنه فوق إخوته وسائر أهله، وأظهر له أن في قرطبة وسائر الأندلس أحزابا كبيرة ليسوا راضين عن بذخ الخليفة عبد الرحمن الناصر وإسرافه في بناء القصور وغيرها، وأنهم ناقمون على الحالة الحاضرة، وربما بايعوا واحدا من غير أبناء عبد الرحمن الناصر، وهو أولى بهذه المبايعة. ولا شك في أن هذا يهون عليه القبول.»
وكان الفقيه مصغيا بكليته إلى ما يقوله سعيد، وقد أدهشه دهاؤه، وشعر بالفرق العظيم بين رأييهما، وتحقق أنه إذا أتى الأمير عبد الله من هذه الناحية أقنعه، ولكن كبرياءه منعته من التصريح بفضل سعيد في إبداء هذا الرأي، فقال: «بورك فيك من رجل عاقل، وهذا ما خطر لي أن أقوله للأمير عبد الله، ولكنني أخشى إن سألني أين هذه الأحزاب أن أعجز عن الجواب.»
فأشار سعيد بأصبعه السبابة إلى صدره وقال: «اسألني عند الحاجة فأرشدك، واحذر إذا ذكرت ما تقدم للأمير عبد الله أن تشير إلي أو تذكر اسمي، إلا إذا سألك عن الأحزاب فقل له: «سنسأل سعيدا الوراق لعله يعرف؛ لأنه كان كثير الاختلاط بالناس.» هل فهمت؟»
فأعجب الفقيه برأي سعيد بأن لا يذكر اسمه في ذلك، فيحسب الأمير عبد الله أنه هو صاحب تلك الآراء فيعلوا قدرا في عينيه، فقال: «فهمت. أنت لا تريد أن أروي شيئا من ذلك عنك.»
قال سعيد: «نعم؛ لأن الغرض تقديم النصيحة للأمير عبد الله، ولا عبرة فيمن يقدمها.»
ففرح الفقيه بذلك، وأراد أن يختتم الحديث فقال: «سأفعل كما أمرت. أظنك في حاجة إلى النوم الآن. أستودعك الله إلى صباح غد.»
وصفق الفقيه فجاء الخادم فقال له: «أخرج هذا السراج من هذه القاعة.» فأخرجه وتهيأ للنوم.
فنام كلاهما ملء عينيه، والآمال ملء صدره، وأكثرهما رجاء الفقيه، فإنه تصور أن الفوز طوع إرادته، وأنه متى غضب الأمير عبد الله على أخيه ملك ناصية الدولة، ولم يفكر فيما يعترض ذلك من العوائق، وما يقتضيه تغلب عبد الله من المشقة؛ إذ كان من أصحاب الأوهام الذين يقنعهم الخيال، ويكتفون بالقشور الظاهرة أو التمنيات القلبية، وقلما يدرسون المسائل من الوجهة العملية، فيغلب الفشل على مشاريعهم.
الفصل الثالث والعشرون
عبد الله يناجي نفسه
أما الأمير عبد الله فلما خلا بنفسه بعد ذهاب سعيد والفقيه، مكث برهة وأفكاره تائهة، والكتاب في يده يقلب صفحاته كأنه يتصفحه، ولكنه لم يكن يرى شيئا لاستغراقه فيما أشارا إليه، وقد جاش في صدره أمر لم يخطر بباله من قبل؛ فمنذ أن أسندت ولاية العهد لأخيه، لم يخطر له أن أحدا من الناس يراه أولى بها منه، ولا هو خطر له شيء من ذلك، ولكن الإنسان لا يبرح ضعيفا متقلبا ما دام محبا لنفسه يؤثرها على غيرها، ويرى فيها من الفضائل ما ليس في سواها، فهو ضعيف من هذه الناحية، بحيث إذا أردت إغراءه أو تحريضه على أمر لا تجده راغبا فيه، فإنك إذا بينت له علاقته به وما يعود عليه منه، فإنه لا يلبث أن يهتم به.
والأمير عبد الله لم يكن يخطر له أن يزاحم أخاه الحكم على الخلافة؛ ولذلك فإنه استغرب تعريض الفقيه بشيء من هذا الشأن وانتهره. لكنه ما إن اختلى وحده حتى أخذ يناجي نفسه، ويحدثها بما لا يمكن أن يكاشف به أحدا. وأفكار الإنسان من حيث مكاشفة الآخرين بها ثلاث طبقات؛ الأولى: أسرار يطلع عليها أصدقاءه ومعارفه. والثانية: أسرار لا يطلع عليها إلا أخص أصدقائه أو زوجته، ولا يتجاوز بها غيرهم، وهو حريص على كتمانها عن سواهم. وهناك خواطر لا يطلع عليها أحدا، ولو علم أن سواه يعرفها لتنغص عيشه وافتضح أمره، وتنطوي هذه الخواطر على حقيقة ضمير الرجل وكنه طبيعته، وقد يكون ثمة بينها وبين ما يظهره للناس من أفكار تناقض عجيب، وقد تتقارب ولا تختلف إلا قليلا، وأكثر الناس دهاء أبعدهم ما بين ظاهرهم وباطنهم.
ولم يكن الأمير عبد الله من أهل الدهاء، ولكن ما سمعه تلك الليلة أثار في قلبه الحسد لأخيه على ولاية العهد، وبالغ في كتمان ذلك حتى ود لو يكتمه عن نفسه، وفكر في حاله وعجزه عن مناوأة أخيه، فأخذ يتعلل بما يغنيه عن أبهة الدولة ويبعده عن متاعب الملك، فقال في نفسه: «إن متاعب الحكومة كثيرة، وما الذي يرجوه الإنسان من دنياه غير التمتع بالحياة بأيسر الطرق وأنفعها؟! وأنا لا ينقصني شيء من مطالب الحياة وضروراتها، وليس علي من واجبات الخلافة ما يشغلني عن مطالعة الكتب والتبحر في العلم، ولا ينقصني شيء من الوسائل التي للخلفاء لتهيئة أسباب الراحة والنعيم.» وخطر بباله على الفور ما سمعه تلك الليلة من عابدة، فأحس براحة ولذة وقال في نفسه: «إن جلوسي مع هذه الفتاة أطارحها الأشعار، وأحادثها وأسمع غناءها خير من الأمر والنهي، وما ينوبهما من تعب القلب وخشية الفتنة أو الحذر من أهل الدس وغيرهم.»
وكان يفكر في ذلك وهو واقف أمام منضدة عليها كتاب «العقد الفريد»، وأخذ يقلب صفحاته والحاجب واقف بالباب، ينتظر أمره فيما يريد من وسائل الراحة. ثم انتبه الأمير عبد الله لنفسه، فالتفت فرأى المائدة لا تزال هناك وعليها الفاكهة، فتناول تفاحة وقطعها وأكل جانبا منها وهو غارق في بحار الهواجس، ولم ينشرح خاطره لأنه لم يستقر على رأي يعول عليه، فأخذت الخواطر تتقاذفه بين أن يصغي لقول الطاعنين على أخيه الحكم، أو يبقي على ما كان عليه من حسن الظن فيه.
وأخيرا رأى أن حسن الظن أدعى إلى السلامة والوفاق، فطرد تلك الخواطر من ذهنه، وأراح ضميره من جهة أخيه، وذهب إلى فراشه، فعادت إلى ذهنه صورة عابدة، وتذكر ما سمعه من حديثها فأحس بلذة، وشعر أن وجودها في منزله من أكبر أسباب التسلية، وأخذ يمني نفسه بمجالستها والتمتع بأدبها.
بات الأمير عبد الله تلك الليلة على عزم الإخلاص لأخيه الحكم، والتسليم له بحق ولاية العهد، فلما أصبح الصباح دخل مكتبته، وكانت تشغل قاعة كبيرة ثبتت على جدرانها رفوف وضعت عليها الكتب بدون ترتيب، فوضع كتاب «العقد الفريد» في صدر كتب الأدب بحيث يسهل تناوله عند الحاجة إليه، وأخذ يقلب ما بين يديه من كتب الفقه والحديث، ويعود إلى الأدب والشعر، فكان يرى مشقة في الوصول إلى الكتب، فأخذ يعلل نفسه بترتيبها متى عاد سعيد.
الفصل الرابع والعشرون
رسول ولي العهد
مضى معظم النهار ولم يعد سعيد ولا الفقيه، فلما كان الأصيل سئم الأمير عبد الله من الانتظار، فتذكر عابدة، فأمر ساهرا حاجبه أن يأمر القهرمانة بإرسالها إليه في القاعة؛ ليستمتع بحديثها ريثما يأتي سعيد والفقيه أو أحدهما، وقد أحس بشوق إلى لقياهما كي يعاود حديث الأمس، ويظهر لهما ما عول عليه من إغفال أمر ولاية العهد، ويتوقع أن يوافقاه على رأيه، فيزداد رسوخا في الأمر.
وعاد الحاجب يقول للأمير عبد الله: «إن جاريتك عابدة آتية.» فأمره أن يعد مائدة من الفاكهة والحلوى وألوان الشراب المنعش، فأعدها الخدم في غرفة الأمس، وجلس الأمير عبد الله وبيده كتاب «الشعر والشعراء» لابن قتيبة يقلب في صفحاته.
وبعد قليل جاءت عابدة، وهي أجمل مما كانت بالأمس، فتلقاها بالترحاب وأمرها بالجلوس، وسألها عما إذا كانت تحسن العزف على العود.
فأجابت عابدة: «نعم.»
فأمر الأمير عبد الله بإحضار عود، فتناولته عابدة، ولاحظ عليها علامات الخجل والانقباض، فظن أن ذلك بسبب انشغالها لغياب سعيد، فابتدرها قائلا: «كيف وجدت نفسك عندنا يا عابدة؟»
قالت عابدة: «إني بخير يا مولاي. وكيف لا أكون سعيدة وأنا في رعايتك؟!»
قال الأمير عبد الله: «يظهر أنك في شاغل لغياب سعيد! وأنا أيضا في قلق لغيابه، ولكنه لا يلبث أن يأتي قريبا ولن يتكرر غيابه.»
فلما سمعت عابدة ذكر سعيد صعد الدم إلى وجهها، فظن الأمير عبد الله أن ذلك نتيجة الخجل، ولم يعلم ما يختلج في قلبها من الهيام بسعيد، فقال: «لا يلبث سعيد أن يأتي، وقد شعرت بالحاجة إليه في هذه الساعة، حين دخلت مكتبتي وجدت الكتب فيها مبعثرة، وسأكلفه بترتيبها. إنه رجل حكيم، وقد وقع من نفسي موقعا حسنا، ويكفي من فضله أنه كان السبب في معرفتك.»
فازداد تورد وجنتيها، وعمدت إلى التخلص، فقالت: «لعل هذا السبب الأخير أقل حسناته بالنسبة إلى مولاي الأمير، وأما بالنسبة إلى هذه الجارية فهو فضل كبير.»
ففرح الأمير عبد الله من رقة أسلوبها، وتحقق أنها راضية بالإقامة في قصره، فقال: «لا، بل الفضل له علي في ذلك، وأرجو أن أستطيع مكافأته على هذا الصنيع.»
فتنهدت عابدة وقالت وهي تصلح العود في حجرها: «إن سعيدا يستحق ثقة مولاي الأمير، وإذا اختبره وجده حكيما عاقلا صاحب رأي وهمة يتفانى في خدمته.»
فقطع الأمير عبد الله كلامها بلطف وقال: «لا نريده إلا سالما معافى، ولنا فيه خير مساعد يرتب مكتبتنا، ويهدينا إلى ما نطلبه من الكتب النفيسة.»
قالت عابدة: «نعم، ولكنه يفيد في كل أمر يستشار فيه.» قالت ذلك وهي تتشاغل بإصلاح وتر معوج، وأظهرت عند الفراغ من هذه الجملة أن العود قد تم إصلاحه، وعزفت عليه لحنا من الألحان المطربة، وغنت فطرب الأمير عبد الله، وتقدم إليها ببعض الفاكهة والحلوى، وأخذ في تقريظ الصوت الذي سمعه وإطراء أدائها له، وهي تتواضع وتجيد في العزف والغناء، والأمير عبد الله متكئ على وسادة لا يزداد إلا إعجابا بالفتاة وطربا، وقد قرر أن يكتفي بها عن سائر مطامع الخلافة.
وبينما هما في ذلك، إذ دخل الحاجب ووقف بحيث يعلم الأمير عبد الله أنه يريد أن يخاطبه، فالتفت إليه وأشار بيده يسأله عن غرضه فقال: «إن بالباب رسولا من مولانا ولي العهد يحمل كتابا إلى مولاي الأمير.»
قال الأمير عبد الله: «ولي العهد؟» وقد ساءه الرجوع إلى شيء من أمره.
فقال الحاجب: «نعم يا سيدي.»
فقال الأمير عبد الله: «أين الكتاب؟»
فخرج الحاجب وعاد والكتاب بيده، فسلمه إلى الأمير، فتناوله وهو يجلس، وفضه وحول وجهه نحو نافذة يدخل منها النور، وأخذ يقرؤه وقد توقفت عابدة عن الغناء، وأخذت تراقبه، فرأت على وجهه تغيرا وهو يتفرس في الكتاب ويعيد قراءته، ثم اعتدل في مجلسه وطوى الكتاب وجعله تحت الوسادة، وأراد التظاهر بعدم الاكتراث، ولم يخف على عابدة ما تولاه من الاضطراب، ولكنها لم تعرف السبب، فرأت من الأدب أن تبقى صامتة تنتظر أمره.
أما الأمير عبد الله، فإنه بعد أن أطرق برهة وقف وتظاهر أنه يطلب حاجة في الغرفة الأخرى، فمشى نحو الباب ثم رجع كأنه تذكر شيئا يستدعي رجوعه، وجلس في مكانه وعاد فأخرج الكتاب من تحت الوسادة وأعاد قراءته، ثم شعر بما ظهر من قلقه بين يدي عابدة، فأراد أن يوهمها بغير الواقع فقال: «ما بالك لا تغنين يا عابدة؟»
فتناولت العود، وقالت: «خشيت أن أشغل مولاي عن قراءة الكتاب، ولعل فيه ما يهمه أو يدعو إلى إعمال الفكر فيشوش عليه عودي.»
قال الأمير عبد الله: «ليس فيه شيء.» وبدا الانقباض على وجهه، ثم قال: «غني يا عابدة. غني ما شئت.»
فأخذت عابدة العود وغنت أغنية أخرى، فأوقفها الأمير عبد الله وقال: «غني قول عمرو بن كلثوم الذي ذكرته بالأمس:
إذا ما الملك سام الناس خسفا
أبينا أن نقر الخسف فينا
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا»
فأدركت من طلبه أن في الأمر سرا غاظه، وكانت قد علمت أن الكتاب جاءه من أخيه ففهمت بعض الشيء، فأخذت تغني وتجود وهو يترنح لها والغضب ظاهر على محياه.
الفصل الخامس والعشرون
الجواب
ثم جاء الحاجب ووقف بجانب الستارة ، فتذكر الأمير عبد الله أنه ينبغي أن يجيب الرسول على كتابه، فقال: «لعل الرسول ينتظر مني جوابا؟»
فأشار ساهر برأسه أن: «نعم.»
فقال الأمير عبد الله: «قل له ليس عندي جواب.» قال ذلك بنغمة التهديد.
فخرج ساهر وفعل ما أمره به الأمير عبد الله، ولكنه تلطف في الأسلوب، فبدلا من أن يقول: «ليس عند الأمير جواب.» قال: «سيجيب على الكتاب بعد الآن.»
فقال الرسول: «إنني مكلف بأن أعود بالجواب في هذه الساعة.»
فرأي ساهر ألا يبلغ الأمير كلام الرسول على تلك الصورة فاستمهله، وهم بالرجوع، وكانت الشمس قد قاربت الغروب، فسمع وقع حوافر بغلة في الحديقة، ثم رأى الفقيه قادما على بغلته حتى إذا وصل ترجل وهم بالدخول، فرأى رسول الحكم بالباب فعرفه، فتقدم الرسول وسلم على الفقيه، فسأله عن سبب وجوده هناك فقال: «جئت برسالة من مولانا ولي العهد وأنا واقف ألتمس الجواب.»
فدخل الفقيه وهو يقول في نفسه: «ماذا عسى أن تكون تلك الرسالة؟» حتى أقبل على مجلس الأمير وعابدة، فاستأذن ودخل، فدعاه الأمير عبد الله إلى الجلوس والغضب باد على محياه، فعلم الفقيه أن سبب غضبه متعلق برسالة ولي العهد، فسره ذلك لأنه يساعده على تحقيق غرضه، فقال: «مالي أرى مولاي الأمير غاضبا؟»
قال الأمير عبد الله: «لا شيء.» وأراد أن يتظاهر بعدم الاكتراث.
فقال الفقيه: «رأيت رسول ولي العهد الحكم بالباب. هل بلغك خبر مجيئه؟»
قال الأمير عبد الله: «نعم، وقد أخليت سبيله. ألم ينصرف؟»
قال الفقيه: «رأيته لا يزال واقفا.»
فصفق الأمير عبد الله فدخل ساهر الحاجب، فابتدره قائلا: «ألم تصرف الرسول؟»
قال ساهر: «بلغته أمر مولاي، فقال إنه يريد الجواب الآن.»
فلم يتمالك الأمير عبد الله عن التحفز للوثوب، ثم تراجع وقال: «أخبره بأن ليس عندي جواب. ولينصرف.»
قال ساهر: «قلت له يا مولاي، ولكنه لم ينصرف.»
فأظهر الفقيه مشاركته للأمير في غضبه، فقال: «عجبا من هؤلاء! أيأمره الأمير بالانصراف ولا ينصرف؟! وهل هو إلا رسول مكلف؟!» والتفت إلى الأمير عبد الله وقال: «هل يأذن مولاي أن أعرف رسالة هذا الرسول وأنا أصرفه حالا.»
فمد الأمير عبد الله يده إلى الكتاب وأخرجه من تحت الوسادة ودفع به إلى الفقيه وقال: «هذا هو الكتاب. اطلع عليه.»
فتناوله الفقيه وقرأه، وهذا ما جاء فيه:
من الحكم ولي العهد إلى أخيه الأمير عبد الله
أما بعد، فقد بلغنا أن جارية أديبة تحفظ الشعر وتحسن الغناء جاءتك، فأحببنا أن نراها، فإذا جاءك كتابي فأرسلها إلي مع رسولي، ودمت يا أخي بخير وعافية.
ثم رفع الفقيه بصره إلى الأمير عبد الله، فرآه ينظر إليه ويتوقع رأيه فقال: «قد قرأت الرسالة يا سيدي، فماذا ترى؟»
قال الأمير عبد الله: «قد علمت رأيي، وهل ترى أن أجيبه إلى طلبه؟!»
فرأى الفقيه أن يغتنم تلك الفرصة لإثارة نقمة الأمير عبد الله على أخيه الحكم، فقال: «قد رأيت الصواب، ولا أظن الحكم يعني بطلبه هذا إلا الاستئثار لنفسه بكل شيء، كأنه يرى ذلك من حقوق ولاية العهد.»
فاغتصب الأمير عبد الله ضحكة وقال: «نعم من حقوق ولاية العهد. ألم يكفه سكوتي عن تلك الولاية حتى يعتدي إلى هذا الحد؟!»
فقال الفقيه: «ومع ذلك فإن هذا الأمر يتعلق بسعيد، وله فيه الرأي الأول بعد أمر مولاي الأمير.»
قال الأمير عبد الله: «مهما يكن من ذلك فليس لرسالة أخي جواب.»
قال الفقيه: «لا أرى بأسا من الإجابة على رسالته بما تراه.»
قال الأمير عبد الله: «وماذا أكتب إليه؟»
قال الفقيه: «اكتب ما شئت. اعتذر له بأنك لا تستطيع أن تجيبه على طلبه لأسباب عندك لا تستطيع بيانها.»
فنادى الأمير عبد الله الحاجب، فدخل فقال له: «أحضر لي دواة وقرطاسا!» فجاءه الحاجب بهما، فتناول القلم وكتب:
من عبد الله إلى أخيه الحكم ولي العهد
أما بعد، فقد جاءني كتابك فتأملته وعلمت ما به، ولكني لا أستطيع إجابة طلبك. فأرجو قبول عذري، والسلام.
وختم الأمير عبد الله الكتاب ودفعه إلى ساهر الحاجب وقال له: «سلم هذا الكتاب إلى الرسول.» فخرج وسلمه إليه.
وعاد الأمير عبد الله إلى ما كان فيه، وأشار إلى عابدة أن تغني، وكانت قد لاحظت شيئا يهمها عندما سمعت ذكر اسم سعيد في أثناء الحديث، فراحت تغني:
ستعلم في الحساب إذا التقينا
غدا يوم القيام من الظلوم
وينقطع التلذذ عن أناس
من الدنيا وتنقطع الهموم
إلى ديان يوم الدين نمضي
وعند الله تجتمع الخصوم
فكانت تغني والأمير عبد الله مطرق يهز رأسه، وقد جاشت فيه عاطفة الاعتبار، ولما فرغت من البيت الأخير ردد قولها: «وعند الله تجتمع الخصوم» ثم قال: «رحم الله أبا العتاهية.»
واغتنم الفقيه تلك الفرصة وجعل يمدح عابدة وصوتها، وهي تجود في الغناء، وأحس الأمير عبد الله بحاجة إلى سعيد فقال: «هل تظن يا ابن عبد البر أن سعيدا سيأتي الليلة؟» ثم نادى ساهرا الحاجب فتقدم إليه، فقال له: «أضيئوا السراج.»
فخرج الحاجب، ثم جاء أحد الخدم بالسراج، وفي أثناء ذلك أجاب الفقيه على سؤال الأمير عبد الله قائلا: «أظن أن سعيدا لا يلبث أن يأتي، وقد أصبح مجيئه ضروريا الآن على ما أظن.»
قال الأمير عبد الله: «لا بد من حضوره؛ فإنه صاحب رأي.»
الفصل السادس والعشرون
المائدة
وبينما هم في ذلك، إذ جاء الحاجب يقول: «إن سعيدا الوراق بالباب.»
قال الأمير عبد الله: «دعه يدخل.»
فدخل سعيد ووجهه يتدفق هيبة وذكاء، فتلقاه الأمير عبد الله مرحبا.
وكانت عابدة أكثرهم سرورا، فإنها لم تتمالك عند دخول سعيد عن الابتسام، ونظرت إليه فابتسم لها، وجلس وهو يحيي الأمير عبد الله، ثم الفقيه ابن عبد البر.
فقال الأمير عبد الله: «مرحبا بصاحبنا سعيد. لقد أبطأت في الحضور!»
قال سعيد: «لقد كنت مشتغلا بتدبير شئون منزلي، حتى أتفرغ لخدمة مولاي الأمير.» ثم أشار إلى عابدة وقال: «كيف رأيت عابدة اليوم؟»
قال الأمير عبد الله: «إنها تأتينا كل يوم بطرب جديد. بارك الله فيها.» ثم نادى ساهرا الحاجب وأمره أن يهتم بتهيئة الطعام.
وبعد برهة أعدت المائدة فقاموا إليها، واغتنم الفقيه غفلة من الأمير عبد الله وقص على سعيد أمر الكتاب الذي جاءه من أخيه الحكم، وإجابته عليه، فلما جلسوا إلى المائدة قال سعيد: «هذه أول مرة أتناول فيها الطعام مع الأمير عبد الله ابن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر، وهو شرف عظيم، والفضل في وصولي إليه يرجع إلى هذه الفتاة الأديبة.» وأشار إلى عابدة.
فأجابت عابدة، وعيناها تلمعان: «بل الفضل لك يا مولاي في وجودي هنا، فلولاك لم أنل هذه النعمة بمنادمة الأمير.»
فقطع الأمير عبد الله كلامهما قائلا: «والحق يقال إنكما صاحبا فضل علي؛ فإني أعد هذا الاجتماع طالع سعد جديد لم أصادف مثله من قبل.»
وكان الفقيه ابن عبد البر صامتا، فالتفت إلى الأمير عبد الله وبيده صدر دجاجة، يهيئه لوضعه في فمه، وقال: «أنتم جميعا أصحاب فضل إلا ابن عبد البر المسكين، وهو أول من فتح باب التعارف.» قال ذلك ووضع اللحم في فمه، ونظر إلى سعيد من طرف خفي وغمزه، فأجابه بإشارة لطيفة.
فضحك الأمير عبد الله وقد سري عنه، وقال مازحا: «ليس الفضل لأحد منا؛ وإنما الفضل لابن عبد ربه صاحب العقد الفريد؛ فإن كتابه دلنا على هذا الكنز الثمين.» وأومأ إلى عابدة بيد وإلى سعيد باليد الأخرى.
فتناول سعيد سكباجة بين يديه وناولها إلى عابدة وهو يقول: «ما بالك لا تأكلين يا عابدة، خذي تناولي من طعام الأمير واشكري الله على نعمه. إنك لا تبغين نعمة فوق هذه.»
فمدت عابدة يدها لتتناولها، وقطع الفقيه كلامه وهو يمد يده لتناول قدح الماء من الخادم المكلف بخدمتهم وقال: «ولو كانت عند ولي العهد؟» جعل هذه الجملة تتمة لما قاله سعيد.
فأجابه سعيد: «لست أظن أن ولي العهد إذا بلغه خبر عابدة، ولو في العراق، أن يتركها تفلت من بين يديه. لكننا لا نرضى عن مولانا الأمير عبد الله بديلا.»
فلما سمع الأمير عبد الله ذلك الحديث انشرح صدره؛ لأنه توسم في سعيد مساعدا له على رد طلب أخيه الحكم، وهو يظنه يقول ذلك ولا علم له بكتاب ولي العهد الحكم، فنظر إليه وقال: «ما قولك إذا جاءنا كتاب من أخي ولي العهد الآن، يطلب منا فيه عابدة؟»
قال سعيد: «لا أظنه يفعل ذلك بعد أن عرف أنها دخلت منزلك؛ فإن ما ناله من شرف ولاية العهد يشغله عن أن يسلبك جارية تجد متعة في حديثها. إن ولي العهد أسمى من أن يبلغ به الطمع إلى هذا الحد، فهو يدرك أنه نال بولاية العهد حقه وزاد عليه، فهل لا يترك لأخيه فتاة تسليه بحديثها؟!»
فنظر الأمير عبد الله إلى الفقيه وابتسم، يزعم أنه يفعل ذلك خلسة من سعيد، ويذكره بما اطلعا عليه من كتاب ولي العهد الحكم في ذلك المساء، فتجاهل سعيد وأتم كلامه قائلا: «وقد جرت عادة الخلفاء وولاة العهد في الإسلام أن يوسعوا لإخوتهم وأعمامهم أبواب الرزق، ويعطوهم الجواري والسراري، ويخصوهم بالإقطاعات الواسعة، ويفرضوا لهم الرواتب الباهظة، ويهدوا إليهم الهدايا الثمينة، تعويضا لهم عما خسروه من حق الملك وخوفا من نقمتهم، ومولانا ولي العهد يعلم ذلك، فكيف يعقل أنه بدلا من أن يهدي أخاه عشرات من أمثال هذه الجارية يطمع في أن يسلبه إياها؟!»
وكان سعيد يتكلم والفقيه يعجب بدهائه، وحسن أسلوبه في الإيحاء للأمير عبد الله بالإصرار على رفض طلب أخيه، والأمير عبد الله يعتقد أن سعيدا يقول ما يقوله وهو لا يعلم بما حدث، وكان يشعر عند سماع كلام سعيد أن الحق ظاهر في كل كلمة من كلامه، واقتنع بأقواله اقتناعا تاما، فأصبح يعتبر طلب أخيه الحكم تعديا على حقوقه، وسره أنه رفض طلبه، وتأسف لأنه لم يغلظ لأخيه في القول.
الفصل السابع والعشرون
كتاب آخر
ولما فرغوا من تناول الطعام انتقلوا إلى قاعة الاستراحة، وعادوا إلى سماع الغناء وسعيد يبالغ في مدح عابدة، والأمير عبد الله يزداد طربا بصوتها وإعجابا بأدبها وجمالها، حتى انتصف الليل وكادوا ينصرفون، وإذا بساهر الحاجب يدخل وبيده كتاب، ووقف حيث يعلم الأمير عبد الله أنه يريد مخاطبته، فناداه وقال: «ماذا تريد يا ساهر؟»
قال ساهر: «كتاب يا سيدي.»
قال الأمير عبد الله: «من الذي أرسله؟»
فتقدم ساهر به إليه وهو يقول: «من مولانا ولي العهد.»
فمد الأمير عبد الله يده وتناول الكتاب من ساهر، فعلم من عنوانه أنه من أخيه الحكم، فاختلج قلبه في صدره تطلعا لما عساه أن يكون فيه، ولا سيما أنه بعث به إليه في تلك الساعة، وكانت يداه ترتعشان وهو يفضه، وتطاول الحاضرون بأعناقهم وهم يتكهنون بما يحويه الكتاب، سوى سعيد، فإنه كان يعرف ما يحويه، ولم يفته خبر الكتاب الأول لأنه هو الذي حفز ولي العهد على كتابته دون أن يشاهده، ولكنه استخدم في الوصول إلى ذلك دهاءه وحسن تدبيره.
ففض الأمير عبد الله الكتاب وقرأه، ولم يتمالك أن رمى به إلى سعيد وقال له: «لقد صدق ظنك بأخينا ولي العهد؛ هذا هو كتابه، اقرأه.»
فتناول سعيد الكتاب وهو يقول: «وهل أقرؤه بصوت مسموع؟»
قال الأمير عبد الله: «اقرأ، فليس فينا من يحسن الحذر منه.»
فأخذ سعيد يقرأ الكتاب والجميع منصتون:
من الحكم ولي العهد، إلى أخيه الأمير عبد الله
أما بعد، فإني استبعدت أن تكتب إلي بما كتبت، وكدت أنكره عليك لو لم يكن بخطك وعليه خاتمك. أطلب منك جارية فتضن بها علي؟! وأنت - رعاك الله - لا تجهل منزلة أخيك ولي العهد لدى أمير المؤمنين، فإذا قرأت كتابي هذا فأرسل الجارية مع رسولي الليلة، وعهدي بفطنتك وحسن تدبيرك أنك فاعل إن شاء الله، والسلام.
وكان سعيد يقرأ الكتاب ويقف عند كل فقرة، ويهز رأسه استغرابا، حتى أتى على آخر الكتاب فدفعه إلى الأمير عبد الله وأطرق، وكان الأمير عبد الله وهو يسمع ما يحويه الكتاب ينظر إلى عابدة، فرآها قد تركت العود من يدها وقد بدت الدهشة على محياها، وتظاهرت بأنها تتهيأ للنهوض، فعظم ذلك على الأمير عبد الله، فلما أعاد سعيد الكتاب إليه تناوله وقال: «أرأيت ما بلغ من طمع أخي في؟ أصانعه وأجامله وألتمس رضاه وهو يهددني ويلح في طلبه!»
فقال سعيد وهو يظهر الدهشة: «لم يكن ذلك ليخطر ببالي أو أصدقه لو لم أقرأ هذا الكتاب بنفسي!»
فقال الفقيه بنغمة الفائز الظافر: «أما أنا فلم أكن أستبعده، وقد أشرت إلى مولاي الأمير عبد الله بمثل ذلك؛ لأني كنت أتوقعه، وهو - حفظه الله - يحسن الظن بأخيه، وربما أساء الظن بي، وحسبني أقول ما قلته لغرض لي، فهذا كتابه جاء شاهدا يؤيد قولي، فما عليك يا مولاي إلا الطاعة، فإن الرفض يجر إلى البلاء.»
فكبر على الأمير عبد الله تهديد الفقيه واستخفافه بعزمه أمام الفتاة فقال: «الطاعة؟! وهل لولي العهد الحكم طاعة علي في مثل ذلك؟! لم يبق إلا أن يطلب نسائي وأولادي إليه، أو لعله يريد أن أكون في خدمته أيضا!» قال ذلك وهو يهز رأسه.
فقطعت عابدة كلامه وهي تهم بالنهوض قائلة: «لا أريد أن أكون سببا في الخلاف بين الأمير وأخيه، فأولى بي أن أخرج أنا من هذه الدار وأعود إلى خبائي، أو أرجع إلى بلدي، ولست أنا أهلا لأن أكون موضع نزاع. لقد عهدنا أبناء الخلفاء يتنازعون على الخلافة، ولكنهم يتهادون الجواري والمغنيات والمقاطعات.»
فمد الأمير عبد الله يده إليها وأمسك بثوبها وأجلسها، وقد هاجت فيه الأريحية وقال: «ألا تعلمين أن خروجك من قصري إهانة لي، كأني عاجز عن حمايتك فيه. كيف يتسنى لأخي أن يأخذك مني قسرا؟ وإن تمكن من ذلك فإنني أخرج من هذا القصر قبلك.» قال ذلك وقد ظهر الغضب في عينيه.
فجلست عابدة وهي تتظاهر بالإذعان والانكسار، وتنظر إلى سعيد كأنها تستنجد به.
فنظر سعيد إلى الأمير عبد الله وقال: «تمهل يا مولاي. أعرني سمعك لحظة.»
فسكت الأمير عبد الله وقال: «تكلم، إني مستمع إليك.»
فتلفت سعيد في أطراف القاعة، كأنه يخشى أن يسمعه أحد، وقال: «هل نحن في مكان مصون لا بأس علينا إذا تكلمنا من واش أو رقيب؟»
قال الأمير عبد الله: «تمهل»، وصفق، فجاء الحاجب، فقال له: «لا تدع أحدا يقرب من مجلسنا.»
قال الحاجب: «سمعا وطاعة يا سيدي» وخرج وأغلق الباب خلفه.
فقال الأمير عبد الله لسعيد: «تكلم.»
فأرسل سعيد نظرة في عيني الأمير عبد الله نفذت إلى داخل أحشائه، فأحس أنه طوع إرادته. فقال سعيد: «لا ينبغي للأمير عبد الله أن يخرج عن رشده ويطعن على أخيه ولي العهد الحكم ويرد طلبه، إلا وهو على يقين مما يؤدي إليه ذلك من العواقب الخطرة، فعليك أن تتبصر في العواقب ثم تقول ما تريد، وقد ظهر لي من تلاوة هذا الكتاب أن ولي العهد كتب إليك كتابا مثله يطلب فيه عابدة فرددت طلبه، فأعاد الطلب مشفوعا بالتهديد والوعيد، فعليك إذا أزمعت الرفض أن تثبت فيه مهما كلفك ذلك، وإلا فأذعن وأطع، وكأنك لم تر عابدة ولا أتت إلى قصرك.»
فقطعت عابدة كلام سعيد قائلة: «اسمح لي يا سيدي أن أنبهك إلى أمر لعله لم يغب عن فطنتك. إني لا أري من الحكمة أن تحمل الأمير عبد الله على مخاصمة أخيه وهو صاحب القول اليوم، ولا أراه يستطيع أن يرد طلبه، ولا أحب أن أكون سبب هذا الخصام، فالأفضل أن أخرج أنا من هذا المكان أولا، فيكون عذره أني غير موجودة هنا، وأخشى إذا رد مولانا الأمير طلب أخيه وأنا باقية هنا أن يعمد إلى أخذي بالقوة، وأنا أعترف لك أني لا أريد بديلا عن سيدي الأمير عبد الله، فلا أبرح هذا المكان إلا قتيلة.»
فأعظم الأمير عبد الله تعلق عابدة به مع ما يتخلل قولها من العتاب الرقيق، وأخذته الحمية فقال: «قلت لك يا عابدة إنك في رعايتي، ولا يستطيع أحد أن يأخذك قهرا.»
فقال سعيد: «إذا كان مولاي الأمير عبد الله عازما على الرفض فليفعل، ولعله إذا تبصر في عاقبة ذلك يكون قد حقق ما فيه نفعه ونفع المسلمين.»
فأطرق الأمير عبد الله برهة وهو يفكر في مغزى كلام سعيد، فتصدى الفقيه ابن عبد البر للكلام قائلا: «أرجو أن يكون مولاي الأمير قد أدرك مغزى هذا القول، وأنا أزيده بيانا.» قال ذلك وزحف حتى التصقت ركبته بركبة الأمير عبد الله وقال بصوت منخفض: «أتذكر يا مولاي ما قلته لك بالأمس عن ولاية العهد وما يقوله الناس عن أمير المؤمنين ، وإسناده إياها إلى الحكم دون سواه؟ قلت لك يا مولاي إن الحكم لا يراه الناس كفئا لهذا المنصب لأسباب ذكرتها لك. وهم غير راضين عنه، لكنهم لا يجسرون على الكلام إن لم يجدوا من يطالب بها سواه، وهم يرون الأمير عبد الله أولى بها من الجميع، فإذا طلبها وجد أنصارا كثيرين، فإذا وافقتني وقمت بهذا الأمر، فما عليك إلا أن تقول.»
الفصل الثامن والعشرون
الجواب الثاني
وكان الأمير عبد الله في أثناء ذلك مطرقا يفكر وقد رجع إليه صوابه، وأحس بثقل الأمر الذي يدفعونه إليه، وندم على ما فرط منه، لعلمه بعجزه عن القيام به. لكنه استثقل الرجوع عن كلامه في الحال، فرأى أن يحتال في التخلص فقال: «أرى كلام صاحبنا سعيد أقرب إلى الصواب، فإننا ينبغي لنا قبل الإقبال على هذا الأمر أن نتدبر وننظر فيه قبل أن نشعل نارا لا نقوى على إطفائها. لا سيما وأن أمير المؤمنين هو صاحب الدولة اليوم، فقيامي بما تدعونني إليه يعد خروجا عليه، وهو لم يتعرض لي في شيء، ولا أرى عمل أخي الحكم إلا من عند نفسه، قد ارتكبه عن طيش، ولعل والدي أمير المؤمنين إذا علم به أثناه عنه.»
فقال سعيد: «لقد قلت الصواب يا مولاي ورأيت رأي أهل الحزم والعقل. فماذا تنوي إذن؟ هل تطيع أخاك فيما طلب؟»
قال الأمير عبد الله: «كلا، بل أرده، فإذا أصر عليه رفعت الأمر إلى أمير المؤمنين.»
فقال الفقيه: «لا أرى من الحكمة أن تضيع هذه الفرصة التي سنحت لك؛ إنها فرصة ثمينة يا مولاي، ولا تخش شيئا، إن في قرطبة ألوفا في انتظار كلمة من الأمير عبد الله ليبايعوه. وإذا أطعتني وعملت برأيي أدلك على الطريق، وإلا فالرأي لك.»
فنظر الأمير عبد الله إلى سعيد كأنه يستشيره فقال سعيد: «إن ما يقوله الفقيه قرين الصواب، وأنا أعلم الناس بخفايا هذا الأمر، وأزيد على ما قاله أن في قرطبة عصابات قوية تجتمع في الخفاء، وهي ناقمة على أمير المؤمنين نفسه لخروجه في خلافته عن سائر الخلفاء الراشدين، وتقريبه الخصيان والصقالبة والعبيد دون أصحاب هذه الدولة ورافعي علم الدين الحنيف، وهم يرون أن الدولة ستنتهي بذلك إلى غير أهلها. وكانت الآمال متعلقة بمن سيخلفه، لعله ينهج طريقا غير طريقه، ويرجع إلى الصواب، وكانت أفكارهم تتجه إلى مولاي الأمير عبد الله يأملون أن تصير الخلافة إليه، فلما رأوا أباه بايع أخاه الحكم ولم يبايع الأمير عبد الله، قطع حبل آمالهم ويئسوا من الإصلاح، فإذا طلبها مولانا الأمير وجد من يشد أزره، وإلا فإذا ظللت على بيعة الحكم فأنا مبايعه معك، وليس من الحكمة التسرع في نقض البيعة، فأنا لا أشير عليك بأن تفعل أو لا تفعل، ولكنني أقول ما أعلمه وأنت صاحب الرأي.»
فأعجب الأمير عبد الله بما تضمنه حديث سعيد من الإخلاص والحزم وصدق النصيحة؛ لأنه ظل يعد نصيحة الفقيه ابن عبد البر مشوبة بالغرض، بسبب نقمته على أخيه الحكم، وهو الذي حرمه من منصب القضاء، فقال: «لله درك من حكيم عاقل! وقد فهمت مرادك، فهل ترى سرعة البدء؟»
فأجاب سعيد وهو يظهر الجد: «لا، بل أنا أدعوك إلى التبصر في العواقب، فإن ظهورك بمنازعة أخيك الحكم على ولاية العهد أمر عظيم، يؤدي إلى فتن وحروب؛ إذ لا يسهل على الحكم التنازل عن شرف قلده إياه أبوه، ولا يصح للأمير عبد الله أن يطلب ذلك المنصب ثم يرجع عنه صاغرا. وإذا رجع هو فأنصاره الذين سيقومون بنصرته لا يرجعون حتى يسندوا الخلافة إلى أهلها الذين يعرفون قدرها، ويقومون بشروطها؛ لأن قيام هؤلاء ليس حبا في شخص الأمير عبد الله، ولكنهم أحبوا فضائله اللائقة بالخلافة رغبة في مصلحة أنفسهم، فإذا طالب بها هو ثم رجع عنها طلبوها لسواه. أرانا قد خرجنا عن الموضوع، ونحن في مسألة طمع ولي العهد الحكم بعابدة، فإذا رجع عن طلبه لم يبق ثمة داع للعجلة في مناوأته، وإلا فنرى ماذا يكون.»
وكان الأمير عبد الله والفقيه وعابدة شاخصين إلى سعيد، يسمعون كلامه ويعجبون لما يبديه من الحماس، ولا سيما الأمير عبد الله ، فإنه فهم أشياء لم تكن تخطر بباله، فهم أن ثمة عصابات وأحزابا تنكر مبايعة أخيه الحكم وتحب مبايعته، ولو كان من أهل المطامع لاتخذ من طلب أخيه ذريعة لشن حرب عليه، لكنه كان ضعيف العزيمة، وإنما سيق إلى ذلك بالإغراء، وظل مع ذلك يخشى مناهضة أخيه الحكم ويخشى سطوة أبيه، فرأى أن يعمد للمسالمة، وساعده على ذلك ما سمعه من سعيد فقال: «قد علمت أشياء لم أكن أعلمها.»
فقطع الفقيه كلامه قائلا: «والذي علمته أقل من الواقع يا مولاي، وستكشف لك الأيام قدر نفسك، وتعلم أنك رجاء الألوف وألوف الألوف.»
فأومأ سعيد بيده إلى الفقيه وقال: «لا ينبغي أن تحرض مولانا الأمير، فإن الصبر أولى والتأني لا بد منه، فالآن ما الذي يراه مولانا؟»
قال الأمير عبد الله: «إني أرى الفقيه متسرعا، وأوافقك يا سعيد على التأني وطول الأناة؛ ولذلك فأنا مرجئ هذا الأمر إلى فرصة أخرى؛ لأني لا أزال أرى أن أمير المؤمنين سينصرني ويقف في طريق أخي، فيرده عن هذا التعدي، فإذا لم يفعل ذلك فالأيام بيننا.»
فقطع سعيد كلامه قائلا: «نعم الرأي رأيك، وربما أدرك أمير المؤمنين عند اطلاعه على عمل ولي العهد أنه أساء الاختيار فيما عهده إليه، فيرجع إلى الصواب وينقل ولاية العهد إليك.»
فازداد الأمير عبد الله تمسكا برأيه، فقال: «فإذن نؤجل ذلك إلى فرصة أخرى، ونبحث الآن في طلب أخي.»
فقالت عابدة: «مهما يكن من رأي الأمير في طلب أخيه فأنا خارجة بأمره من هذا القصر.» قالت ذلك ونهضت وهي تجمع خمارها إلى صدرها، وقد ألقت العود من يدها.
فأمسك الأمير عبد الله بطرف ثوبها وأجلسها وقال لها: «كيف تخرجين؟»
قالت عابدة: «أخرج بأمر مولاي لأني أصبحت سببا في النزاع مع أخيه و... و...»
فقطع الأمير عبد الله كلامها قائلا: «لقد أمرتك بألا تخرجي، وقد قلت لك إنه لن ينال قلامة من ظفرك، وها أنا سأكتب إليه رد رسالته الساعة.» والتفت إلى سعيد كأنه يستشيره فيما يكتب.
فقال سعيد: «اكتب إليه بما أرى ولا تشدد الوطأة، فإن الحكمة تقتضي حسن الأسلوب لئلا تتغير القلوب، وإذا سمحت لي أن أكتب عنك كتبت، فإذا استحسنت ما أكتبه وقعت عليه وإلا رفضته.»
قال الأمير عبد الله: «اكتب.»
وكانت الدواة والقرطاس لا يزالان هناك، فتناول سعيد القلم وكتب:
من الأمير عبد الله إلى أخيه الحكم ولي العهد
أما بعد، فقد تسلمت كتابك، وعجبت لإلحاحك في طلب تلك الجارية بعد أن اعتذرت إليك عن إرسالها، وأنت مع ذلك تهددني وتعرض بما لك من المنزلة عند أمير المؤمنين - حفظه الله - وأمير المؤمنين أكبر من أن يجاريك في طلبك، ولعلك تحسب ذلك من حقوق ولاية العهد! على رسلك، ليس هذا من الصواب في شيء، وقد رأينا الخلفاء في الدولتين: الأموية بالشام، والعباسية في العراق، وفي دولة آل مروان هنا، إذا أكرموا أحد أبنائهم بولاية العهد عوضوا على سائر الأبناء والأعمام بالعطايا الجزيلة، ووسعوا لهم في أرزاقهم ووالوهم بالهدايا من الجواري والسراري والقصور والإقطاعات، فإذا علمت ذلك رجوت أن تعدل عن رأيك إلى ما هو جدير بك، في مراعاة حرمة أخيك بعد أن هنأك بما نلته من حق الخلافة، وأنت أعقل من أن تغير قلبه عليك، ونحن أحوج إلى التكاتف على عدونا من الانقسام فيما بيننا، والسلام.
فلما فرغ سعيد من الكتابة دفع الكتاب إلى الأمير عبد الله، فقرأه، فأعجبه أسلوبه، ولم يدرك ما فيه من التهديد، فوقع عليه وختمه، ونادى الحاجب وأمره أن يدفع به إلى الرسول. ففعل.
الفصل التاسع والعشرون
ختام الجلسة
أما سعيد فأراد أن يشغل الأمير عبد الله عن ذلك الشأن، فقال: «هل يأمر مولاي أن يسمع أغنية من عابدة قبل الذهاب إلى النوم، أم يفضل سماع الأحاديث والأشعار؟»
قال الأمير عبد الله: «نسمع شيئا من أخبار العرب.»
فالتفت إلى عابدة وقال: «قصي علينا ما تعرفينه يا عابدة.»
قالت عابدة: «وما عساي أن أقول بعد ما سببته من الخلاف بين الأمير عبد الله وأخيه ولي العهد الحكم؟! أود لو أني لم أخلق، أو أني لم أخرج من بغداد ولا أكون سببا لهذا الخلاف.»
فقطع الأمير عبد الله كلامها قائلا: «أنت تنقمين على وجودك، ونحن شاكرون له؛ لأنك ريحانة مجلسنا، وإذا وقع خلاف بيني وبين أخي، فهل هو أول خلاف وقع بين أخوين؟! ولو استطعت الصبر على الضيم لم أرض بالخلاف، ولكن أخي تجاوز حده. ما لنا ولذلك؟! قصي علينا ما يسلينا ساعة ثم ننصرف.»
فقصت عابدة بعض الأخبار وأنشدت بعض الأشعار بعبارة فصيحة زادت الأمير عبد الله تعلقا بها، وأخيرا ذهب كل منهم إلى فراشه، ولكل منهم هاجس، وأشد تلك الهواجس عند الأمير عبد الله.
فإنه حين توسد الفراش أخذ يراجع صيغة كتابه إلى أخيه، فتذكر عبارات لا تخلو من الشدة، ولكنه استسلم للقضاء، وقال في نفسه: «لعلها فرصة يعود خيرها علي!» واستسهل العمل بمشورة الفقيه في المطالبة بولاية العهد، وعلل نفسه بأن أباه لا يدع الخلاف يتمكن بين الأخوين إلى هذا الحد.
قضى تلك الليلة قلقا وهو يتقلب في فراشه، وما إن طلع الفجر حتى أسرع إلى المكتبة، وبعث إلى سعيد فجاء وقد تأهب لترتيب الكتب، فطلب إلى الأمير أن يسعفه ببعض الخدم لمعاونته. فجمع كتب الأدب على حدة، وكتب الفقه وحدها، وكذلك فعل بكتب الحديث والتفسير والشعر، ولم يجد بينها كتابا في الفلسفة أو الطبيعيات أو نحوها من الكتب المترجمة عن اليونانية؛ لأنهم كانوا يعدون اقتناءها من قبيل الزندقة، وكان الأمير عبد الله مشهورا بالتقوى والزهد حتى سموه الزاهد.
1
وقد رأيت فيما تقدم إنكاره أمر هذه الكتب على أخيه حينما قيل له إن أخاه يقتنيها، وكان ذلك الاعتقاد شائعا في العالم الإسلامي مسايرة لما يريده الخلفاء، وهؤلاء كانوا ينكرون أمر هذه الكتب مراعاة للدين على ما يفسره الفقهاء في ذلك العهد، وكان رجال السلطة يراعون أقوال الفقهاء احتفاظا بنفوذهم لدى العامة.
فكان للفقهاء في الدول الإسلامية يومئذ نفوذ عظيم، وقد يكون الخليفة أو السلطان المسلم لا ينكر الفلسفة ولا يعتقد مخالفتها للدين، ولكنه يضطهد أصحابها مراعاة لشعور العامة.
على أن الفلسفة لم يكن لها وجود في الأندلس إلا بعد زمن الناصر؛ أي بعد أن دخلتها رسائل إخوان الصفا في أواسط القرن الرابع. فنبع فيها ابن باجة، وابن رشد، وابن الطفيل في القرن السادس للهجرة. أما في أيام الناصر التي نتحدث عنها، فقد كان قراء الفلسفة قليلين، وكان قد دخل بعض كتب الفلسفة في أيام عبد الرحمن الأوسط، فأخذ بعضهم بشيء منها ومن علم النجوم والرياضيات، ولم ينبغ من العلماء في هذه الفنون إلا عدد قليل، وإنما كان رجال الدين يحرمون هذه الموضوعات اقتداء بالدولة العباسية، فإنها كانت تطارد رجال الفلسفة وتتهمهم بالكفر في أوائل التمدن الإسلامي.
الفصل الثلاثون
طبيب ماهر
كان عبد الله يراقب حركات سعيد في انتقاء الكتب حسب الموضوعات، وربما ساعده في فرزها وهو في شغل من نفسه بأمر أخيه وعابدة. ونحو الظهيرة أحس بتعب وانحراف في صحته، فأخبر سعيدا بأنه مضطر للراحة، وبقي سعيد ثم جاء الفقيه، فلما قيل له إن عبد الله في فراشه أخذ يعاون سعيدا ويحادثه، ويتكهن كل منهما بما عساه أن يكون جواب الحكم على كتاب عبد الله الأخير مع ما فيه من المغامز، فكان الفقيه يزعم أنه موقن بما سيكون حتى قال: «كأني أرى جند الحكم وأعوانه قادمين للقبض علينا وعلى عابدة.»
فهز سعيد كتفيه كأنه يقول «لا أعلم»، ثم قال: «لا أحسب أن ولي العهد يفعل ذلك، ومهما يكن من أمر، فإن عابدة لن تذهب إليه ولو رضي الأمير عبد الله.»
فضحك الفقيه واقترب من سعيد، وفي يده كتاب ينفض عنه الغبار ويقدمه إليه ليضعه في مكانه وقال: «وخلاصة القول: إن النفور قد وقع بين الأخوين، ولا يلبث أميرنا أن يوافقنا على القيام ضده، وأنت ترشدنا إلى الأحزاب المناصرة لنا، فلا يمضي العام إلا وقد انتقلت ولاية العهد أو الخلافة إلى صاحبنا.»
فنظر سعيد في عيني الفقيه، وقد استغرب تسرعه في الحكم، كيف أنه تصور بلوغه إلى أقصى المراد وهم لا يزالون في أول الطريق، بل هم لم يخطوا خطوة واحدة بعد! ومن الناس من تراه سريع التمسك بحبل الأمل، حسن الظن بالدهر إذا تصور عملا يعود عليه بالنفع، فبمجرد التصور أو الظن يحسب أن الأمر قد قضي وأنه سينال ما يريد، فهذا وأمثاله لا يرون الدنيا إلا من وجهها الأبيض، ويعبر عنهم بالمتفائلين؛ لأنهم لا يتوقعون دائما إلا الخير، وكان الفقيه منهم؛ خلافا للفئة الأخرى التي لا يتوقع أصحابها في أعمالهم إلا الفشل وهم المتشائمون.
ولم يكن سعيد من المتفائلين أو المتشائمين، وإنما كان يقيس المستقبل على ما يراه في الحاضر، فكان رأيه في نتيجة تلك المغامرة يختلف عن رأي الفقيه، ولكنه كان لدهائه يتظاهر بالجهل والسذاجة حتى يوحي بما يريد الإيحاء به من الأغراض، وكان ينظر إلى الفقيه كأنه طفل لا يعرف من أحوال الدنيا شيئا؛ ولذلك فإنه يستطيع أن يوجهه كيفما يشاء.
قضوا ذلك النهار في المكتبة، والأمير عبد الله لم يغادر فراشه، ولما أمسي المساء ذهب الفقيه للسؤال عن الأمير، فقيل له إنه محموم، وعنده ساهر الحاجب، فاستأذن في الدخول عليه فأذن له، وسأله عن حاله ثم قال له: «ألا تأمر بطبيب يراك؟»
قال عبد الله: «وأي طبيب؟»
قال الفقيه: «الأطباء كثيرون في قصر أمير المؤمنين، وإذا شئت استحضرنا لك سلمان بن تاج طبيب أمير المؤمنين نفسه، أو أحمد بن جابر طبيب ولي العهد
1
أو غيرهما، إن الأطباء كثيرون.»
فهز رأسه وقال: «لا هذا ولا ذاك.»
فقال الفقيه «أو إذا شئت استشرت سعيدا صاحبنا؛ فإنه عالم بفن العلاج مثل علمه بسائر العلوم، إنه رجل عجيب.»
فلما ذكر سعيدا أحس الأمير عبد الله بارتياح وقال: «إن هذا الرجل من نوادر الزمان، وأشكر الله على أني وفقت للوصول إليه، ولك الفضل في ذلك.»
فأطرق الفقيه تأدبا وقال: «في الحق إن سعيدا نادر المثال.»
فقال الأمير: «وعابدة؟ أليست نادرة المثال أيضا؟ هل رأيت فتاة أديبة تعرف الشعر والغناء مثلها؟» وكأنه تذكر حديث الأمس فانقبضت نفسه، فابتدره الفقيه قائلا: «هل يأذن سيدي في استقدام سعيد لعله يصف لك علاجا؟»
قال عبد الله: «ادعه، إن لم يكن للعلاج بدوائه فللاستئناس برؤيته.»
فأشار إلى ساهر، فخرج وعاد وسعيد معه، وكان الليل قد أسدل ستاره وأنيرت المصابيح، ولحظ سعيد من احمرار عيني الأمير أن الحمى شديدة عليه، فأخذ يده فجس نبضه وأطرق كأنه يتأمل حركة النبض ثم قال: «ألم يجمع مولانا الأمير ماءه؟ (البول)»
2
قال عبد الله: «قد جمعته في هذه القارورة.» وأشار إلى الغلام فأتاه بقارورة فيها البول. فتناولها سعيد وتطلع إليها هنيهة ثم قال: «إن مولانا مصاب بحمى غضبية، وهذا النوع من الحمى لا خوف منه، وإن اشتد.»
فأعجب عبد الله بسرعة تشخيصه، ووافق ذلك ما في نفسه؛ لأنه كان يعتقد ذلك، وكانت هذه الحمى معروفة عندهم بهذا الاسم، فقال: «أظنك عرفت الحقيقة؛ لأني أصبت بها مرة من قبل وشفيت منها. يظهر أنك طبيب ماهر.»
قال سعيد: «إن معرفة هذه الحمى أمر يسير.»
قال عبد الله: «كيف عرفتها؟ وعلى من قرأت الطب؟»
قال سعيد: «تعلمته بالمزاولة على إمام الأطباء الشيخ محمد بن زكريا الرازي رئيس بيت الشفاء في بغداد، وهو الذي دبر مارستان الري وألف كتاب الحاوي الذي يعتمد عليه الأطباء اليوم في دار السلام.»
قال عبد الله: «صدقت، إن الرازي إمام أهل الطب، ولكنني أحسبه مات.»
قال سعيد: «نعم، إنه مات منذ بضع عشرة سنة. وقد جاء في كتابه المشار إليه وصف كاف عن هذه الحمى.»
قال عبد الله: «وما العلاج؟»
قال سعيد: «إنه يعالجها بالمفرحات وسماع الطيب من الحكايات، واللعب، والاستحمام بالماء الفاتر، والتمرخ بدهن كثير، والتغذية بما يبرد ويرطب.»
3
فقال الفقيه: «لله درك من طبيب نطاسي! إن العلاج سهل. أما المفرحات فهذه عابدة قريبة، وعودها رخيم، والحمام الفاتر سهل المنال.»
فأشار عبد الله إلى الغلام أن يعد له حماما فاترا، والتفت إلى سعيد، وقال: «سأدخل الحمام بعد قليل، ومتي خرجت منه تأمر عابدة أن تغنينا أغنية مفرحة.»
فنهض سعيد وهو يقول: «سأعود إلى الأمير بعد قليل ومعي عابدة. عجبا لها من فتاة، لها نفع كثير!»
وخرج ومعه الفقيه ثم أحضر له المروخ ليتمرخ به عند الخروج من الحمام، وبعد ساعة بعث الأمير إليه أنه استحم وتمرخ، فجاء سعيد ومعه عابدة تحمل عودها، وجاء الفقيه ودخلوا على الأمير في غرفته، وأخذت عابدة تعزف على عودها وتغني، وكان الأمير قد أحس براحة منذ خرج من الحمام، فانشرح صدره لسماع الغناء، واستأنس بالفتاة وزاد تمسكا بها، وشعر براحة تامة كأنه لم يكن به بأس، فلما انقضى جانب من الليل أشار سعيد عليه بالنوم مبكرا التماسا للراحة، فأطاعه، وخرجوا على أن يبكروا في الغد، وذهب كل إلى منزله في قصر مروان.
وفي صباح اليوم التالي خلا سعيد بعابدة يعلمها شيئا من الشعر، وهي إنما كانت تتلذذ بمجالسته شغفا بحديثه وتمتعا برؤيته؛ لما علمته من تعلقها به، فقد كانت تهيم به وتتفانى في حبه، ولا تبالي بما تتجشمه في سبيل طاعته.
الفصل الحادي والثلاثون
طارق
وبينما كان سعيد في ذلك، إذ جاءه رسول الأمير يستقدمه إليه فأسرع، وقبل وصوله إلى باب القصر لاحظ أن بالباب رسولا صقلبيا من صقالبة الناصر، وتأكد من ذلك حين أقبل على الباب، فرأى الرسول واقفا هناك وقد ترجل عن جواده، وبجانب الجواد هودج عليه ستائر. كأن فيه امرأة.
فلما أقبل على الباب تقدم الحاجب ساهر واستقبله، وأشار إليه أن يدخل على الأمير، فدخل توا فرآه لا يزال في فراشه، وقد نزع عمامته ولبس قبعة النوم، ورأى الفقيه بين يديه وكلاهما ساكت، وفي يد الأمير رق عرف من العلامة التي على ظهره أنه كتاب من أمير المؤمنين، فتجاهل وحيا وهو يبتسم وينظر إلى الأمير نظرة مستفهم عما هو فيه، وابتدره قائلا: «كيف أصبح مولانا؟»
قال عبد الله: «أصبحت بخير من فضل الله، وقد فارقتني الحمى، لكنني لا أظنها إلا عائدة إلي قريبا.»
قال سعيد: «لا تخف يا سيدي. إنها لا تعود بعد ذهابها. وماذا أرى؟» وأشار إلى الرق.
فأشار عبد الله إلى الفقيه أن يغلق الباب، ومد يده وناول الرق إلى سعيد.
فتناوله سعيد وقرأه وأعاد قراءته، ثم نظر إلى الفقيه فرآه ينظر إليه وينتظر ما يبدو منه، فتلفت سعيد حوله، ثم وجه كلامه إلى الأمير عبد الله قائلا: «هذا شأن آخر. لم يخطر لي على بال.»
قال الفقيه: «لم يخطر لك ولا لمولاي ولكنه خطر لي، وقلته ولم تصدقوني.»
قال سعيد: «لم يخطر لي أن أمير المؤمنين يمالئ ولي العهد على طلبه.»
فقال الفقيه: «أستغرب كيف لم يخطر لك ذلك وأنت الحكيم العاقل الذي لا يفوته شيء! ألا تعلم أن الرجل إذا انغمس في الترف والقصف طلب الزيادة منهما؟ وإذا تعود الاستبداد هان عليه الظلم؟»
وكان عبد الله مطرقا يفكر فرفع رأسه وقال: «يهون عليه أن يظلم ابنه أيضا؟!»
فقال الفقيه: «هو لم يظلم ابنه، ولكنه ظلم الأمير عبد الله التقي الزاهد انتصارا لابنه العامل على رأيه في كل شيء. انتصر لولي عهده.»
فقطع سعيد كلامه قائلا: «إنه لم ينصر ولي العهد، وإنما يطلب عابدة إلى قصره.»
قال عبد الله: «يطلبها إليه ليعطيها لولي عهده.» قال ذلك وصر على أسنانه واستلقى على الفراش وتنهد.
فقال سعيد: «لا تغضب يا سيدي. كن على يقين أن ولي العهد لن ينالها، وقد سمعت من عابدة نفسها في الأمس أنها لن تذهب إليه ولو قطعوها إربا.»
قال عبد الله: «ولكن هل نعصي أمر والدي في إرسالها؟ ألا ترى أنه يطلب إنفاذها إليه في هودج القصر؟ ألم تر الهودج في الحديقة؟»
قال سعيد: «نعم رأيته، وإذا ذهبت إلى القصر فهو قصر الزهراء، لا يقيم فيه ولي العهد كما تعلم.»
قال الفقيه: «ولكنه يحتال هذه الحيلة علينا لعلمه أن الأمير عبد الله لا يمكن أن يعصي أمر والده، فيرسل الفتاة حالا، ومتي صارت في قصر الخليفة سلمها الخليفة إلى ولي عهده.»
فأطرق سعيد هنيهة وهو يفكر. ثم أعاد النظر إلى الرق وقرأه ثانية وقال: «لا يمكن أن يفعل ما تقول؛ فإنه يطلب إرسال عابدة ليراها بعد أن سمع بأدبها ورخامة صوتها. نعم هو يقول إنه سمع ذلك من ولي العهد، ولكنه إذا رآها لا يعطيها له.»
قال الفقيه : «وهل تظن أن ولي العهد يسكت عنها ولا يطلبها من أبيه؟ وإذا طلبها منه هل تظن أن أمير المؤمنين يغضبه ويحول بينه وبينها؟»
قال سعيد: «أظن أنه يغضبه، ولا يسلمها له.»
فقال الفقيه: «وهل يرضى الحكم بذلك؟ ويرضخ كما يفعل مولانا الأمير؟»
فقطع الأمير كلامه قائلا: «إن طاعة والدي فرض علي وعليه، فإذا لم يرض أو إذا آثره والدي علي بهذه الجارية ...» ولما وصل إلى هنا اعتدل في مجلسه، وقد تملكه الغضب، وجعل يحك أنفه ويهز رأسه. متشاغلا عما جال في خاطره.
فقال الفقيه: «اسمع يا مولاي. إذا امتنع أمير المؤمنين عن تسليمها لأخيك، وغضب هذا وتنافرا، كان ذلك غاية ما نرجوه؛ لأن الخليفة يرجع عند ذلك عن قراره ويجعل ولاية العهد إليك. ولكن ما قولك إذا لم يتغاضبا عليها؟»
وكان الأمير عبد الله قد اشتد حنقه حتى عجز عن كظمه وخاصة لانحراف مزاجه، والرجل أثناء المرض تبدو له الأمور غير ما تظهر في حال صحته، وكثيرا ما تهون عليه وهو في اعتدال مزاجه وتمام صحته أمور لا تهون عليه وهو مريض، وذلك أمر مشاهد لا ريب فيه. حتى التوعك البسيط، يبعث صاحبه على حدة الطبع والخروج عن الاعتدال، فيخونه الصبر ويعصاه الكظم، فيقول ما لا يرضاه لنفسه وهو في صحته، فالأمير عبد الله كان يحمل نفسه مضض الكظم خوفا من الفشل، وكان يرجو نصرة أبيه. فلما رأى أباه يطلب نفس ما طلبه أخوه غضب وهان عليه الخروج عن طاعته. فلما سمع سؤال الفقيه: «وإذا لم يتغاضبا؟» صاح: «إذا لم يتغاضبا سوف أغضب أنا.»
فقال الفقيه: «وهل تعرف الغضب يا سيدي؟!»
فنظر سعيد إلى الفقيه شزرا وقال: «أراك لا تحسن التعبير يا فقيه! إن العاقل لا يغضب إلا قليلا، وإذا غضب كان غضبه عظيما. ألا تذكر ما كان من صبر مولانا وطول أناته، وكم أردت إغضابه ولم يغضب؛ لأنه كان يتوقع بابا للفرج محافظة على كرامة أمير المؤمنين، ومراعاة لحقوق أخيه، فلما لم يفد الصبر غضب، وليس غضب مثله يجوز في كل حال؛ لأنه لا يغضب ويرضى في كل ساعة كالأطفال، وإنما يصبر ويكظم، حتى إذا يئس من المسألة غضب، فتغضب لغضبه الأمة برمتها، ولا ترضيه عند ذلك كلمة لطيفة، وإنما يرضيه أن يعود إليه حقه بعد ضياعه.» وكان يتكلم بلهجة الجد، فلما وصل إلى هنا تراجع وأظهر أنه صرح بما لم يكن يريد التصريح به.
الفصل الثاني والثلاثون
إلى أمير المؤمنين
فتأثر الأمير عبد الله من قوله، ورأى أن الحق في جانبه، وحاول مع ذلك أن يمسك نفسه فلم يجد له مسوغا بعد أن رأى أباه قد ساند أخاه على سلبه تلك الجارية، فلاح له عند ذلك أن يتثبت من المساعدة التي يرجو أن ينالها إذا ناهض أباه، لكنه تهيب أن يطلب ذلك من تلقاء نفسه، ونظر سعيد في عينيه نظرة اكتشف بها مكنونات قلبه، وأدرك ما يجول في خاطره، فعلم أن النبتة أوشكت أن تؤتي أكلها، فأراد أن يتعجل نضجها، فدنا من مجلس الأمير ونظر إليه نظرة الجد والاهتمام وقال: «اعلم يا مولاي أنك لم تدخر وسعا في مجاملة أخيك، وأنت الآن ينبغي لك أن تجامل أباك، على شرط أن لا يقلل من منزلتك ولا يميز أخاك عنك، فإذا أنصفك فهو أمير المؤمنين، وإلا، فلا يعدم الحق أنصارا.»
قال الأمير: «ترى إذن أن أرسل إليه عابدة؟»
قال سعيد: «ألا يقول في كتابه أنه يحب أن يراها ثم يعيدها؟ وأنا سأكون معها كما أنا معها هنا لأعلمها وأفقهها، فلا تخف أن يضيع شيء من حقك.»
فتصدى الفقيه قائلا: «إذا دخلت عابدة قصر الزهراء، فإنها لن تعود إلينا. اعلم هذا من الآن.»
فقال عبد الله: «إذن لا أخرجها من منزلي إلا بالقوة.»
فقال سعيد: «ليس هذا من حسن السياسة في شيء. سنذهب الآن وإذا مضى يومان ولم يؤذن برجوعنا حق لك كل ما تريد.»
وكان الفقيه يفكر في الأمر، ولا يرى أن هذه الطريقة تحقق غرضه، فقد يحبس سعيد هناك، ولا يبقى له من يعول عليه في نصرة الأمير للقيام ضد أبيه ، فقال: «لا نأمن إذا دخلت قصر الزهراء أن تحجز فيه.»
فقطع كلامه قائلا: «لا تخف.»
وبينما هم في ذلك إذ جاء ساهر وقال: «إن الرسول يطلب الجواب حالا.»
فالتفت سعيد إلى الأمير فرآه ينظر إليه فقال: «اكتب إلى أبيك أنك أطعت أمره وأرسلت الجارية مع أستاذها، واطلب إليه أن يعيدها إليك بعد يومين. هل أكتب عنك لأنك مجهد بسبب الحمى؟»
قال عبد الله: «افعل.»
فتناول سعيد قرطاسا وقلما وكتب:
إلى أمير المؤمنين الناصر من ولده عبد الله
أما بعد، فقد أخذت كتاب سيدي الوالد الذي يطلب فيه الجارية الأديبة التي كان أخي الحكم قد طلبها لنفسه، فدفعته بالحسنى، على أن يكتفي بما منح من نعم الله وفضل أمير المؤمنين، ويترك لي هذه الجارية أتمتع بأدبها وغنائها في وحدتي وانقطاعي. ثم جاءني كتاب مولاي بإرسالها إليه ليراها ثم يعيدها، فأطعت وفعلت، وقد أرسلتها مع أستاذها سعيد الوراق، وهو الذي جاءني بها واشترط أن يكون في صحبتها ليقرئها الأدب ويحفظها الشعر، وهو أهل لثقة أمير المؤمنين، وعهدي بالوالد - حفظه الله - أن يعمل بما قال، وعنده ألوف من الجواري الحسان على اختلاف الأصناف، فلا يبخل علي بهذه وقد استأنست بأدبها، وهو فاعل إن شاء الله.
ودفع الكتاب إلى الأمير عبد الله، فقرأه ووقع عليه باسمه ودفعه إلى ساهر ليعطيه للرسول، واستأذن في الذهاب إلى عابدة، وكانت في غرفتها تنتظر أمر عبد الله في الخروج إليه، فلما رأت سعيدا قادما إليها خفق قلبها فرحا برؤيته، فهش لها وسلم عليها ومد يده لمصافحتها، فصافحته وقلبها يرقص فرحا، ولبثت تنتظر ما يقول.
فأجلسها وجلس إلى جانبها وهو ينظر في عينيها، فلم تتمالك إلا الإطراق فقال: «قد وفقت إلى ما يسرك.»
فأجفلت وقالت: «هل آن لنا أن نجتمع؟»
قال سعيد: «نعم.»
فضحكت فرحا وقالت: «أين؟»
قال سعيد: «في قصر الزهراء.»
فدهشت ولم تفهم مراده، وظهر الاستغراب على وجهها وقالت: «مالي ولذلك القصر؟»
قال سعيد: «إن المهمة التي جئت من أجلها لا تتم إلا هناك.»
قالت عابدة: «إني لا أطلب القصور.»
فقال سعيد: «ألا يسرك أن نكون معا هناك؟»
قالت عابدة: «كلا؛ لأني هناك لا أكون لك.»
قال سعيد: «لا يتم لنا ما نريده إلا بعد الذهاب إلى ذلك القصر، وستكونين هناك جارية منادمة وأدب إلى أجل مسمى.»
فقطعت كلامه قائلة: «لا، لا أريد القصور. أفضل أن أكون معك في كوخ حقير على أن أكون ...»
فقطع كلامها وقال وهو قابض على يدها ينظر في عينيها: «أريد أن نكون معا هناك. وقد وعدت أن تساعديني في تحقيق الغرض الذي قمنا من أجله.»
فأحست بقشعريرة ذهبت بإرادتها، وشعرت أنها طوع إرادته، ولم تتمالك أن قالت: «افعل ما تريد. إذا كان ذلك يسرك.»
قال سعيد: «لا يسرني فقط، ولكنه واجب لا بد من قضائه، فإذا فرغنا من هذه المهمة تفرغنا للحياة معا. هل أنت على وعدك بأن تفعلي ما أوصيك به؟»
قالت عابدة: «نعم.»
فمد يده إلى جيبه وأخرج حقا فيه مسحوق وقال: «احتفظي بهذا العقار لأنبئك بما يلزم أن تعملي به.»
فتناولت الحق وجعلت تنظر فيه فقال: «لا تنظري فيه طويلا، سوف تعلمين ماذا تفعلين به. خبئيه بين ثيابك وانهضي لنذهب معا، إن الهودج في انتظارك خارجا.»
فنهضت وأصلحت من شأنها وهي مسرورة بأنها تفعل ما أمرت به، ونسيت نفسها وتغاضت عن أمنيتها كأنها نومت تنويما مغناطيسيا.
خرجت وركبت في الهودج، وتوجه هو إلى الأمير عبد الله فودعه وودع الفقيه وطمأنها، وركب بغلته وسار في أثر الهودج يطلبون قصر الزهراء.
ولم يكن لهم بد من المرور على القنطرة فوق الوادي الكبير، فتجاوزوها والرسول يتقدمهم وهم يسيرون في أثره، وسعيد يهيئ ما يقوله، وعابدة داخل الهودج تسترق النظر إليه من خلال أستاره، كلما سنحت لها الفرصة، وكلما رأته تتنهد وتقول كأنها تخاطبه: «ما لنا وللملوك وللدول! دعنا من هذه المطامع ولنعش معا في رغد وهناء، وليس في صحبة الملوك غير العناء، ولكن أبت مطامعك إلا أن تشقى وأشقى أنا معك، ولا تدري مصيرنا أين يكون؟»
الفصل الثالث والثلاثون
قصر الزهراء
وبعد أن قطعوا الجسر عرجوا غربا بجوار القصر الكبير، ثم ساروا شمالا يطلبون الزهراء، وهي سفح جبل أسود على بعد أربعة أميال من قرطبة، والطريق بينها وبين قرطبة صحراء رملية.
أقبلوا على الزهراء عن بعد قبيل الظهر، وكان يوما صحوا صفا جوه، فبدت أبنية الزهراء كالجبال الراسخة تتخللها الأغراس من الشجر والرياحين، وتنعكس الأشعة على جدرانها الملونة بأنواع الرخام، أو الأصباغ، وبينها القباب والمآذن والقناطر والعقود والأعمدة، وعليها النقوش والصور. عدا الأحواض فوقها التماثيل من المرمر المصفح بالذهب، فدهش سعيد لتلك المناظر ولم تكن أول مرة رأى فيها الزهراء، ولكنه لم يكن قد تبين تفاصيلها، فرأى أن يلهو بقية الطريق بالاستفهام عنها، فنادى الرسول الصقلبي، فوقف، فقال له سعيد: «إني أرى الزهراء أعجب ما صنعه الآدميون!»
قال الرسول: «نعم يا سيدي، لقد أجمع الذين شاهدوها أنها أعظم ما صنعه الإنسان، وقد تكلفت ما لا يقدر من النفقات، فإن أمير المؤمنين أخذ في بنائها منذ بضع عشرة سنة، ولا يزال العمل جاريا، ولا أظنه يفرغ قبل مرور عدة سنوات.»
قال سعيد: «هل تعرف كم بلغ مقدار هذه النفقات؟»
قال: «لا أعرف مقدارها تماما، ولكنني أعلم أن عدد الفعلة فيها 10 آلاف عامل، وعدد الدواب 1500 دابة، وقدروا ما يستهلك فيها من الصخور المنحوتة كل يوم بستة آلاف صخرة سوى الآجر. وأما الرخام فهو كثير في هذا القصر كما ترى، ومع ذلك فإن أمير المؤمنين يثيب عن كل رخامة صغيرة أو كبيرة عشرة دنانير، ولم يدع بلدا فيه رخام إلا بعث في شراء رخامه حسب الأنواع. فجلب إليها الرخام الأبيض من المربية، والمجزع من رية، والوردي والأخضر من اسفاقس وقرطاجنة، وفي أحد هذه القصور حوض من الرخام منقوش بالذهب، أحضره من القسطنطينية. فتأمل هذه الهمة العالية! هل سمعت بمثلها بين الملوك؟»
فأحب سعيد أن يستزيده شرحا عما في تلك القصور من مظاهر البذخ والإسراف فقال: «لم أسمع بمثلها، ولكنني سمعت عن ملوك لا يكتفون بالرخام في أبنيتهم، وإنما يدخلون فيها فضلا عن ذلك الذهب والفضة .»
فقطع الصقلبي كلامه، وقال وهو يضحك ويشير بيده إلى قصر نحو الشرق: «هل ترى هذا القصر الشاهق هناك؟ إنك لا ترى منه إلا ما يكاد يخطف البصر من الأشعة اللامعة المنعكسة عن الجدران والنوافذ، ولو اقتربت منه لرأيت عجبا، إن هذا القصر يعرف بالمؤنس، ويسمى أيضا المجلس الشرقي، وفيه غرف النوم، وفي هذا البيت اثنا عشر تمثالا من الذهب الأحمر مرصعة بالدر النفيس من إنتاج دار الصناعة في هذه المدينة، بينها صورة أسد إلى جانبه غزال فتمساح، وغيرها من أنواع الحيوانات مصنوعة من الذهب المرصع، ويخرج الماء من أفواهها إلى حوض كبير. إن بناء هذا القصر كلف أمير المؤمنين مبالغ طائلة، ولم يعتمد في الإشراف على بنائه على غير ابنه ولي العهد، ولا يزال العمل جاريا فيه.
وقد سمعت صديقا لي من خصيان هذا القصر يقول: إن أمير المؤمنين ينفق ثلث جباية المملكة في بناء هذه القصور.»
فصاح سعيد: «ثلث الجباية! إن ذلك كثير. أتعرف مقدار الجباية يا صاحب؟»
قال الرسول: «أعرف أنها نحو ستة آلاف ألف ألف دينار. هكذا يقولون.»
1
فقال سعيد: «فاحسب كم يبلغ ثلثها! إن هذا القول لا يخلو من مبالغة.»
قال الخصي: «لا، لا أظنك تجد فيه مبالغة إذا عرفت كيف بني قصر الخلافة أيضا، وهو البناء الذي تراه في وسط هذه القصور. إن قصر الخلافة هذا جدره من الذهب والرخام السميك، وفي وسطه اليتيمة التي جاءتنا هدية من اليون ملك القسطنطينية. ويكفي أن تعلم أن قراميد هذا القصر من الذهب والفضة
2
غير الصهريج القائم في وسطه المملوء بالزئبق، ولمجلس هذا القصر أبواب عقدت على حنايا من العاج والآبنوس المرصع بالذهب وأصناف الجواهر، قامت على سواري من الرخام الملون والبلور الصافي. ولا حاجة بي إلى زيادة التفصيل، إذا لا تلبث أن ترى ذلك رأي العين، فلا تدهش حينذاك مهما قدرت النفقات.»
فقال سعيد: «لا تستهن بمقدار الجباية، ولكنني سمعت من بعضهم أن مقدار النفقة تبلغ كل عام 3000000 دينار، فانظر كم يجتمع من ذلك حتى يتم البناء في أربعين سنة.»
وكانت عابدة تسمع حديثهما وتعجب، وتاقت نفسها إلى رؤية ما هنالك من التحف، وقد ذهبت وحشتها من ذلك الانتقال.
وكانوا يقتربون شيئا فشيئا حتى أقبلوا على باب الزهراء الأول، ويعرف بباب الأقباء، وقد وقف عنده الحرس من الفرسان العبيد وبعض الحشم، فلما رأوا الصقلبي عرفوا أنه رسول الخليفة، ففتحوا له حتى دخل بالهودج، وسعيد معه يتفرس في وجوه الناس هناك، فرأى أكثرهم من العبيد. فمشى مسافة حتى أقبلوا على الباب الثاني من أبواب الزهراء، ويعرف بباب السدة وهو عظيم قائم على أعمدة، وعليه البوابون وأعوانهم بالملابس الخاصة بهم، وبعد أن دخلوا هذا الباب جعلوا يمرون بين الأشجار وبينها طرقات مرصوفة بالحصى الملونة، وقد تزينت جوانبها بالرياحين والأزهار، ونظر سعيد إلى ما حوله فوجد نفسه محاطا بالقصور من كل ناحية، وأول ما استقبله القصر الممرد وفيه السطح الممرد يجلس فيه الخليفة في الاحتفالات الكبرى، وإلى يساره قصر الخلافة يجلس فيه الخليفة للعمل، وإلى اليمين قصر المؤنس وفيه غرف النوم وغرف الجواري.
الفصل الرابع والثلاثون
ياسر
وشغل سعيد بمشاهدة الذين كانوا في تلك الحدائق من الغلمان الوصفاء عليهم الملابس الملونة تزيدهم جمالا، وقد تقلدوا السيوف المزينة، وكبار الخصيان وذوي الأسنان، ولم يلتفت أحد منهم إلى الهودج وأصحابه؛ لأنهم كثيرا ما كانوا يرون الجواري تحمل به إلى هناك.
وكان سعيد يبحث بنظره بين هؤلاء لعله يجد ياسرا صاحبه، ثم فطن إلى أنه لا بد أن يراه ليسلم إليه عابدة، لتكون في عهدته حتى يطلبها الخليفة، فنادى الرسول فوقف، فقال له: «أين ياسر رئيس الخصيان؟»
فأشار يبده نحو قصر المؤنس وقال: «نحن ذاهبون إليه.»
فمشي سعيد معه حتى إذا اقترب من ذلك القصر رأى الرسول يترجل بسرعة، فأدرك أنه يفعل ذلك لأنه رأى أحدا من ذوي المراكز الكبيرة قادما، فالتفت فإذا هو ياسر قادم وحوله الغلمان كأنه ملك بين الأتباع والأعوان، فأسرع الرسول إليه وقبل يده ووقف متأدبا، فسأله عن خبره، فدفع إليه كتاب الأمير عبد الله وأشار إلى سعيد، فالتفت ياسر إليه، وحين وقع نظره عليه عرفه وتقدم نحوه، فأسرع سعيد إليه وحياه، فابتسم ياسر له وتفاهما. ثم أشار ياسر إلى الغلام أن يأخذ عابدة إلى غرفة خاصة، وأن يحسن وفادتها حتى يأمره باستقدامها ففعل.
ومشى سعيد إلى جانبه بين أعمدة قائمة هناك، وفوقها عريش قد تسلقت عليه الأعشاب، فلما خلوا قال ياسر: «إني مسرور بقدومك.»
فقال سعيد: «لولا علمي أن قدومي يسرك لم آت. كيف أنت وكيف مولانا؟»
قال ياسر: «مولانا كما تعهده لا يهمه إلا الإنفاق، وأنتم تعيبون عليه مسايرته لغير العرب، ونحن لا نراه يحسن مسايرتنا، فلا العرب راضون ولا غيرهم، وأنت تعلم منزلتي وبلائي في خدمته. ومع ذلك فإني أراه يفضل تماما عني، ولا يخفى عليك من هو تمام هذا؛ فقد قدمته أنا حتى بلغ هذه المنزلة. دعنا من ذلك، ما الذي جئت من أجله اليوم؟»
قال سعيد: «لا تغير الموضوع. أنت تستغرب حال تمام معك، وتعجب كيف يريد أن يحط من قدرك، ألا تعلم السبب؟»
قال ياسر: «لا.»
قال سعيد: «السبب أنك أحسنت إليه، ولعلك أحسنت إلى شخص آخر فسانده عليك.»
فأطرق ياسر لحظة وقال: «صدقت، صدقت، إنك رجل حكيم. قد أصبت الحقيقة، عرفت الآن سبب هذا التغيير.»
قال سعيد: «لا أعجب إذا عرفته أنت الآن، وأنا عرفته منذ أيام.»
قال ياسر: «ما هو؟»
قال سعيد: «السبب يرجع إلى الشخص الذي أنت سبب نعمته. نسي الآن فضلك عليه فناصر أعداءك.»
قال ياسر: «أنت تعني الزهراء صاحبة المقام الأول عند أمير المؤمنين، وهي ليست بريئة من هذه التهمة، لكنها أطاعت تماما الخبيث، فذكرتني ببرود عند الخليفة ففترت رغبته في، وإن كان لا يزال يظهر رضاءه عني، ولكنني أعلم كيف أنال منهما. دعنا الآن من ذلك وأخبرني عما جئت من أجله.»
قال سعيد: «ألم تأخذ الكتاب؟»
قال ياسر: «نعم، لكنه كتاب إلى أمير المؤمنين لم أفتحه.»
قال سعيد: «هو من الأمير عبد الله أرسله مع هذه الجارية إلى أبيه.»
قال ياسر: «أرسلها هدية له؟»
قال سعيد: «برغم إرادته. وكانت هذه الجارية عندي، وهي جارية منادمة وأدب، فرغب الأمير إلي أن أتركها له وأكون معها في قصره، أرتب خزائن كتبه، فأطعته، فلما سمع ولي العهد بخبرها كتب إلى أخيه أن يرسلها فلم يرض، فشكاه إلى أبيه، فبعث الناصر يطلبها لنفسه، فلم يسع الأمير عبد الله إلا الطاعة، ولكنه كتب إليه هذا الكتاب يرجوه فيه أن يعيدها إليه بعد أن يراها، ولا أظنه يفعل.»
فقال ياسر: «وإذا لم يفعل، ما ظنك بعبد الله؟»
قال سعيد: «هل تحسبه لا يزال على سذاجته وتساهله؟! إن الأمير قد تغير.»
قال ياسر: «قد تغير؟ بشرك الله بالخير. هل فطن لنفسه وما آلت إليه حال الدولة؟»
قال سعيد: «لاحظت منه أنه لا يسكت على الضيم إذا سامه إياه أبوه.»
وكانا يتحادثان وهما يمشيان في ذلك العريش، يسمعان تغريد البلابل وأصوات الكراكي، وقد بهر سعيدا كل ما رآه هناك، وإن لم يصل بعد إلى الموضوع الذي يهمه حقيقة، ولكنه استبشر بقرب الوصول إليه، وهو على قاب قوسين منه، ورأى أنه أبطأ في إيصال الكتاب إلى الناصر فقال: «ألا تأخذ الكتاب إلى صاحبه؟»
فقال ياسر: «بلى. هل تأتي معي؟»
قال سعيد: «أرافقك إلى قصر الخلافة، وإذا أمر الخليفة بدخولي فعلت.»
الفصل الخامس والثلاثون
مجلس الخليفة
قال ياسر: «حسنا.» ومشى وسعيد يمشي إلى جانبه، واتجهت أنظار الخدم نحوه هذه المرة؛ لأنه مع ياسر رئيس الخصيان، وهو صاحب النفوذ الأكبر في قصر الناصر، والناس لا يعرفون ما جد في العلاقة بينه وبين الخليفة، ولكن سعيدا شغل عن كل ذلك بفخامة قصر الخلافة، فما أطل على بابه حتى بهره ما زين به من الذهب، وما على عتبته من بديع النقش، وقد وقف الحجاب تعظيما لياسر، فحياهم ثم سألهم: «هل عند أمير المؤمنين أحد؟»
فأجابه رئيس الحجاب: «ليس عنده سوى القاضي منذر بن سعيد.»
فتذكر سعيد هذا الرجل وقد حضر خطبته يوم الاحتفال برسل ملك الروم، وأدرك أنه إنما نال منصب القضاء بسبب ذلك.
أما ياسر فدخل وسعيد معه، فدهش سعيد بداخل ذلك القصر أضعاف ما أدهشه مظهره الخارجي؛ فقد كانت جدرانه الداخلية مبطنة بالرخام السميك الملون على اختلاف أنواعه، وسقفه قد طعم بالذهب، فمشيا في دهليز حتى انتهيا إلى باحة كالبهو، سقفها مزين بأنواع الأصبغة المذهبة، والصقالبة وقوف بالحراب والسيوف، وكان سعيد يمشي ولا يتكلم، وقد أخذ بذلك البذخ العظيم، ولاحظ ياسر دهشته فقال: «أراك قد دهشت لما تراه ونحن لم ندخل مجلس الخليفة بعد، فإذا دخلته فهناك الدهشة حقا.»
فقال سعيد: «وهل في الإمكان أفخم من ذلك. لقد شاهدت قصور الخلفاء في بغداد ودمشق فلم أر مثل هذا.»
قال ياسر: «إن أولئك كانوا يستنكفون من استخدام الذهب في أبنيتهم. امكث هنا حتى أدخل وأعود إليك.»
فوقف وشغل بمشاهدة ما على رخام الجدران من الرسوم الجميلة المحلاة بالذهب، وما على الأرض من الطنافس المزركشة، وبينما هو في ذلك إذ رأى الحجاب الصقالبة في حركة كأنهم يتأهبون للسلام على قادم، فالتفت فرأى منذر بن سعيد خارجا من مجلس الخليفة، فأصبح يتوقع سرعة استدعائه إليه، لكنه مكث طويلا ولم يطلب فشغل خاطره. ثم جاءه أحد الخصيان يطلب إليه الدخول على أمير المؤمنين، فدخل متأدبا، وكان قد شاهد الناصر في قصره بقرطبة يوم استقبال رسل ملك الروم، وكان أبناؤه إلى جانبيه. أما في ذلك اليوم فلم يكن في مجلسه سواه بعد أن صرف قاضيه منذر بن سعيد.
فلما دخل سعيد على الخليفة رآه في صدر المجلس جالسا على سرير من الذهب الخالص، والمجلس المذكور قاعة كبيرة جدا في وسطها بركة يأخذ لمعانها بالبصر؛ لأنها مملوءة بالزئبق تقع عليه أشعة النور من نوافذ في جدران المجلس، يغشاها زجاج ملون، فيتلون سطح الزئبق ألوانا جميلة يزيدها لمعان سطحه جمالا.
وللمجلس أربعة جدران في كل جدار منها ثمانية أبواب، قد انعقدت على حنايا من العاج والآبنوس المرصع بالذهب ومختلف أنواع الجواهر، وقد قامت على سواري من الرخام الملون والبلور الصافي، وقد دخلت الشمس من تلك الأبواب، فانعكست أشعتها على صدر المجلس وجدرانه، فتولد من ذلك نور يأخذ بالأبصار، وكان الناصر إذا أراد أن يفزع أحدا من أهل مجلسه أومأ إلى أحد صقالبته، فيحرك ذلك الزئبق فيظهر في المجلس كلمعان البرق من النور، ويأخذ بمجامع القلوب حتى يخيل للحضور أن المجلس قد طار بهم ما دام الزئبق يتحرك.
1
ومع رباطة جأش سعيد وكبر نفسه لم يتمالك عن الدهشة من فخامة ذلك المجلس، ولو نظر إلى السقف لرأى قراميده من الذهب والفضة مرتبة في هندسة جميلة، ولكنه اشتغل بالمثول بين يدي الخليفة فوقف عن بعد، وحنا رأسه ثم حيا الناصر بتحية الخلافة فقال: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته»، وظل واقفا، فوقع صوته في أذني الناصر موقعا جميلا، فأشار إليه الناصر بأن يتقدم، فدار حتى وقف بين يديه، فأومأ إليه أن يجلس فجلس، وياسر لا يزال واقفا، ثم انصرف ياسر ولم يبق في ذلك المجلس الكبير إلا الخليفة وسعيد.
وتأدب سعيد في جلوسه، وأطرق فوقع بصره على الزئبق فشغله لمعانه الباهر، ولكنه مكث صامتا ينتظر أمر الخليفة، وكان قد لاحظ على وجه الناصر انقباضا، وكأنه شاهد في عينيه دموعا، فافتتح الخليفة الكلام فقال: «أين الجارية التي بعث بها ولدنا؟»
قال سعيد: «هي في قصر أمير المؤمنين، استلمها عبده ياسر رئيس الخصيان.»
قال الناصر: «من أين أتيت بها؟ بلغني من كتاب ولدي هذا أنك صاحبها تعلمها وتهذبها.»
قال سعيد: «هي يا أمير المؤمنين جارية أدب ومنادمة من مولدات بغداد.»
قال الناصر: «بلغني أنها تحسن الغناء أيضا؟»
قال سعيد: «نعم يا سيدي، إنها كذلك.»
قال الناصر: بلغني أنك من نوابغ الرجال، فوقف سعيد تأدبا وحياء وقال: لست شيئا من ذلك، ولكنني أكون كما يشاء أمير المؤمنين.
فقال الناصر وهو يمشط لحيته بأنامله: «بارك الله في بغداد؛ إنها لا تزال تأتينا بالتحف والذخائر! وهل أنت من بغداد أيضا؟»
قال سعيد: «إن عبد أمير المؤمنين من هذه الديار، ولكنني رحلت إلى بغداد والشام في طلب الكتب وجمع نوادر الأدب.»
قال الناصر: «بلغني أنك من نوابغ الرجال.»
فوقف سعيد تأدبا وحياء وقال: «لست شيئا من ذلك، ولكنني أكون كما يشاء أمير المؤمنين.»
فقال الناصر وهو يشير إليه أن يجلس: «اجلس ولا ينبغي أن تتهيب من مجلسنا، فقد علمت من خادمنا ياسر أنك من أهل العلم الواسع، ونحن نحب العلم ونكرم العلماء.»
فتحفز سعيد للوقوف ثانية، فأجلسه الخليفة وقال: «قلت لك لا تتهيب. إن العلماء ملوك العقول، ولا يستغني ملوك الرقاب عنهم. كن مطمئنا، ولأزيدك اطمئنانا أقول لك: انظر إلى عيني.»
فرفع سعيد بصره ونظر في عيني الخليفة فرأى الدمع فيهما، وأحس الخليفة عند وقوع بصره على بصر سعيد بقوة أثرت فيه، كأن سعيدا أرسل من عينيه أشعة نفذت إلى أحشاء الناصر، ولكنه أتم حديثه فقال: «أرأيت الدمع في عيني؟ إنه من احترامنا لأقوال أهل العلم. أرأيت قاضينا خارجا الآن؟»
قال سعيد: «نعم يا مولاي.»
قال الناصر: «وقد كان عندي الساعة، ولعلك تعلم أني وليته القضاء بالأمس، فما عتم أن خطب في المسجد وجعل موضوع كلامه نقد تشييد البنيان والإفراط في الزخرفة والإسراف في الإنفاق، وأغرق في ذلك، فعرفت أنه ينتقد ما أنشأته من هذه الأبنية، فما ملكت أن بكيت، ثم استقدمته إلي اليوم لأسأله عما أراده، فما كتمني قصده، وأتاني بآيات من القرآن الكريم تقبح عملي، فأشفقت على نفسي وبكيت، وإنما صارحتك بهذا القول لتطمئن نفسك وتخلص لي الخدمة.»
فحنا سعيد رأسه وقال: «إني عبد أمير المؤمنين وطوع إرادته.»
قال الناصر: «إني أعرفك قبل الآن يا سعيد، وقد طالما قرأت اسمك على الكتب التي أحضرت لنا على يدك، فهل عندك كتب جديدة؟»
قال سعيد: «لا يخلو الأمر من كتب سأعرضها على أمير المؤمنين، ولكنني أتيته بكتاب حي ناطق لا يسأل عن أدب أو شعر إلا نطق به.»
فشخص الناصر فيه كأنه يستفهم منه عما يقصد، فقال: «أعني الجارية عابدة التي صارت في قصر الزهراء الآن؛ فهي تغني عن الكتب، وقد انقطعت عن سائر الأعمال في سبيل تعليمها.»
قال الناصر: «سنحضرها ونشنف أسماعنا بحديثها. وأما الآن فاصدقني، قد بلغني أنك بارع في فن التنجيم!»
فقال سعيد: «ذلك شيء تعلمناه من الصغر، ولا يزال بعضه عالقا بالذهن.»
قال الناصر: «إن خير العلم ما أخذ في الصغر؛ لأنه يكون كالنقش في الحجر.»
الفصل السادس والثلاثون
التنجيم
وقد كان الملوك في عصر الاستبداد يشعرون بحاجتهم إلى المنجمين؛ لكثرة من كانوا يحيطون بهم من أهل الدسائس والمتملقين، فهم لا يثقون بهم ولا يرون لهم غنى عنهم، فإذا كانوا يؤمنون بالتنجيم استعانوا به على استطلاع الأسرار وكشف المؤامرات. وكان الناصر قد سمع عن سعيد الوراق من قبل، وعن مهارته في كل فن، ولما دخل عليه ياسر بكتاب ابنه عبد الله ذكر سعيدا بالخير، وأطرى علمه وبراعته في التنجيم، فوقع من نفسه موقعا حسنا، ولم يكن الناصر ساذجا، فلم يشأ أن يستسلم لسعيد قبل أن يتدبر أمره، فسأله عن قبيلته فقال له ياسر: «إنه غريب لا أهل له، ولا يهمه غير الاشتغال بالكتب وبيعها.» فسبق إلى ذهنه حسن الظن به وفتح له قلبه من أول لقاء، وحينما كلمه شعر بقوة فيه ارتاح لها، وتوقع أن يكون عونا له.
أما سعيد فلم يفته شيء مما جال في خاطر الناصر، فأخذ يستعد لتدبير ما جاء من أجله فقال: «لا ينبغي لمولاي - حفظه الله - أن يستسلم لحقير مثلي، ولا أن يركن إلى التنجيم كثيرا فإنه قد يخطئ.»
فأعجب الناصر بتواضعه وزاد ثقة به، فقال: «إن قولك هذا يزيدني ثقة بعلمك، فإني لم أر بين المنجمين الكثيرين في قصري من يعترف بالقصور مثلك.»
فرفع سعيد بصره إلى الناصر وحدق في عينيه وقال: «ولكنني لا أحب أن أدعى منجما، فإذا شاء مولاي أن ينتفع بشيء من علمي فأرغب إليه أن يكتم خبري عن خاصته، ولا يعدني في جملة المنجمين، بل يجعلني في جملة الخدم، ويتخذني معلما لتلك الجارية، وأنا لا أدخر وسعا في بذل روحي في خدمته من كل وجه.»
فاستحسن الناصر رأيه وقال: «سأفعل ذلك، أما الآن وقد فتح الحديث، فأخبرني بما يدلك عليه علمك من حالنا، قل لا تخف.»
قال سعيد: «إني لا أخاف شيئا، ولكني أطلب إلى مولاي أن يثق بحسن النية فيما أقول، وربما كان في بعضه ما يخالف اعتقاده.»
فاستبشر الناصر بشيء يطلع عليه فقال: «قلت لك قل ولا تخف. أخرج كتابك وانظر إلي، وقل ما يدلك عليه علمك.»
فمد سعيد يده إلى جيبه وأخرج كتاب التنجيم، ففتحه وأخذ يقلب فيه، وينظر إلى الناصر ويعيد النظر إلى الكتاب، ويعد على أصابعه ويلتفت إلى أشعة الشمس تارة وإلى بركة الزئبق تارة أخرى. ثم تظاهر بالارتباك، وقال: «أعفني يا سيدي من الحديث اليوم.»
قال الناصر: «لن أتركك حتى تحدثني عما ترى.»
فاعتدل في مقعده وأعاد النظر في الكتاب ثم قال: «إني أرى الخوف يأتي أمير المؤمنين من أكثر الناس ثقة عنده.» وسكت وهو يقلب في صفحات الكتاب ويراقب ما يبدو من الناصر.
أما الناصر فكان لكلام سعيد وقع شديد على سمعه، وقد أثار أفكارا كانت كامنة في قلبه، ولكنه غالط نفسه وتظاهر بالإصغاء كأنه يسمع بقية الحديث.
ولم يفت سعيدا ما جال في خاطر الخليفة، فاستأنف الكلام قائلا: «أخشى أن يكون مولاي أمير المؤمنين قد ندم على طلبه وإلحاحه.»
فقال الناصر: «كلا، بل العكس، فإني مصغ لما تقول، لكن نصف الخطاب ليس له جواب. قل، صرح بالحقيقة.»
قال: «يظهر أن مولاي يظن أن المنجم يستطيع تعيين الأشخاص، فإذا كان قد قيل له ذلك من قبل فإن القائل ليس من المنجمين، أو أنه يزعم للتنجيم قوة فوق قوته. إن هذه الصناعة يمكن أن تمتزج بالدجل مما لم أتعود عليه، وأنا لا أقول إلا ما تدلني عليه الصناعة تماما، وهي إنما تشير إلى الأوصاف والأحوال، وقد قلت لسيدي إن الطالع دلني على أن الخوف في دار أمير المؤمنين من أكثر الناس ثقة عنده وأقربهم مودة إليه، ولو سألني عن اسم ذلك الرجل أو تلك المرأة فلا يكون جوابي إلا من قبيل الرجم بالغيب.»
فأعجب الناصر بما رآه من صدق لهجة الرجل وعزة نفسه، ولكنه توهم أنه يشير إلى أناس لا يريد الناصر أن يرتاب فيهم، ولا هو يرتاب في صدق المنجم، فأصبح في حيرة وندم على أن عرض نفسه للشك؛ لأنه كان شديد الحرص على ذلك الحبيب موضع ثقته، وهي الزهراء؛ إذ لم يكن أعز منها على قلبه، ولا يريد أن يدع سبيلا لسوء الظن بينه وبينها؛ نظرا لولعه بها وشدة تعلقه بحبها، وقد أنفق الأموال في تشييد تلك القصور لأجلها، فكيف يسبب الشقاء لنفسه بالشكوك، وهو لا يرى له غنى عنها بوجه من الوجوه، وقد امتلكت فؤاده وغلبته على أمره، فلم ير خيرا من قطع الحديث أو تحويله فقال: «لله درك من حكيم خبير! قد فهمت مرادك، وسنعود إلى إتمام المقال. أما الآن فيحسن أن نرى تلك الجارية الأديبة.»
فأسرع سعيد إلى طي الكتاب، ووضعه في جيبه وقال: «هي في دار مولاي بقصر المؤنس في رعاية عبدك ياسر.» قال ذلك وقد سره اكتفاء الخليفة بما قاله.
فقال الناصر: «سنبعث إليه أن يهيئ لنا الجارية، ويحضرها الليلة إلى بيت المنام في المجلس الشرقي (المؤنس).»
فأدرك سعيد أنه قد آن وقت الانصراف، فتحفز للنهوض وهو يقول: «هل يأذن سيدي أن أدربها على شيء تقوله في حضرته؟»
قال الناصر: «لا بأس. افعل ما تريد.»
الفصل السابع والثلاثون
سعيد وعابدة
فخرج سعيد بعد أن حيا وتأدب على جاري العادة، ومشى في الإيوان، والخصيان وقوف بأسلحتهم وملابسهم.
ولم يكد يخرج من الباب حتى لقيه ياسر، ومعه رجل عرف سعيد من ملابسه وقلنسوته أنه سليمان أبو بكر بن تاج طبيب الناصر، وكان سعيد يعرفه ويعرف مهارته في الطب ومنزلته عند الناصر بعد أن شفاه من رمد أصيب به، فحياه وابتدره ياسر قائلا: «ألم تعرف هذا الطبيب؟»
قال سعيد: «كيف لا؟ أليس هو أبا بكر بن تاج الحكيم النبيل؟»
فهش له الطبيب وصافحه وقال: «لله درك! صدق الأستاذ ياسر؛ إنك لا تجهل شيئا، وقد سرني أن لقيتك الساعة، وأنا أعلم بمهارتك في معرفة الكتب، وقد سمعت بكتاب في الطب قيل لي إنه أكمل الكتب وأحسنها .»
فقطع سعيد كلامه قائلا: «لعلك تعني كتاب الحاوي لمحمد بن زكريا الرازي؟»
فبدا الاستغراب على وجه الطبيب لسرعة خاطر سعيد وقال: «إياه أعني.»
قال سعيد: «إنه كتاب نفيس، وهو أحسن كتب الرازي وأعظمها في هذه الصناعة؛ لأنه جمع فيه كل ما وجده متفرقا في ذكر الأمراض ومداواتها من سائر الكتب الطبية للمتقدمين، ومن أتى بعدهم إلى زمانه، ونسب كل شيء نقله إلى قائله.»
قال الطبيب: «لقد سمعت إطراء كثيرا في الكتاب، فهل من سبيل إليه؟»
قال سعيد: «لا أعرف منه نسخا في قرطبة، ولكنني أبعث من ينسخه لك في بغداد، وقد درسته وحفظت أهم مواده.» قال ذلك وهو يمشي والطبيب بجانبه وياسر إلى الجانب الآخر، والحرس ينظرون إلى ذلك الضيف ويعجبون بما لاقاه من الحفاوة لدى أمير المؤمنين.
قال ابن تاج: «إذا تمكنت من نسخ هذا الكتاب لي، عددت ذلك فضلا كبيرا منك.»
قال سعيد: «سأفعل إن شاء الله.» والتفت إلى ياسر وقال: «أخبرني أمير المؤمنين أنه سيكلفك بإحضار عابدة الليلة إلى بيت المنام ليسمع غنائها، وأنا ذاهب الآن لتعليمها بعض ما تقوله في حضرته.»
فعلم الطبيب أنه آن له أن يستأذن في الانصراف وهو يثني على سعيد، وسار سعيد وياسر إلى جانبه وهو يقول له همسا: «كيف وجدت الرجل؟» يعني الناصر.
قال: «إنه كما ينبغي، ولكل أجل كتاب.»
ثم سمع ياسر صوتا يستوقفه، فنظر فإذا بأحد الصقالبة يقول له: «إن أمير المؤمنين يدعوك إليه.» فقال: «إني ذاهب الساعة.» ثم التفت إلى سعيد وقال: «إني منصرف إلى أمير المؤمنين، واذهب أنت مع هذا الصقلبي وهو يدلك على مكان عابدة.»
ومشى سعيد والصقلبي بين يديه حتى بلغ قصر المؤنس، فتحول به إلى غرفة من غرف الضيوف وقال له: «سأرسل إليك عابدة الساعة.» ومضى.
ومكث سعيد وهو يعمل فكره فيما يدبره لإتمام غرضه، وبعد قليل جاءت عابدة، وقد تزينت بأحسن الملابس وأتقنت هندامها فرأى فيها جمالا لم يعهده فيها من قبل، فعلم أنها تتوقع احتفاءه بها فهش لها ورحب بها وأجلسها إلى جانبه، فجلست وهي تبتسم وقلبها يخفق، وقد تبادر إلى ذهنها أن حسن هندامها يزيده رغبة فيها؛ لأنها ظلت حتى تلك الساعة تخشى صدوده، ورغم ما كان يبديه لها من الميل إليها فقد ظلت تخاف أن يؤخذ منها. أما هو فرحب بها وبالغ في إظهار إعجابه بها، فجلست وهي مطرقة تنتظر ما يبدو منه فقال لها: «كيف تجدين نفسك هنا؟»
فتنهدت وقالت: «أجدني تعسة.»
قال سعيد: «أتقولين الحق!»
قالت عابدة: «نعم وحياتك.» قالت ذلك وصوتها يرتجف.
فقال سعيد: «وهل يمكن أن تكوني في حال أحسن وأنت الآن جليسة الخليفة وموضع إعجابه؟!»
فتنهدت وهي تنظر إليه وتحاذر أن ينظر إليها فتضطر إلى أن تحول وجهها عنه، وقالت: «ألم أقل لك إني لا أطمع في شيء من هذه السفاسف، وإنما منيتي وغاية مطلبي هي أن ...» وسكتت.
فقال سعيد: «فهمت مرادك، وقد قلت لك إن ذلك ميسور لنا متى شئنا، ولكن لا بد من إتمام الأمر الذي جئنا من أجله. أين هو ذلك الحق؟»
قال عابدة: «هو عندي في مكان أمين.»
قال سعيد: «احتفظي به، واعلمي أن أمير المؤمنين سيدعوك الليلة ليسمع حديثك ويستمتع بغنائك، فابذلي الجهد في إرضائه.»
قالت عابدة: «سأفعل ذلك جهد طاقتي.»
قال سعيد: «غنيه مما حفظته من كتاب الأغاني.»
قالت عابدة: «حسنا، سأفعل.»
قال سعيد: «هل عرفت أحدا من أهل هذا القصر؟»
فأجفلت لعلمها أن ذلك القصر ليس فيه أحد غير الجواري والسراري، وهي تغار من مجرد سماع ذلك من حبيبها، ولكنها لم تستطع السكوت عن الجواب فقالت: «عرفت بعض نسائه.»
قال سعيد: «من منهن عرفت؟»
قالت عابدة: «أنت تريد أن أحدثك عن الزهراء، زينة هذه القصور كلها!» قالت ذلك وهي تنظر إليه، وعيناها تبرقان وتراقب ما يبدو منه.
فأظهر سعيد عدم الاكتراث بما ظهر منها وقال: «الزهراء؟ قد بلغني أنها ربة هذه القصور لشدة تعلق الخليفة بها. هل هي تستحق هذا الإكرام يا ترى؟»
قالت عابدة: «أما أنا فلا أراها بالعين التي يراها بها الناصر، ولعلي أظلمها إذا قلت إنها لا تمتاز عن كثيرات من نساء هذه القصور.»
فقال سعيد: «لا شك أن حب الخليفة لها يرفع مقامها، فأرجو أن تنالي من الخليفة الليلة ما يجعلك في منزلة أعلى من منزلتها.»
فقطعت كلامه قائلة: «لا، لا أريد ذلك، وإن كنت أراه بعيدا عني، إذ ليس في ما يبعث على الإعجاب، وأنا فتاة مسكينة أحفظ الأبيات من الشعر وأتلوها وهذا لا يعجب إلا القليلين. وهب أني كما قلت فأنا لا أريد أن أستقر في قلب أحد سواك. آه يا سعيد!» وتلعثم لسانها وكاد الدمع يتناثر من عينيها، فضحك سعيد باستخفاف، وقال: «كم يجب أن أكون سعيدا بهذه المحبة!»
قالت عابدة: «إنك سعيد يا سعيد، وأنا الشقية.» وغصت بريقها.
فابتدرها سعيد قائلا: «لا أزال أراك تستسلمين للشك.»
قالت عابدة: «كلا، ولكن قلبي يدلني. لا لا، لا شك أنك تحبني ولو على سبيل الشفقة علي. ألا تشفق على قلبي! طبعا أنت ترى ما أنا فيه من الهيام بك، وترى أني أتفانى في سبيل مرضاتك، فكيف لا تحبني أو لا تشفق علي!» ومسحت عينيها بكمها.
فنظر إليها وحدق فيها وقال: «أراك عدت إلى الشك.»
فقطعت كلامه مسرعة وقالت: «لا، لا، أنا واثقة بك فافعل ما تريد.»
قال سعيد: «سترين صدق قولي، والآن افعلي ما قلت لك. ولكن أخاف أن تغار الزهراء منك.»
قالت عابدة: «ولماذا؟ أنا لا أسابقها على شيء إلا إذا كانت تسابقني هي.» وعضت على كمها بأسنانها كأنها تلهو بذلك عن التصريح بما كادت تنطق به.
فوقف وهو يمد يده إلى يدها ليصرفها، فأحست أنه يريد الذهاب فجذبت يدها من يده وقالت: «هل أنت ذاهب؟»
قال سعيد: «نعم، ولكننا سنكون معا الليلة في حضرة الخليفة.»
فتنهدت وقالت: «نعم سنلتقي ولكن ...»
فأمسك يدها وودعها وهو يقول: «أبعدي عنك الأوهام والمخاوف، فإن الوقت قد دنا، اذهبي الآن إلى غرفتك.» قال ذلك وخرج.
فظلت هي واقفة لحظة تنظر إليه، ثم تحولت نحو القصر تمشي الهوينى، وقد استغرقت في أفكارها وتحيرت في أمرها.
الفصل الثامن والثلاثون
جوهر
وسار سعيد إلى حيث علم أنه سيجد ياسرا، فلما التقيا دعاه ياسر إلى الطعام معه، وفي أثناء الطعام قال ياسر: «ما الذي فعلته بالخليفة؟»
فقال سعيد: «لم أفعل شيئا، ولماذا؟»
قال ياسر: «رأيت الخليفة قد تغير كثيرا وامتلأ إعجابا بك.»
قال سعيد: «لم أفعل شيئا يوجب إعجابه. وما هو التغيير الذي أصابه؟»
قال ياسر: «لا أستطيع أن أحدد التغيير الذي حدث، ولكنني فهمت ذلك من سياق حديثه في بعض الشئون المتعلقة بالزهراء.»
فلما سمع سعيد ذلك الاسم اختلج قلبه، ولكن رباطة جأشه أخفت ذلك عن جليسه فقال: «لماذا تغير عليها؟ لا أظنك مصيبا لأني لم أذكر هذه الجارية في حديثي معه مطلقا.»
قال ياسر: «لا أعلم ما الذي قلته له، ولكنني أعلم أني رأيته تغير، وعلى كل حال إن هذه الجارية قد بالغت في الاستبداد، وآن لها أن تعرف ما لها وما عليها.» قال ذلك بلهجة التهديد.
فبدا سعيد كأنه لم يهمه الأمر كثيرا وقال: «ربما كان السبب في تغيره عليها ما لاحظه من استبدادها، فقد علمت أنها أصبحت لفرط دلالها تتدخل في أمور ليست من شأنها، حتى أسمعها الناصر ما تكره، وظل غاضبا عليها يوما وليلة.»
فبغت ياسر ونظر إلى سعيد، فرآه مستغرقا في تقطيع صدر دجاجة بين يديه كأنه لم يقل شيئا، فقال ياسر: «ومن أبلغك هذا الأمر؟ ليس في هذا القصر أحد يعلم ذلك غيري؛ لأن الناصر أسمعها تلك الكلمات وغضب عليها، ولم يدع أحدا يشعر بذلك خوفا من الشماتة؛ لأن جميع نساء هذا القصر يحسدن الزهراء على منزلتها. قل لي كيف عرفت ذلك؟»
قال سعيد: «عرفته.» وهز كتفيه وحاجبيه وهو ينظر إلى السقف تجاهلا.
فقال ياسر: «حقيقة إنك عبقري في التنجيم، كأنك تطلع على الغيب! لله درك من عالم حكيم!»
فضحك سعيد وقال: «إن الأمر لا يحتاج إلى معرفة الغيب. دعنا من ذلك الآن، وقل لي: هل أوصاك الخليفة بأن تحضر له عابدة الليلة؟»
قال ياسر: «نعم.»
قال سعيد: «وهل طلب إليك أن تكون الزهراء حاضرة ؟»
قال ياسر: «نعم.»
قال سعيد: «فإذن سنراها الليلة. إني طالما سمعت بجمالها.»
فقطع ياسر كلامه قائلا: «ولكنه أمرني أن تجالسكم من وراء الستار، وكثيرا ما يفعل ذلك في مثل هذه الحالة؛ لأنه شديد الغيرة عليها.»
فقال سعيد: «من وراء الستار؟ وما هي لذته بمجالستها على هذه الصورة؟»
قال ياسر: «هو لا يحجبها إلا إذا حضر مجلسه أحد من الرجال غيرة عليها، والليلة ستكون أنت حاضرا. أين أجدك لأذهب بك إلى ذلك المجلس؟»
قال سعيد: «إني ذاهب للاستراحة قليلا، وربما نمت ساعة استعدادا للسهر.»
قال ياسر: «سأمر بك وقت العشاء، ونذهب معا إلى بيت المنام، أو أرسل إليك من يأتي بك إلي» ووقف سعيد فوقف ياسر وودعه وخرج إلى غرفته، ولم يكن يطلب النوم، وإنما أراد أن يخلو بنفسه للتفكير فيما يكون تلك الليلة.
وبينما هو متوسد هناك، وقد دنا الغروب، إذ سمع جلبة وقهقهة في ساحة القصر، فأصغى فإذا بجماعة من الخصيان يداعبون خصيا منهم وهو يصيح فيهم.
فلما سمع سعيد صوته استبشر، وعلم أنه قادم إليه، وقال في نفسه: «أتى جوهر الخبيث.»
ثم هدأت الجلبة، وبعد قليل دخل على سعيد خصي قصير القامة غريب الهيئة، قصير الساقين، كبير الرأس، واسع الوجه، بارز الجبهة، قبيح الخلقة، عليه ملابس ثمينة، مظهره يضحك الثكلى لغرابته، على رأسه قبعة طويلة مخروطية الشكل في رأسها شرابة، وعليه جبة من خز مطرزة، تحتها قفطان من حرير أحمر لامع. دخل على سعيد ولم يحي، فنهض سعيد وقال له: «ما الذي جاء بك يا جوهر؟»
فتقدم الغلام وقبل يد سعيد وقال: «أتيت أعرض عليك خدمة أقوم بها.»
قال سعيد: «ومن أنبأك أني هنا؟»
قال جوهر: «هل تفوتني حركة من حركاتك يا سيدي؟ كيف تأتي هنا ولا أعلم؟»
قال سعيد: «كيف هي؟»
قال جوهر: «هي كما تعهدها لا تزال خالية الذهن، صلبة القلب.»
قال سعيد: «هل علمت أني في قرطبة؟»
قال جوهر: «لا تعلم شيئا من ذلك.»
قال سعيد: «ألم تتغير محبتها لذلك الرجل؟»
قال جوهر : «إن ذلك الرجل لم يترك لها سبيلا للتفكير في سواه؛ إذا غضبت استرضاها، وإذا أمرت نفذ أمرها مهما يكن كما قلت لك قبل الآن.»
فأطرق سعيد وقال: «هل يعلم أحد أنك جئت إلى هذا المكان؟»
قال جوهر: «من يعلم ذلك؟ لقد أتيت بحجة اللعب في ساحة القصر مع بعض الرفاق الصقالبة، وفررت من بينهم كأني أطلب حاجة لنفسي.»
قال سعيد: «نحن اليوم ضيوفكم في بيت المنام.»
قال جوهر: «أعلم ذلك، وإنما أتيت لأخبرك أنها ستحضر المجلس وتسمع الغناء، وهي شديدة الولع بالصوت الرخيم، ولها دراية بالموسيقى، فهي تعزف على العود، وقد حفظت كثيرا من الشعر. ولما علمت اليوم بمجيء عابدة رأيت الغيرة قد دبت في عروقها، وأظنها تحب أن تزداد تعمقا في هذه الصناعة.»
قال سعيد: «تحب أن تتعلم الأشعار والغناء؟»
قال جوهر: «أظنها تميل إلى ذلك.»
قال سعيد: «فإذن أنت تعرف كيف يجب أن تجعلها تطلب من مولاها أن أعلمها الشعر. فهمت؟»
قال جوهر: «نعم يا سيدي، سمعا وطاعة، إني لا أنسى فضلك.»
فقطع سعيد كلامه قائلا: «هل أنت منقطع لخدمتها الآن؟»
قال جوهر: «أنا منذ بضعة أسابيع في خدمتها، وأراها ترتاح إلي وتطرب لمنظري وحديثي، لكنني أحسبها هذين اليومين في شاغل؛ إذ يندر أن تطلبني إليها، ولا أعلم السبب.»
قال سعيد: «لعلها غاضبة أو عاتبة أو خائفة؟»
قال جوهر: «لا أعلم، وربما عرفت السبب بعدئذ. هل تأذن بانصرافي الآن؟ فإني أخاف أن يستبطئوني ويطلعوا على خبري معك.»
قال سعيد: «اذهب.»
فانحنى وحيا ومضى.
الفصل التاسع والثلاثون
بيت المنام
مكث سعيد وهو يهيئ نفسه ويصلح من شأنه، استعدادا للذهاب مع ياسر إذا أتاه أو بعث في طلبه.
وبعد العشاء أتاه أحد الصقالبة يدعوه إلى قصر المؤنس، فخرج، ولما أطل على الحديقة بهره ما رآه فيها من المصابيح المعلقة في أغصان الأشجار أو على الجدران أو القوائم، حتى أصبحت الحديقة تتلألأ بالأنوار، ومشى الخصي بين يديه حتى وصل إلى باحة القصر المذكور، فرأى الحرس وقوفا بأسلحتهم وعليهم الملابس الفاخرة، ولم يكد يطل على باب القصر حتى رأى ياسرا بين يديه، فاستقبله وحياه ومشى أمامه حتى دخل به الباب إلى دهليز مضيء بالشموع العنبرية، وقد تناثر المسك على الأرض وفاحت رائحته فعطرت الأرجاء. ولم يعجب سعيد من شيء شاهده هناك لم يشاهد مثله في قصر الخلافة ذلك النهار، لكنه ظل ماشيا، وهو يسمع خرير الماء وصوت وقع الرشاش من مرتفع، حتى أطل على قاعة أدهشه ما فيها مما لم ير في زمانه مثله.
وكان ياسر يسير بين يديه وهو يوجه انتباهه حينا بعد آخر إلى بعض النقوش البديعة، فلما أطلا على تلك القاعة، وقف سعيد من نفسه وقال: «ماذا أرى؟»
قال ياسر: «هل أدهشك ما رأيته من التماثيل على هذا الحوض؟»
قال سعيد: «نعم، أعوذ بالله من قوم مسلمين يقتنون التماثيل!»
قال ياسر وهو يهمس في أذنه: «هل رأيت هذا الحوض في وسط هذه القاعة؟ إنه أرسل إلى أمير المؤمنين هدية من ملك القسطنطينية مع ربيع الأسقف، وهو لا يقوم بمال لجماله وفرط غرابته، وقد كلف مالا كثيرا ومجهودا كبيرا قبل وصوله إلى هذا المكان، مخافة أن ينكسر ما عليه من تماثيل الآدميين.»
فقال سعيد: «ولكن هل يجوز في الإسلام اقتناء التماثيل؟»
فقال ياسر: «ذلك سبب نقمة بعضهم على أمير المؤمنين، ولكن الحوض جاءه هدية من ملك عظيم، وهو لا يرى ضررا من اقتنائه، أو لعل الترف والانغماس في الحضارة سهلا عليه ذلك، فإن منظر هذا الحوض مدهش. ما رأيك أنت؟»
قال سعيد: «نعم، ولكنني أرى فوق الحوض تماثيل أخرى، هل أتت أيضا مع الحوض من القسطنطينية؟»
قال ياسر: «إن التماثيل الذهب التي تراها فوق الحوض ليست من صنع بلاد الروم.»
قال سعيد: «وأين صنعت؟»
قال ياسر: «صنعت في هذه المدينة، وهي كما تراها جميلة وثمينة.»
قال سعيد: «كأني أراها مرصعة. بماذا؟»
قال ياسر: «إنها مرصعة بالدر الغالي النفيس.»
فدهش سعيد وشغل بذلك المنظر عما كان قادما من أجله وقال: «أرى هذه التماثيل كثيرة، وكأنها تمثل بعض أنواع الحيوانات.»
فأمسك ياسر بيده حتى دار به من جهة أخرى للحوض، بحيث يتبين التماثيل من وجوهها، فإذا هي اثنا عشر تمثالا من الذهب الأحمر مقسمة إلى أربع مجاميع على جوانب الحوض، مجموعة منها تمثل أسدا إلى جانبه غزال إلى جانبه تمساح. يقابله من الجهة الأخرى مجموعة أخرى هي: ثعبان وعقاب وفيل. وفي الجانبين مجموعتان غيرهما هما عبارة عن: حمامة وشاهين وطاووس ودجاجة وديك وحدأة ونسر، وكل ذلك من ذهب مرصع بالجوهر النفيس، يخرج الماء من أفواهها ويصب في الحوض. فوقف سعيد لحظة مبهوتا ثم قال: «وهذه التماثيل مصنوعة في قرطبة؟»
قال ياسر: «نعم إنها مصنوعة في دار الصناعة هنا.»
قال سعيد: «لم أكن أظن أن مثل هذا الإتقان ميسور في قرطبة؛ لأننا لم نعهد مثله في غير القسطنطينية أو رومية.»
قال ياسر: «إن في قرطبة من الصناعات الجميلة ما يضارع أحسن ما يصنع في تينك المدينتين، ولولا ضيق الوقت لذكرت لك شيئا كثيرا منها، فإنني أخشى أن يستبطئنا مولانا الناصر.»
قال سعيد: «أين هو الآن؟»
قال ياسر: «هو في مجلس نصل إليه من هذه الدار، والمجلس يشرف على الدار بحيث يتمتع الجالسون هناك بمنظر هذا الحوض، ويسمعون خرير الماء فيه.»
الفصل الأربعون
المجلس
ومشى سعيد بجانب ياسر وعيناه على ذلك الحوض، وما يتألق حوله من المصابيح أو الشموع بألوانها المختلفة، فتنعكس أشعتها على رشاش الماء المتساقط فتبهر النظر بجمالها. شغل ذلك المنظر ذهن سعيد حينا ثم عاد إلى هواجسه، وخاصة حين وصل إلى باب المجلس، والخصيان وقوف عنده بالحراب، وعلى العتبة هذه الأبيات:
صل من هويت ودع مقالة حاسد
ليس الحسود على الهوى بمساعد
لم يخلق الرحمن أحسن منظرا
من عاشقين على فراش واحد
متعانقين عليهما أزر الهوى
متوسدين بمعصم وبساعد
يا من يلوم على الهوى أهل الهوى
هل تستطيع صلاح قلب فاسد
فتذكر أنه قرأ هذه الأبيات وهو في بغداد في صدر مجلس المأمون،
1
وتقدم فوسعوا لياسر فأزاح الستارة ودعا سعيدا للدخول.
فأطل سعيد على مجلس مرتفع لا جدار له من جهة الحوض، بحيث يقع نظر الجلوس هناك على ذلك المنظر البديع، ورأى الناصر في صدر المجلس جالسا على وسادة من الخز، وعلى رأسه عمامة وشي صغيرة يتخفف بها في المساء، وعليه جبة وشي خفيفة تشبها ببني أمية في الشام. وأول شيء لفت انتباه سعيد رائحة الطيب؛ فقد كانت تفعم المكان، ورأى بين يدي الناصر عابدة جالسة مطرقة وبصرها يتجه خلسة إلى ذلك الباب حينا بعد آخر، وهي تتوقع مجيء حبيبها سعيد، وقد مدت مائدة الشراب والفاكهة، ووقف بعض الجواري في أجمل ما يكون من الوجوه والقامات. كلهن فتيات تمنطقن بالمناطق الحريرية الملونة، وقد طرزت عليها أبيات من الشعر. هذا مثال منها يقرأ على إحدى تلك المناطق:
زنارها في خصرها يطرب
وريحها من طيبها أطيب
ووجهها أحسن من حليها
ولونها من لونها أعجب
وقد أرسلن أطراف المناطق من الخصور تتدلى فوق جلابيب تبرق ألوانها الزاهية، وعلى ذيل بعضها هذان البيتان تطريزا بالفضة:
أغيب عنك بود لا يغيره
نأي المحل ولا صرف من الزمن
تعتل بالشغل عنا ما تكلمنا
الشغل للقلب ليس الشغل للبدن
وعلى رءوسهن أكاليل من زهر مضفور، وقد أرسلت شعورهن إلى الظهور، ووقفن متأدبات ينتظرن الأمر لصب الشراب أو تقديم الفاكهة، ومنظر المجلس على الإجمال يبهر النظر، لما في أرضه من الطنافس المزركشة بأبيات الشعر على نحو ما تقدم، وعلى جدرانه من الستائر الموشاة بأبيات من الشعر هذا بعضها:
هجرتني كي أجاريكم بفعلكم
لا تهجريني فإني لا أجاريك
قلبي محب لكم راض بفعلكم
أسترزق الله قلبا لا يجانيك
أصبحت عبدا لأدنى أهل داركم
وكنت فيما مضى مولى مواليك
وكان أسلافهم في دمشق يفضلون الوشي على سائر الأنسجة، فقلدهم الناصر بذلك في فرش هذه الحجرة وفي ملبسه الليلي.
والظاهر أنه قلد العباسيين بتطريز الأشعار على الرياش والأثاث، فقد كانت الطنافس والستائر مزينة بأبيات جميلة فضلا عن ملابس الجواري.
وحين أطل سعيد على المجلس، وقف بعيدا ونظر في جوانب الغرفة بخفة لعله يرى مكانا لجلوس الزهراء إذا حضرت، فتذكر أنها تجلس وراء الستارة، فرأى إلى اليسار ستارا من الديباج الثمين يقطع الحجرة في عرضها، وعليه طراز الذهب المزدان بالأشعار على نحو ما تقدم، وسمع حفيفا وتمتمة فعلم أن الزهراء هناك فتجلد، وفي أثناء ذلك تقدمه ياسر، فأخبر الناصر بقدومه، فقال الناصر: «يدخل سعيد الوراق معلم جاريتنا عابدة.»
فدخل وتنحى ياسر، فأشار الخليفة إلى سعيد أن يجلس، فبادرت إحدى الجواري إلى وسادة قدمتها له بجانب عابدة، فجلس فقال له الناصر: «لم نسمع شيئا من عابدة بعد!»
قال سعيد: «إنها جارية مطيعة، ما الذي يأمر به أمير المؤمنين؟ هل يلذ له الحديث أو الغناء؟»
قال الناصر: «إن الحديث يلذ لنا، هل تحدثنا بشيء لا نعرفه؟»
قال سعيد: «إنها تحفظ الشعر والأدب والأخبار من كل نوع، فما على أمير المؤمنين إلا أن يعين الموضوع الذي يختاره.»
فأطرق الناصر هنيهة ثم قال: «أخبرتني أنها من مولدات بغداد؟»
قال سعيد: «نعم.»
قال الناصر: «إن لبغداد نوادر غريبة. نحن نحب أن نسمع عن أصحابنا البغداديين، وإن كانوا لا يحبون أن يسمعوا عنا.» وضحك.
فأدرك سعيد تعريضه وقال: «طبعا هم لا يحبون سماع ما يسوءهم؛ لأن أخبار مولانا أمير المؤمنين، وما بلغ من سلطان وسطوة وما أتاه من الفتح والنصر؛ كل ذلك يسوء أهل بغداد سماعه لأنه يثير غضبهم وحسدهم، وهم الآن في منتهى الاضطراب، وقد ذهبت هيبة الخلافة منهم واستولى الأتراك على الدولة ووضعوا أيديهم على الحكومة، وأصبح الخليفة عندهم اسما بلا مسمى. أين هم من أمير المؤمنين صاحب السيادة، جامع كلمة المسلمين والمنكل بالكافرين! لم يمر بالمسلمين أيام كأيامه، ولا رأى الإسلام عزا مثل عزه.»
وكان الناصر يسمع إطراء سعيد وهو مسرور، فلما أكثر من الإطراء قطع حديثه قائلا: «نعم، ولكن للبغداديين عصرا لا مثيل له؛ عصر الرشيد والمأمون، ولا يسعنا إنكار ما لهذين من الفضل في نقل كتب العلم، ونحن الآن إنما نجني ثمار ما غرساه، وإني أحب أن أسمع أخبارهما، وكثيرا ما أطلب إلى المحدثين أن يقصوا علي حديثهما.»
فقال سعيد: «فأمير المؤمنين إذن في غنى عن سماع شيء من أخبار تلك الدولة؟»
قال الناصر: «بل أنا أحب ذلك، ويعجبني منه ما كان يعقد من مجالس الأدب والشعر، وما كان يدور من الأبحاث الجميلة.»
الفصل الحادي والأربعون
العباسيون والأمويون
فتصدت عابدة للكلام قائلة: «إن مجالس الأدب كانت تعقد في البصرة والكوفة على الأكثر، وللكوفيين والبصريين مناظرات ومناقشات كثيرة فيها اللطيف والمفيد.»
فاستحسن الناصر نغم صوت عابدة، ولم يكن قد سمع صوتها بعد، فلفت ذلك انتباهه فوجه كلامه نحوها وقال: «أذكرتني يا عابدة مناقشة طار ذكرها في الآفاق، وقد حضرها الرشيد نفسه.»
قالت عابدة: «أظن مولاي يعني مسألة الزنبور والنحلة؟»
فضحك الناصر وقال: «نعم، إياها أعني.»
قالت عابدة: «إنها من أغرب الحوادث، وهي تبدو أول وهلة مسألة لغوية أو نحوية، ولكن خلفاء بغداد كانوا يمزجون السياسة بكل شيء، حتى بالنحو والحديث والتفسير.»
فأعجب الناصر بتفكيرها الذي يدل على سعة في العلم وثقة في النفس وقال: «ماذا تعنين بالسياسة يا عابدة؟»
قالت عابدة: «أعني أنهم منذ قبضوا على زمام الدولة لم يدخروا وسعا في تأييدها، ولو خالفوا فيه الشرع أو العقل أو العلم.»
فاستغرب الناصر هذا الرأي، وأحب أن يطلع على حقيقته لأنه يساعده في الدفاع عن خلافته، وكان إلى ذلك الحين يعدها مقلقة فقال: «ماذا تعنين بذلك؟»
قالت عابدة: «أعني أنهم لما قاموا يطلبون الخلافة من أجدادكم في الشام تظاهروا بالتقوى والعمل بالكتاب والسنة، وطعنوا في خلفاء بني أمية لأنهم طلبوا الملك العضود، وزعموا أنهم اتخذوا الفتك في سبيل الحكم، فلما ملكوا ارتكبوا أضعاف ما ارتكبه بعض أجدادكم من الفتك والقتل على التهمة. وكانوا يظهرون أنهم يفعلون ذلك رغبة في العلم أو الدين، ولو تدبرت الحقيقة لرأيتهم إنما كانوا ينظرون من وراء ذلك إلى مصالحهم. نصر أبو جعفر المنصور فقهاء العراق أصحاب الرأي والقياس على فقهاء المدينة أصحاب الحديث. ولماذا؟ هل فعل ذلك لأنه يعتقد أن الحق في جانب أبي حنيفة رئيس أصحاب الرأي؟ لا أظنه فعل ذلك إلا نكاية في مالك رئيس أصحاب الحديث فيها ؛ لأنه أفتى بخلع المنصور، ولو لم ير خلعه، أو لو رأى المنصور في نصرته فائدة له لنصره.»
وكان الناصر يسمع كلام عابدة بلذة وشوق، لما حواه من الآراء الفلسفية التي لم يسمعها من أحد قبلها، وخصوصا لأن الطعن في العباسيين يوافق سياسته. وارتفعت في عينيه وأراد أن يستزيدها فقال: «بورك فيك من فقيهة عاقلة! لكنني رأيتك تشددين النكير على أصحابنا العباسيين، وما أدرانا أن المنصور لم يكن ينصر أبا حنيفة لاعتقاده بصحة رأيه؟»
قالت عابدة: «دعنا من الفقه والحديث، ولنتحدث عما كان من الرشيد وأبنائه في مسألة الزنبور والنحلة، وهي من المسائل النحوية.»
قال الناصر: «هل ترين في هذه أيضا جانبا سياسيا؟»
قالت عابدة: «نعم يا مولاي؛ لأن العباسيين كانوا يرغبون في نصرة أهل الكوفة؛ لأنهم نصروهم لما قاموا لطلب الخلافة، فقدموهم على أهل البصرة، وقربوهم إليهم، فطمع الكوفيون في مسابقة أهل البصرة، وصاروا يجادلونهم في المسائل النحوية، وفي الأدب والشعر، حتى قامت مسألة الزنبور والنحلة بين سيبويه من أهل البصرة والكسائي من أهل الكوفة، وكان الكسائي يعلم الأمين بن الرشيد، وكان الأمين ينصره باعتبار أن انتصاره انتصار أهل الكوفة جميعا وهم أنصار الخلفاء.»
فقطع الناصر كلامها قائلا: «صدقت، صدقت، ولولا ذلك لم يتخذ الأمين كل وسيلة لقهر سيبويه، فإنه بعد أن ظهر للملأ أن الحق في جانبه أغرى ذلك البدوي على تخطئته والحكم للكسائي، فخرج سيبويه من بغداد وقصد بلاد فارس. لا شك أنهم ظلموه كما قلت تحزبا لأنصارهم الكوفيين. لله درك من حكيمة!»
الفصل الثاني والأربعون
الغناء
وكان سعيد في أثناء ذلك يوجه انتباهه إلى ما وراء ذلك الستار، لعله يسمع شيئا يهمه، فشعر بحركة، فأدرك أن الزهراء لا بد قد ملت سماع ذلك الحديث من فلسفة التاريخ، وأنها صارت شديدة الميل إلى سماع الغناء، فنظر إلى عابدة وأومأ إلى جيبها يشير إلى القانون الذي كانت تركبه وتعزف عليه، والتفت إلى الخليفة وقال: «إن الحكمة لا تحلو من فم المرأة يا أمير المؤمنين كما يحلو الغناء.»
فضحك الناصر وأشار إلى السقاة، فصبوا الأشربة من أباريق الفضة في أقداح الذهب، وقدموا للناصر ولسعيد، وأمر الجارية أن تشرب فاستأذنته في إعفائها من الشرب.
فقال الناصر: «اشربي يا عابدة، ليس هذا مسكرا، وإنما هو نبيذ التفاح، اشربي.»
فمدت يدها وتناولت القدح، فرأت عليه نقشا يحيط به هو بيتان من الشعر هذا نصهما:
وما لبس العشاق ثوبا من الهوى
ولا أخلقوا إلا بقية ما أبلي
ولا شربوا كأسا من الحب حلوة
ولا مرة إلا وشربهم فضلي
فشربت وشرب سعيد، فقال الناصر: «هل تسمعيننا شيئا من الغناء؟»
قالت عابدة: «كما تشاء يا أمير المؤمنين.»
فقال سعيد: «هل يأمر أمير المؤمنين أن تغني غناء أهل الأندلس، أم غناء أهل العراق، أم أهل المدينة؟»
فقال الناصر: «أما غناؤنا فإننا نسمعه وعندنا من يحسنه، ولكننا نحب سماع غناء أهل بغداد، أما غناء أهل المدينة فهو الغناء القديم ولا بأس به.»
فتذكر سعيد أنه يشير إلى الزهراء، وهي التي تحسن غناء أهل الأندلس، وهو يعلم أنها وراء هذا الستار، وأحب أن يسمع غناءها فقال: «إذا أحب مولانا أن يأمر بعض جواريه المغنيات بالغناء على طريقة أهل الأندلس، وعابدة تغني على طريقة أهل بغداد، كان ذلك مجاوبة جميلة.»
فقال الناصر: «صدقت.» وأومأ إلى إحدى الجواري الواقفات في خدمتهم فتقدمت نحوه، فأشار إشارة فهمتها فمضت إلى وراء الستار، ففهم سعيد أنه أمر الزهراء بالغناء، وقال الناصر: «سنسمع غناء أندلسيا على العود، فأين عود عابدة؟»
قال سعيد: «إنها تعزف على عود لا مثيل له، ولا أظنكم سمعتم به؛ لأنه حديث العهد في الصناعة، ومخترعه لا يزال حيا.»
فشخص الناصر ببصره إلى عابدة فلم يجد معها عودا إلى جانبها، وهم أن يسأل سعيدا عما يعنيه، فرأى عابدة تمد يدها إلى جيبها ثم أخرجت منه القانون، وأخذت تركب عيدانه حتى أصبح آلة قد شدت أوتارها، فقال الناصر: «أهذا عود؟»
قالت عابدة: «نعم يا سيدي هي بعينها.»
فقال الناصر: «أظنه الآلة التي ركبها الفارابي في حضرة سيف الدولة؟»
قالت عابدة: «نعم يا سيدي هي بعينها .»
قال الناصر: «سمعت أنها أدهشت الحضور فأبكتهم، ثم أضحكتهم. فهل تعرفين العزف عليها؟ ومن أين تعلمت؟»
فأجاب سعيد عنها قائلا: «أدركت الرجل في مكان، وأخذت عنه مثال قانونه ومبادئ صناعته، وعلمت ذلك لعابدة.»
فقال الناصر مستغربا: «وأنت علمتها الموسيقى أيضا؟»
قال سعيد: «نعم يا سيدي.»
فقال الناصر: «بورك فيك. إنك تصلح لكل شيء» والتفت إلى عابدة وقال: «أسمعينا، أو تمهلي لنسمع صوتا من غناء أهل الأندلس.» وصفق وأصغى الجميع، فخرج من وراء الستار صوت عود بصناعة جيدة، وكان أكثر الناس إصغاء سعيد، ثم سمعوا الغناء فطرب الناصر طربا شديدا، حتى إذا فرغ الغناء وراء الستار نظر الناصر إلى عابدة كأنه يستطلع رأيها فيما سمعته، فقالت: «إنه صوت مطرب سمعت مثله ممن يحفظ غناء زرياب المغني.»
فقطع الناصر كلامها قائلا: «غناء زرياب؟ صدقت، إن هذا المغني هو الذي حمل هذه الصناعة إلى الأندلس، وقد قال الذي نقل هذا الصوت إلينا إنه من أصوات زرياب، فأسمعينا ما عندك من غناء بغداد.»
وكانت قد أصلحت القانون فتناولته واعتدلت في مجلسها، وجعلت تعزف عليه عزفا لم يسمع الناصر مثله، وكان قد استخفه الطرب وهاجه الشراب فجعل يحرك يديه ورجليه ويزحف عن سريره، فاغتنمت عابدة تلك الفرصة وغنت صوتا لإبراهيم بن المهدي أحسنت توقيعه وأداءه، فلم يتمالك الناصر أن صاح من الطرب: «لله درك من مطربة معربة! زيدينا زادك الله جمالا وصنعة!»
فغنته صوتا آخر على لحن زاده طربا، وأشار إلى الجواري أن يسقينه، فدارت الأقداح وسعيد يظهر أنه يشرب ولا يشرب، وكذلك عابدة، فلما أحس سعيد أن الشرب أخذ من الناصر أشار إلى عابدة، فأصلحت العود على إصلاح الفارابي كما فعل في حضرة سيف الدولة، ففعلت فغلب على الناصر الضحك وأغرب فيه، وسعيد يرقب ما يبدو وراء الستار، فسمع همسا وضحكا فأدرك أن ضحك الناصر وشدة طربه من غناء عابدة يهيجان حسد الزهراء.
الفصل الثالث والأربعون
نحنحة من وراء الستار
وبينما هم في ذلك، إذ سمعوا نحنحة من وراء الستار، لم يفطن لها إلا سعيد، وراقب ما يبدو من الناصر بعدها، فرآه انتبه لنفسه بغتة وأمسك عن الضحك، وقال لعابدة: «لقد أطربتنا بارك الله فيك.»
فأدرك سعيد أنه يريد فض الجلسة، فأومأ إلى عابدة فتحفزت للنهوض فلم يدعها الناصر للبقاء، لكنه أشار إلى قيمة الجواري الواقفات للخدمة أن تزيد عابدة حفاوة، فمشت بين يديها إلى غرفتها.
وتحفز سعيد للنهوض والاستئذان، فأومأ إليه الناصر أن يمكث، فمكث، ونهض الناصر ودخل من باب يؤدي إلى غرفة أخرى، وأشار إلى إحدى الجواري فدخلت وراء الستار، فشعر سعيد أنه بعث إلى الزهراء لتمضي إليه، فلبث يفكر فيما عسى أن يكون سبب تلك الدعوة، ولم يبق في تلك القاعة سواه.
وبينما هو في ذلك إذ رأى الستار يتحرك، وإذا بجوهر خارج من ورائه، فلما رآه فرح بمجيئه وتوقع أن يسمع منه شيئا جديدا، فأشار إليه، فتقدم وهمس في أذنه: «إن الغيرة كادت تقتلها!»
ففهم أنه يعني الزهراء فقال: «ماذا فعلت؟»
قال جوهر: «لم تتمالك أن تنحنحت للناصر لتزجره عما أظهره من الإعجاب والخفة.»
فضحك سعيد وقال: «لا بد أنك ساعدت في إثارة تلك الغيرة، طبعا، وأخيرا ماذا ترى؟»
قال جوهر: «إني أثرت غيرتها وأوحيت إليها أن إتقان غناء عابدة سيقدمها عليها لدى الخليفة، وأشرت عليها أن تتقن الغناء.»
قال سعيد: «على من؟»
قال وهو يتطاول ليهمس في أذن سعيد: «ستطلب من الخليفة أن يكلفك بتعليمها غناء بغداد.»
فظهر البشر على وجه سعيد، وقال: «وهل تظنه يقبل؟»
قال جوهر: «إذا طلبت ذلك إليه أذعن لها، فهو طوع إرادتها؛ ألم تر مبلغ تأثير تلك النحنحة فيه وهو في إبان طربه؟»
قال سعيد: «لقد أحسنت يا جوهر، بورك فيك، طالما توقعت منك المهارة والذكاء. إني أسمع صوت مفتاح في باب، وأسمع وقع خطوات، لعل الخليفة قادم، امض.»
قال جوهر: «لا أظن أن الخليفة يعود إليك بنفسه، ولكنه يبعث رسولا بما يريد. هذا هو الرسول قادم، أستأذنك، إني منصرف» قال ذلك وعاد إلى وراء الستارة.
ولبث سعيد صامتا يشغل نظره بما هنالك من الأنوار والزخارف، وإذا هو بياسر قد دخل، فهش له ونهض لاستقباله، فتوسم في وجهه خيرا، فقال: «خيرا إن شاء الله.»
فابتسم ياسر وقال: «جئتك برسالة من أمير المؤمنين، فهو يثني على علمك وقد أمر لك بجائزة سنية. هذا أولا، وثانيا طلب منك أن تمكث في هذا القصر بضعة أيام لأنه يحتاج إليك في أمر.»
قال سعيد: «ألم يقل لك ما هو ذلك الأمر؟»
قال ياسر: «كلا.»
فأطرق كأنه يفكر ثم قال: «أنا أقول لك.»
قال ياسر: «هل تعرف ما يجول في ذهن الخليفة؟»
قال سعيد: «وما الفرق بيني وبينك إذن؟!» وضحك مماجنة.
فجاراه ياسر في الضحك وقال: «قد تعودنا منك معرفة الغيب. قل ما الذي يريد منك؟»
قال سعيد: «يريد أن أعلم جاريته الزهراء الغناء. ما قولك؟»
فربت ياسر على كتف سعيد توددا وإعجابا وقال: «قد لاحظت ذلك منه، ولم يقله لي.»
قال سعيد: «أنا أقوله.»
قال ياسر: «وهل يسوءك ذلك؟»
قال سعيد: «كلا، ولكنني جئت من منزل الأمير عبد الله على أن أعود إليه مع عابدة بعد يوم أو يومين، وكيف أمكث هنا أياما؟ أخشى أن ...»
فقطع ياسر كلامه قائلا: «مهما يكن ما تخشاه، فإن قول أمير المؤمنين لا يرد.»
قال سعيد: «نعم، أعرف ذلك، وأنا باق كما أمر. ولكن هل علمت أن عابدة باقية معي، أم ذاهبة.»
قال ياسر: «لم يقل لي شيئا من ذلك، ولكنني أستدل من قرائن الأحوال أنها باقية؛ لأنه أمر أن نعد لها غرفة خاصة، ونقدم لها كل ما تحتاج إليه.»
قال سعيد: «لكنه لا يلبث أن يأمر بإخراجها لأن الزهراء ...»
ففهم ياسر مراده فابتدره قائلا: «لا، لا، إن الزهراء إذا أظهرت الغيرة من عابدة لصناعتها في الغناء فهي لا تخاف أن تتقدم عليها؛ لعلمها أنها جارية أدب ومنادمة، وقد فهمت ذلك منذ جاءت، وزد على ذلك أن الزهراء ذات دهاء وتعقل، وقد سيطرت على مشاعر الناصر بتعقلها أكثر مما استهوته بجمالها. ما لنا ولهذا! امض الآن إلى حجرة في هذا القصر أعددناها لك ريثما يبعث الناصر في طلبك.»
قال سعيد: «حسنا.» ومشى مع ياسر حتى خرج من ذلك القصر إلى بناء بجانبه، فأدخله ياسر إلى غرفة هناك ببابها خصي أمره أن يكون في خدمته وانصرف.
دخل سعيد تلك الغرفة، فوجد فيها كل ما يحتاج إليه لتبديل ثيابه، فجلس فترة من الوقت يتدبر ما سمعه، وما يتوقع أن يكون، ثم بدل ثيابه ونام.
الفصل الرابع والأربعون
التعليم
وفي صباح اليوم التالي استيقظ وجلس ينتظر أمر الخليفة، فلما أبطأ عليه لبس ثيابه وخرج يتمشى في الحديقة، وأمر الخصي المخصص لخدمته أن يوافيه في مكان بالحديقة حدده له، إذا طلبه الخليفة، وقد توجه سعيد إلى حديقة بجوار ذلك القصر، فيها بركة يتدفق الماء فيها من أنابيب الرصاص، فوقف عندها، وأخذ يتأمل حركات الماء، وأفكاره تائهة فيما هو فيه، فلاحت منه التفاتة، فرأى شبحا خارجا من جانب القصر من باب لم يعرفه، فحول نظره إليه فرآه رجلا في ملابس الخصيان من طبقة الوصفاء الذين يلبسون الدروع السابغة، لكنه كان يمتاز عنهم بمنطقة حمراء مطرزة بالذهب تدل على تقدمه بين الأقران في المنصب والخدمة، وتبين في وجهه شيئا يعرفه، فحدق فيه فإذا هو ساهر غلام الأمير عبد الله، ولاحظ من حركاته أنه يحاول الخروج خلسة لا يريد أن يختلط بخصيان القصر، فقال في نفسه: «لا يخلو أن يكون مجيء ساهر هذا لأمر ما!» وانزوى في ظل دفلة وأخذ يتأمل أزهارها، فمر ساهر مرور اللص وهو يحسب أن سعيدا لم ينتبه له، فلما تجاوز الدفلة أعاد سعيد النظر إليه فتحقق من أنه ساهر بعينه، ولو لم يره وهو يحاول إخفاء أمره لم يسئ الظن به، فحفظ ذلك في ذاكرته، وظل يتمشى في الحديقة نحو ذلك الباب لعله يكشف شيئا جديدا، فرأى الخصي الموكل بخدمته مسرعا نحوه، فعلم أن الخليفة يطلبه فتجاهل وظل ماشيا، فأدركه الخصي وناداه، فالتفت سعيد إليه وسأله عن غرضه.
فقال الخصي: «إن أمير المؤمنين بعث في طلبك.»
قال سعيد: «هلم إليه»، ومشى نحو الباب الذي خرج منه ساهر.
فاعترضه الخصي قائلا: «من هنا يا سيدي» وأشار نحو الباب الآخر.
فقال سعيد: «لكن هذا أقرب. أليس مولانا أمير المؤمنين في هذا القصر؟»
قال الخصي: «بلى، ولكن المرور من هذا الباب محظور.»
فأطاعه سعيد ومشى، وهو يقول: «لماذا؟»
قال الخصي: «لأنه يؤدي إلى مكان السيدة الزهراء.»
فحفظ ذلك في خاطره وسكت.
وبعد ذلك دخل قصر المؤنس إلى بيت المنام، فاستقبله ياسر رئيس الخصيان وقد بدت البغتة على وجهه وقال: «أين كنت؟»
قال سعيد: «كنت أتمشى في الحديقة.»
قال ياسر: «بعث أمير المؤمنين في طلبك.»
قال سعيد: «ها أنا ذا.»
قال ياسر: «انتظر ريثما أستأذن لك.»
فوقف سعيد ودخل ياسر ثم عاد، وأشار إليه أن يتقدم فمشى حتى دخل غرفة في صدرها سرير، عليه فراش من ريش النعام المكسو بالحرير الأحمر الزاهي، وقد جلس فيه الناصر وهو لا يزال بملابس النوم، وعلى رأسه قبعة (طاقية) من الحرير الموشى بالذهب، وقد تعلقت بالسقف مراوح من ريش النعام تتحرك بنظام خاص، ووقف الخدم بالملابس الفاخرة كما تقدم، فلما دخل سعيد أشار الخليفة إلى الجميع بالخروج، واستدناه، فمشى حتى وقف بين يديه، فقال له: «لا أظنك تجهل منزلتك عندنا بعد أن دعوناك للدخول علينا ونحن في الفراش، فإن رفع الكلفة يدل على الرضاء والصفاء. تفضل، اجلس.»
فانحنى سعيد وظل واقفا، فأمره ثانية أن يقترب منه ويجلس، فمشى حتى صار بجانب السرير. وجلس جاثيا على وسادة هناك، وهو مطرق تأدبا، فقال له الناصر: «يحسن بالعقلاء التأدب بين يدي الملوك، ولكنني ذكرت لك منزلتك عندي بالأمس لما آنسته من علمك وصدق لهجتك، فدع التهيب.»
قال سعيد: «إن تنازل أمير المؤمنين مع مملوكه إلى هذا الحد يحملني على زيادة الشعور بحقارتي، ويزداد المولى - حفظه الله - رفعة في عيني.»
قال الناصر: «إن مقام أهل العلم محفوظ عندنا؛ إنهم عيون الملك ونبراسه. وقد رأيت أنك من خيرة العلماء المخلصين.»
فأشار بالانحناء وسكت. فقال الناصر: «لا تظن أننا نطلب إليك التنجيم الآن، فقد أجلنا ذلك إلى فرصة أخرى ، ولكن جاريتنا الزهراء سمعت غناء تلميذتك عابدة، فأحبت أن تتقن الغناء على يدك، فهل تفعل؟»
فنهض سعيد وهو يتلملم من التأدب وقال: «إن العبد لا يخير فيما يريد مولاه، وإنه ليسعدني أن أشعر أن عندي شيئا أستطيع أن أخدم به أمير المؤمنين.»
فقطع الناصر كلامه قائلا: «أنت سعيد على كل حال؛ إنك سعيد بعلمك وأدبك، ولا تظن أنني نسيت ما طلبته من كتمان حقيقة منصبك وإظهار أنك تعلم عابدة. وفي هذا المساء يأتيك رسول الزهراء فتذهب إلى غرفتها لتلقينها بعض ألحان بغداد.»
فأشار بيده على رأسه إشارة الطاعة.
فقال الناصر: «أنت تعلم منزلة الزهراء عندنا؟»
فكرر سعيد انحناء رأسه، كأنه يقول: «نعم، أعلم جيدا.»
فقال الخليفة: «فأعدد لها ألحانا جميلة مما أعدها إبراهيم بن المهدي؛ فإننا نحب فنون أبناء الخلفاء، ولا بأس من تعليمها بعض ألحان إسحاق الموصلي.»
قال سعيد: «سيرى أمير المؤمنين ما يسره؛ فإن عبده لا يحتاج إلى إيضاح.»
فقال له الناصر: «وقد أمرنا لك بجائزة هي دون ما تستحقه، وسنوالي ذلك عليك ما دمت على حسن ظننا فيك.»
فوقف سعيد وقد أحس أنه ينبغي له أن ينصرف، فاستأذن وخرج، فلقيه ياسر في الدهليز، فأخبره بما أمر له به الخليفة من العطاء وقال: «يظهر أنك أصبحت صاحب حظوة عند أمير المؤمنين.»
قال سعيد: «أنا لا أستحق هذه الحظوة، ولكن لكل أجل كتاب.»
فاكتفى ياسر بذلك، ومشى مع سعيد إلى باب غرفته، وتركه خوفا من الرقباء.
الفصل الخامس والأربعون
أين الزهراء؟
أما سعيد فدخل الغرفة، فرأى الخادم قد أعد له الطعام، فتناوله ثم جلس واستغرق في التفكير فيما سيكون عند اجتماعه بالزهراء، وهو يعلم أنه سيجتمع بها وهي وراء الستار، وكلما تصور ذلك الاجتماع خفق قلبه، وقد قضى ذلك اليوم على أحر من الجمر بين الجلوس في الغرفة والتمشي في الحديقة، وقد طال عليه الوقت، فلما غربت الشمس عاد إلى الغرفة ولبث في انتظار الرسول.
ولما دنا وقت العشاء ولم يأت الرسول شغل خاطره، ثم رأى جوهرا قادما فهش له، وهو يتوقع أن يدعوه للذهاب إلى الزهراء، فرآه يمشي نحوه ولا يتكلم فابتدره قائلا: «ما وراءك؟»
قال جوهر: «ليس ورائي شيء.»
قال سعيد: «وكيف ذلك؟ ألم تبعثك الزهراء في طلبي؟»
قال جوهر وهو يهز كتفيه: «كلا، وقد كنت أنتظر أمرها بذلك.»
فقال سعيد: «وهل عدلت عن تعلم الغناء؟»
قال جوهر: «لا، ولكنني لا أعلم أين هي.»
قال سعيد: «كيف ذلك؟ أليست في غرفتها؟»
قال جوهر: «ليست هناك.»
قال سعيد: «لعلها عند الخليفة.»
قال جوهر: «كلا.»
قال سعيد: «أين هي إذن؟»
قال جوهر: «لا أدري يا سيدي، وإنما أعلم أن وصيفا جاءها في أصيل هذا اليوم ومعه امرأة قال إنها ماشطة، فخرجت الزهراء معها ولم تعد بعد.»
فاستغرب سعيد قوله وقال: «أليس في القصر مواشط؟»
قال جوهر: «في القصر مواشط كثيرات، ولكن يظهر أن هذه الماشطة لها براعة خاصة في تصفيف الشعر.»
قال سعيد: «ألم تفتش عنها في القصر؟»
قال جوهر: «فتشت عنها في كل مكان أعهدها تقيم فيه، فلم أجدها.»
فدهش سعيد وأطرق لحظة ثم قال: «ألا تعرف ذلك الوصيف؟»
قال جوهر: «أعرفه، وقد كان في هذا الصباح عندها.»
فانتبه سعيد وقال: «لعله صاحب المنطقة الحمراء؟»
قال جوهر: «نعم، هو هو بعينه. كيف عرفت ذلك؟»
قال سعيد: «عرفته. وهو نفسه الذي أتاها بالماشطة؟»
قال جوهر: «نعم، هو بعينه.»
قال سعيد: «هل رأيت الماشطة؟»
قال جوهر: «لم أر وجهها؛ لأنها مبرقعة.»
فأحس سعيد أن في الأمر دسيسة، وقال: «الآن وقتك يا جوهر!»
قال جوهر: «لبيك يا سيدي.»
قال سعيد: «تبحث عن الزهراء في كل غرفة ودهليز حتى في السراديب وعلى السطوح. ابحث عنها الآن وأتني بالخبر، لا بد من وجودها هنا.»
فقال جوهر: «سمعا وطاعة.» وخرج.
وبقي سعيد وقد أخذته الدهشة، وجعل يفكر فيما سمعه وهو لا يكاد يصدقه لولا اعتقاده في صدق ذلك القزم، وبعد قليل جاءه جوهر والبغتة بادية في وجهه وقال: «تعال يا سيدي.»
فمشى معه حتى بلغ دهليزا من دهاليز القصر يؤدي إلى باب يستطرق إلى حديقة خاصة لا يدخلها أحد إلا بأمر الزهراء، فلما وصلا إلى الباب أشار جوهر بأصبعه إلى نور ضعيف يظهر من خلال الأغصان وقال: «انظر!»
فنظر فرأى الزهراء وإلى جانبها شبح بملابس النساء، وتفرس في وجهه فإذا هو عبد الله بن الناصر، فخفق قلبه، وارتعدت ركبتاه من شدة التأثر، ولولا رباطة جأشه ما تمالك عن أن يثب عليهما، ولكنه تجلد وأعاد النظر فلم ير وجه الزهراء، ولكنه عرفها من ثيابها كما وصفها جوهر. أما عبد الله فرأى وجهه. وأصغى فسمعهما يتحادثان همسا، وهم أن يدنو لسماع الحديث، فسمع وقع خطوات في الدهليز، فخشي أن يؤخذ بالتلصص ويعود الذنب عليه، فتحول وجوهر معه نحو الدهليز، فرأيا ياسرا قادما يتمشى، فلما رأى سعيدا سلم عليه وسأله عما يريده فقال: «أنا في انتظار السيدة الزهراء لأعلمها الغناء حسب أمر الخليفة.»
قال ياسر: «اذهب إلى غرفتها، ألا تعرفها؟»
قال سعيد: «هذا خادمها يعرف الغرفة، ولكنه يقول إنها ليست هناك.»
قال ياسر: «لعلها في الحمام؟»
قال جوهر: «ليست في الحمام يا سيدي، ولا في محل آخر أعرفه، وقد جئت للتفتيش عنها، ورأيت في الحديقة نورا فهل تظنها هناك؟»
قال ياسر: «أين؟ تعال» ومشى جوهر معه. أما سعيد فرجع إلى غرفته، فلما وصلا إلى الباب رآها ياسر مع عبد الله فدهش وقال: «هي هنا. ماذا تعمل؟»
قال جوهر: «لا أعلم، وأخشى إذا رأتني أن تقتلني. إني ذاهب يا سيدي إلى غرفتها أنتظرها فيها.»
قال ياسر: «اذهب، واحذر أن تذكر ذلك لأحد.»
قال جوهر: «سأكتمه عن كل إنسان.» ومضى.
الفصل السادس والأربعون
في الحديقة
أما ياسر فلم يشأ أن يضيع هذه الفرصة للانتقام من تلك المتكبرة، فأسرع إلى الناصر، وكان قد عاد إلى غرفة في ذلك القصر تعود أن يجلس فيها لمراجعة بعض ما يعرض عليه من الأعمال، فدخل عليه بلا استئذان - وتلك كانت عادة رؤساء الخصيان مع الناصر - ووقف بحيث يعلم الناصر أنه يريد مخاطبته، فأشار إليه فدنا، فقال: «ما وراءك؟»
قال ياسر: «قد أمر مولاي أمير المؤمنين سعيدا الوراق أن يعلم الزهراء ألحانا جديدة.»
فقطع الناصر كلامه قائلا: «ألم يعلمها؟»
قال ياسر: «إنه لا يزال في انتظارها.»
فاستاء الناصر من تعريض ياسر وتسرعه، وهو يعلم أن في نفسه شيئا عليها، فقال: «لا تلبث أن تأتيه، وما الذي يدعو إلى هذه العجلة منك؟»
قال ياسر: «تعجلت في نقل الخبر إلى مولاي لأن أحد خدمها أخبرني أنها غير موجودة في القصر، ولا هي عند المعلم.»
فبغت الناصر وقطب حاجبيه وقال: «أين هي إذن؟ لعلها في الحمام أو في الحجلة.»
قال ياسر: «ليست في القصر كله يا سيدي.»
فوقف الناصر وقد غضب من ياسر لإلقائه الشك في ذهنه وهو يقول: «أين هي؟ لا بد أن تكون في غرفتها أو ...» وسكت ومشى يتبع ياسرا والخدم تختبئ من طريقهما، فقاده ياسر إلى مكان يشرف منه على تلك الحديقة، فرأى الزهراء واقفة وبجانبها شبح لم يعرفه حتى نبهه ياسر إلى سحنته، فعرف أنه ابنه عبد الله، فهاج الدم في عروقه وأوشك أن يصرخ فيه لو لم يمسك نفسه خشية الفضيحة، وأكبر أن يظهر شكه أمام ياسر، فتجلد وقال: «يظهر أنها في شغل مع ولدنا عبد الله - حفظه الله - ولا بد من سبب فيه خير لنا، ولكن كان ينبغي لها أن تلقاه في غرفة من غرف القصر.»
وكان عبد الله قد ودعها وهرول مسرعا في الحديقة، وعادت هي إلى القصر، فأظهر الخليفة أن الأمر لا أهمية له، وصرف ياسرا، وذهب هو إلى غرفته وقلبه يتقد غيرة وحنقا، وحدثته نفسه مرارا أن يدعو الزهراء إليه في تلك الساعة فينتهرها ويوبخها ويستطلع خبرها، لكنه لم يشأ أن يمكن ياسرا من الشماتة بها، فلما صرفه وأوصاه أن يكتم ذلك أخذ يفكر فيما رآه فعظم عليه، ولم يستطع صبرا عن معاتبتها في الحال، فبعث وصيفة تستقدمها، فعادت الوصيفة وقالت: «إنها في الفراش لا تستطيع النهوض.»
وقد تعود الناصر أن يحتمل هذا الدلال منها فلا يغضبها، أو هي عادة المحبين في مثل هذه الحال؛ إذ يفوز منهم السابق إلى الدلال، وقد يكون في نفس المحب عتاب على حبيبه، فإذا رأى منه غضبا أو تجنيا شغل بمرضاته عن عتابه. فصبر الناصر نفسه وذهب إليها وهو يكظم غيظه، حتى إذا دخل غرفتها تنحى كل من كان هناك من الخدم والوصائف، وظلت هي وحدها.
وكانت حالما وصلت إلى غرفتها، قد نزعت ثيابها وارتدت ثوبا تعودت لبسه عند لقاء الناصر، إذ كان يزيدها جمالا ورونقا، وكان جمالها جذابا يأخذ بالعقول؛ يكفي دليلا على ذلك استيلاؤها على قلب الناصر حتى شغلته عن كل من في قصوره من السراري والجواري، وأصبح لا يتصرف إلا حسب رأيها ولا يرد لها طلبا، وقد بنى قصور الزهراء رغبة في مرضاتها وإحياء لاسمها كما علمت.
الفصل السابع والأربعون
الزهراء
كانت الزهراء إذا جالستها فأول ما يخاطبك عيناها، ثم لسانها، ثم يستولي عليك عقلها وظرفها، فلا تملك دفعا لما ترميك به من السهام النافذة تخترق الأحشاء، وكان في عينيها نور لا يعبر عنه بغير السحر، ولها قامة كالرمح مع بعدها عن الخلاعة والتبرج، وكانت فصيحة اللهجة، ذكية الفؤاد، سديدة الرأي مع تعقل ورزانة، يتهيب جليسها من حديثها، ويشعر بقوة حجتها وصحة برهانها.
وكان الناصر يأنس بمجلسها ويعجب بكل شيء تأتيه، فيرتاح إلى رؤيتها، ويطرب من حديثها أو غنائها، وكان إذا جالسها شغل بها عن كل شاغل، لكنه كان يلاحظ عليها في بعض الأحيان انقباضا لم يكن يعرف سببه. وقد تكون في مجلس طرب والخليفة إلى جانبها يطربها ويدللها، وهي في إبان فرحها، فتتغير سحنتها بغتة ويظهر عليها الانقباض رغم محاولتها إخفاءه عن الجلوس. وكثيرا ما سألها الناصر عن سبب ذلك التغيير وهي تنكره، أو تنتحل له سببا لا يقتنع به الناصر، ولكنه يجاريها.
فلما شاهد ما أتته في تلك الليلة أخذ يراجع تاريخ صلته بهذه المرأة لعله يرى موجبا لهذا التصرف، فلم يجد سببا يوجبه.
فتذكر ما كان يلاحظه عليها من الانقباض، فقال في نفسه: «لعل لهذا علاقة بذاك؟» ثم عزم على لقائها فبعث إليها كما تقدم ، فأدركت لذكائها أن الخليفة لم يبعث إليها إلا وفي نفسه شيء من العتاب؛ لأنها لاحظت في القصر حركة دلتها على أن الخليفة مشى نحو الحديقة، فلم تشأ أن تذهب إليه لعلمها أنه سيأتي إليها، وكان من عادتها أن تواجه العتاب بالغضب أو الدلال، وجعلت من أسباب مرضاته لبس ذلك الرداء الذي تعودت أن تلبسه كلما أرادت أن يكون الخليفة طوع إرادتها.
لبست ذلك الثوب وهو بلون السماء، وعليه تطريز من الفضة بأشكال النجوم وبينها القمر، وقد طرز على حاشية الثوب من أسفل هذان البيتان:
وإني لأهواه مسيئا ومحسنا
وأقضي على قلبي له بالذي يقضي
فحتى متى روح الرضى لا ينالني
وحتى متى أيام سخطك لا تمضي
وقد تمنطقت بمنطقة من الخز بحلق الذهب، وشدت من الأمام بعروة من الذهب مرصعة بالماس. وكان أثاث تلك الغرفة يأخذ بالعقول؛ لما فيه من النقوش والأشعار على الأبسطة والستائر والجدران، وكان سريرها من الآبنوس منصوبا في أحد جوانب تلك الغرفة الواسعة، وعليه نقش مطعم بالعاج في جملته هذه الأبيات:
ومجدولة أما مجال وشاحها
فغصن وأما ردفها فكثيب
لها القمر الساري شقيق وإنها
لتطلع أحيانا له فيغيب
أقول لها والليل مرخ سدوله
علينا بك العيش الخسيس يطيب
فقالت نعم إن لم يكن لك غيرنا
ببغداد من أهل القصور حبيب
وكانت كلة سريرها (الناموسية) من الحرير أسمانجونية اللون وعليها هذان البيتان:
من قصر الليل إذا زرتني
أبكي وتبكين من الطول
عدو عينيك وشانيهما
أصبح مشغولا بمشغول
ناهيك بما على الطنافس والوسائد من الأشعار المطرزة، مما يدهش البصر غير ما على الحجلة (التوالت) من النقوش الجميلة، وكانت حجلتها معصفرة بالذهب، وقد طرزت عليها أبيات تطريزا جميلا وهي:
دعيني أمت والشمل لم يتشعب
ولا تبعدي أفديك بالأب والأم
سقى الله ليلا ضمنا بعد هجعة
وأدنى فؤادا من فؤاد معذب
فبتنا جميعا لو تراق زجاجة
من الراح فيما بيننا لم تسرب
وكان في تلك الحجلة حق من الذهب فيه بخور، أمرت الزهراء بإحراق شيء فيه، فتصاعدت رائحته واختلطت بروائح الطيب.
وحالما علمت الزهراء أن الخليفة قادم إليها، أمرت بإيقاد الشموع، وتهيأت لاستقباله بذلك الثوب الجميل، كأنها لم تفعل شيئا يوجب عتابا أو مؤاخذة.
الفصل الثامن والأربعون
العتاب
ترك الخليفة غرفته وهو يغالب غضبه ويكظم غيظه، فلما أقبل على غرفة الزهراء كانت قد خرجت لاستقباله وهي تجر ذيل ثوبها تيها. ثم وقفت تنتظر ما يبدو منه، فرأته ظل ماشيا لا يلتفت إليها فأحبت أن تبادئه، فهمت بيده وأكبت عليها كأنها تريد تقبيلها، فاجتذبها من بين يديها، وظل ماشيا إشارة إلى غضبه عليها، فمشت في أثره وهي مطرقة بلا تذلل أو خوف، وأظهرت العتاب لهذا الجفاء. أما هو، فظل ماشيا حتى تصدر القاعة فجلس على وسادة غاضبا، ولم يدع الزهراء للجلوس، فظلت واقفة. ثم رفع بصره إليها فرآها توجه إليه نظرة عتاب بما يعجز عنه اللسان، فصبر لعلها تقول شيئا، فبسطت كفها وقدمتها له فقرأ عليها بيتا منقوشا بالحناء وهو:
فديتك قد جبلت على هواكا
فقلبي ما ينازعني سواكا
فلما وقع نظره عليه وجد للكلام سبيلا، فحول وجهه عن تلك الكف وقال: «قد كان ذلك من عهد بعيد.» وهز رأسه هزة الغضب.
فقالت الزهراء: «هل يأذن لي أمير المؤمنين بالجلوس؟»
فأشار إليها أن: «اجلسي.»
فجلست بين يديه وقالت: «مالي أرى مولاي قد تغير على جاريته؟»
فقال الناصر: «لم أتغير أنا يا زهراء.»
قالت الزهراء: «ولا أنا يا سيدي. كيف يخطر ببالي التغير وأنا في نعمة لم يحلم بها أحد قبلي؟!»
قال الناصر: «أراك سعيدة في هذه القصور؟»
فابتسمت الزهراء وقالت: «كيف لا أكون سعيدة وأنا مشمولة برضى أمير المؤمنين، رافع لواء الإسلام والمسلمين؟!»
قال الناصر: «لا تكذبي، كم من مرة رأيت مظاهر التعاسة على محياك وسألتك عن علة ذلك فأنكرت؟ أظنني عرفت العلة الآن!» قال ذلك بنغمة الظافر ولسان حاله يقول: «كشفت سرك.»
فلما أشار إلى انقباضها أجفلت وأخذ الانقباض يغالبها وهي تبتسم وقالت: «لا تخلو حياة الإنسان من أسباب قهرية للانقباض حتى لا يكون أهل الأرض مثل أهل السماء، فلولا هذ الانقباض القليل الذي يتولاني في بعض الأحايين لكنت أحسبني في الفردوس.»
فأعجبه تخلصها بهذا الإطراء، ولكنه لم يقتنع فقال: «نعم، ولكن أحب أن أعرف سبب ذلك الانقباض! ما هو سبب انقباضك الفجائي أحيانا وأنت جالسة إلي ونحن في طرب وغناء؟»
فتنهدت رغم إرادتها وقالت: «يندر أن يحدث ذلك، ولا أذكر سببه.»
قال الناصر: «أنا أعلم سببه.»
قالت الزهراء: «طبعا، أمير المؤمنين أعلم.»
قال الناصر: «لم أكن أعلم ذلك قبل اليوم.» وتنحنح.
فأدركت أنه لا يلبث أن يذكر ما شاهده منها فقالت: «وكيف عرفته؟»
قال الناصر: «عرفته بالمصادفة. هل تلقيت درسك في الألحان اليوم؟»
قالت الزهراء: «كلا يا سيدي.»
قال الناصر: «ولماذا؟»
قالت الزهراء: «لأني كنت في شاغل.»
قال الناصر: «وما الذي يشغلك عن ذلك وأنت الآمرة الناهية في هذه القصور كلها، وأنت صاحبة السيادة على ما فيها من الجواري والغلمان؟»
قالت الزهراء: «وهل كثرة الجواري وسعة القصور تغني الإنسان عن الاشتغال؟! هذا أمير المؤمنين يده فوق كل يد ومع ذلك فهو يرى ما يشغله أحيانا.»
فتبادر إلى ذهنه أنها تؤنبه على تعلقه بعابدة وتشير إلى ما استخفه من الطرب في تلك الليلة، فقال: «أظنك تحاسبينني على خطواتي وتعدين علي أنفاسي! ها أنت قد عرفت ما شغلني أحيانا. فقولي ما الذي يشغلك؟ قولي ما الذي شغلك عن الدرس الليلة؟» قال ذلك بصوت فيه شيء من التهديد، وحدق بصره فيها.
فلم تتهيب تهديده وظلت رابطة الجأش وقالت: «إن ما شغلني عن الدرس هو أهم من الدرس في نظري.»
قال الناصر: «طبعا هو أهم من الدرس! وتقولين ذلك صريحا؟»
قالت الزهراء: «لقد تعودت الصراحة في القول.»
قال الناصر: «فإذن اصدقيني الآن.»
قالت الزهراء: «بماذا؟»
قال الناصر: «مع من كنت مختلية هذا المساء؟»
قالت الزهراء: «مع الأمير عبد الله ابن أمير المؤمنين.»
قال الناصر: «ولماذا؟»
قالت الزهراء: «لسبب لا أقوله.»
قال الناصر: «هل تكتمين ذلك عني؟»
قالت الزهراء: «نعم يا سيدي أكتمه.»
قال الناصر: «ولكن ذلك يسوءني كما تعلمين.»
قالت الزهراء: «لم أكن أعلم أنه يسوءك، ومع ذلك فقد حصل.»
قال الناصر: «تقولين بجسارة إنه حصل، ولا تريدين أن تطلعيني على السبب؟! تقولين ذلك صريحا دون خوف؟! يا لله من هذه الوقاحة!»
فتبينت الغضب في عينيه وساءها لفظ (الوقاحة) فقالت: «لم أتعود هذا الغضب من أمير المؤمنين ولا هذه الألفاظ.» وأطرقت دلالا واشتغلت بإصلاح الأساور في زندها وهي تنظر إليها.
الفصل التاسع والأربعون
الحيرة
فتأثر الناصر من عتابها، ولكنه أصر على استطلاع سرها فقال: «أصبت؛ أنك لم تتعودي مني هذا الجفاء لأني لم أر منك ما يبعث عليه. أما الآن فقد خرجت عن عهدي فيك.»
قالت الزهراء: «بماذا؟ ألأني خاطبت ابنك؟»
قال الناصر: «ليست مخاطبته مما تؤاخذين عليه، ولكنك فعلت ذلك سرا وأتيت لعبد الله بثياب امرأة. لا أدري كيف أطاعك هو على ذلك؟! إنه خائن.» وأحس الناصر أن الغضب يكاد يخرجه عن هدوئه فتماسك وسكت.
فقالت الزهراء: «إذا غضب أمير المؤمنين مما حدث، فأنا صاحبة الذنب وليس ابنه الأمير عبد الله، فلا داعي لاتهامه بشيء، وسوف تظهر براءته.»
فقال الناصر: «والآن قولي، ألا تخبرينني عن سبب تلك الخلوة بعبد الله؟»
قالت الزهراء: «لا أقول ذلك الآن. لا تغضب يا مولاي؛ إني لا أستطيع أن أقوله، ولكن المستقبل كفيل بكشفه.»
فلما يئس من إقناعها بالتصريح بالحقيقة، حدثته نفسه أن يحملها على الإقرار قهرا، ثم رأى أن ذلك يحط من كرامتها وهو يحبها ويحب المحافظة على منزلتها؛ لكثرة حسادها في بلاطه، وكثيرا ما جاءته الوشايات في حقها وهو يدافع عنها ويظهر حسن ظنه بها، فرأى أن حملها على الإقرار بالقوة يحط من كرامته لدي أهل دولته فضلا عن شغفه بها، فهو يميل بعواطفه إلى تبرئتها لئلا يئول الغضب إلى تركها، أو قتلها، وهو يرى بقاءها لازما له، ويعد وجودها فألا حسنا على دولته؛ لأنه منذ أن عرفها والسعد حليفه في الحروب والإدارة السياسية. على أن المحب كثير الظنون قريب الشكوك، فلما تذكر كيف رآها في خلوة مع ابنه على تلك الصورة ثارت غيرته، فرأى من الحكمة أن يتمهل في الحكم واستطلاع السر بالحسنى، وأخذ يفكر في طريقة لتحقيق هدفه.
فلاحظت هي تفكيره، فجثت بين يديه وقالت: «كيف يظن مولاي السوء بي وقد غمرني بنعمه ورفع منزلتي، وجعلني موضوع حبه وأقرب الناس إليه ومحل ثقته!»
فلما سمع هذه العبارة تذكر قولا سمعه من سعيد أول يوم لقيه في قصره، وطلب إليه أن يستطلع طالعه فقال له يومئذ: «إن الخوف يأتيك من أكثر الناس ثقة عندك.» فعاد إلى الارتياب، ولكنه صمم على الصبر فوقف وهو يقول: «أنا ذاهب، وينبغي لك أن تقدري سكوتي الآن بالرغم مما يحيط بي من أسباب الشكوك.»
قالت الزهراء: «إنني مقدرة ذلك، وهو من جملة أفضالك، وسترى أني موضع ثقتك.» ومشت في أثره ولاحظت أنه يمشي الهوينى كأنه يتوقع أن تدعوه للرجوع، أو أن قلبه لم يطاوعه على الخروج وهو لم يصل إلى نتيجة، فكان يخطو خطوتين ويقف هنيهة، ثم يخطو وهي تمشي في أثره لتشيعه إلى باب الغرفة، فلما وصل إلى الباب وقف والتفت إليها فرآها مطرقة إطراق التفكير، فتبادر إلى ذهنه أنها عدلت عن الكتمان، فتحول نحوها وقال: «ألا تغيرين رأيك فتطلعيني على الحقيقة؟»
قالت الزهراء: «قلت لمولاي ما يمكنني أن أقوله، وأنا أعلم أن حياتي وموتي بين شفتيه، ولكن ...»
قال الناصر ولم ينتظر إتمام كلامها: «أسألك سؤالا واحدا، أجيبيني عليه بالصدق.»
قالت الزهراء: «اسأل يا سيدي، فإني لا أقول غير الصدق.»
قال الناصر: «أتحبين ابني عبد الله؟»
قالت الزهراء: «نعم أحبه.» ولم يتلجلج لسانها ولا تغير وجهها.
فبغت لهذه الجسارة ونظر في وجهها وأجال نظره فيها، وهي لا تبالي، فقال لها: «تقولين ذلك بكل جسارة؟!»
قالت الزهراء: «ألم تشترط علي الصدق؟ إني أحب الأمير عبد الله. كيف لا أحبه وهو ابن سيدي أمير المؤمنين؟»
فرأى في هذا التعبير ما يخفف الغضب، وندم على رجوعه للسؤال فسكت، ومشى إلى غرفته، وعادت هي إلى غرفتها واستلقت على سريرها، وتنهدت كأنها أطلقت نفسا كان محبوسا في صدرها ويكاد يخنقها، فأتاها جوهر، وأخذ يماجنها التماسا لتسليتها، فأشارت إليه أن يتركها وحدها.
الفصل الخمسون
الهواجس
ثم أمرت إحدى وصيفاتها أن تهيئ لها الفراش، وجاءت وصيفة أخرى لتساعدها على تبديل ثيابها وهي مستغرقة في الأفكار، فلما فرغت من تبديل الثياب أمرت بإطفاء الأنوار إلا ضوءا ضعيفا. وأرخت الكلة (الناموسية) على سريرها تلتمس النوم ولكن عبثا.
فما أن استلقت حتى تراكمت عليها الهواجس، وأخذت تفكر في حالها وما يبدو عليها من سعادة يحسدها عليها الناس، وما يعتور تلك السعادة من أسباب الشقاء، فعادت بذاكرتها إلى صباها منذ حملها النخاسون من جبال الصقالبة وهي طفلة ومعها أخوها، ولما تذكرت أخاها تنهدت وتقلبت على جنبها الأيمن تريد أن تنسى تلك الذكرى، فلم تزدها هذه الرغبة إلا تذكيرا، فتذكرت كيف حملت مع أخيها إلى إيطاليا وعليهما أطمار بالية لا تقيهما البرد، ولكن جمالها كان يلفت الأنظار، وقد وقعت في يد أحد تجار الرقيق من اليهود، وكان خبيرا بخفايا التجارة، فعرف أن مثل هذه الجارية لا يدفع ثمنها إلا المسلمون في صقلية، وكانت جزيرة صقلية يومئذ في حوزة المسلمين تحت سيطرة دولة العبيديين في المغرب، وكان أمراؤها يتقربون إلى خلفاء تلك الدولة بأمثال هذه الهدايا، فأراد أن يبتاع الزهراء ليرسلها هدية، فأبت وتوسلت إلى التاجر أن لا يبيعها إلا مع أخيها؛ لأنها كانت شديدة التعلق به، ولم يكن لها تعزية في ذلك الأسر والفقر سوى وجود أخيها معها، فأطاعها التاجر واشترط مع أمير صقلية أن يشتري الاثنين معا، فرضي وابتاعهما؛ لأن جمال الزهراء بهره، وأعجبه ما آنسه من لطفها وذكائها، وحدثته نفسه أن يستبقيها له، لكنه كان في حاجة إلى مهمة من الخليفة العبيدي صاحب إفريقية، وهو يومئذ المهدي، فاستقر رأيه على أن يرسلها إليه ويستبقي أخاها عنده يربيه في داره، ويدربه على الجندية على جاري عادتهم في استخدام المماليك، فأبت الزهراء عليه ذلك، وتوسلت إليه أن يرسل أخاها معها فيكون حيث تكون، فلم يطاوعه قلبه على رد طلبها بعد ما آنسه من لهفتها.
كانت الزهراء وهي نائمة على جنبها تتذكر أيام صباها في تلك الجزيرة، وكيف دهشت لما شاهدته هناك من مظاهر المدنية مما لم تكن عيناها قد وقعت على شيء مثله من قبل؛ لأنها نشأت بين الجبال والأودية ترعى الماشية أو تذهب للاحتطاب، ومع ذلك فقد كانت سعيدة هناك، وكانت أسعد الأوقات عندها عندما ترجع مع أخيها، وهما يتعاونان في نقل حمل من القش أو العيدان أو يسوقان بعض الماعز، وأبواهما ينتظرانهما في كوخ حقير، فيشعلون تلك العيدان ويحومون حولها للدفء. وكان يلذ لها أن تذكر ذلك الدفء مع الدخان المتصاعد حتى يكاد يعمي الأبصار، أكثر مما يلذ لها الاستلقاء على ذلك الفراش اللين مع ما يغشاه من الكلل المطرزة والستائر الموشاة، وما يتضوع في جو تلك الغرفة من الطيب.
فلما تذكرت ذلك تنهدت، وقد ضاق صدرها، فدفعت الغطاء عنها وتحولت إلى الجانب الآخر، وأخذت تناجي نفسها: «ويلاه ما هذه الهواجس! آه ما أجمل تلك الجبال الجرداء، وما أشهى رائحة دخان العيدان، وأنا بقرب أخي وحبيبي!» ولما ذكرت أخاها جلست على الفراش فجأة، والتفتت إلى ما حولها على ذلك النور الضعيف، فرأت الوصيفة التي تنام عند قدميها لا تزال جالسة كأنها شعرت أن الزهراء لم تنم بعد، فظلت جالسة لعلها تحتاج إليها في شيء.
أما الزهراء فلما رأتها أجفلت؛ لأنها كانت تود أن تكون وحدها لعلها تطلق لأشجانها العنان.
الفصل الحادي والخمسون
حديث عن الصبا
وكانت تلك الوصيفة أحب وصيفاتها إليها، وقد فتحت لها قلبها واتخذتها أما وأطلعتها على بعض أسرارها، ولم تكد الزهراء تجلس على الفراش حتى نهضت الوصيفة واقفة تتوقع أمرها بما تريده، فنادتها الزهراء قائلة: «ألا تزالين جالسة يا خالة؟»
فقالت الوصيفة: «كيف أنام يا سيدتي وأنا أراك تتقلبين على فراشك؟ هل تحتاجين إلى خدمتي؟»
قالت الزهراء: «كلا.» وفي رنة صوتها دليل على شيء تكتمه.
فقالت الوصيفة: «يظهر لي أنك تحتاجين إلى شيء؟»
فتنهدت الزهراء وقالت: «نعم، ولكن ...»
فتقدمت الوصيفة حتى وقفت بجانب السرير وقالت: «هل أرفع هذه الكلة (الناموسية)؟»
قالت الزهراء: «افعلي، إني أراني لا أستطيع النوم.»
قالت الوصيفة: «يظهر أن حديثك مع أمير المؤمنين أقلقك. لا بأس عليك، إنه لا يلبث أن يرضى صاغرا.» قالت ذلك بصوت منخفض كأنها تحاذر أن يسمعها أحد.
فقالت الزهراء: «أعلم ذلك جيدا، ولكن رضاءه لا يخفف شيئا من قلقي.»
قالت الوصيفة: «ما الذي يقلقك وأنت سيدة هذه القصور وساكنيها، ربة الجمال والذكاء، لا يرد لك أمر، حتى أمير المؤمنين صاحب السيادتين يتمنى رضاك؟!»
فتنهدت وتشاغلت بجمع شعرها عن وجهها وإرساله إلى الوراء، ثم قالت: «أتظنين السعادة يا خالة فيما ترينه من الرياش والأثاث، أو بما يحيط بي من الخدم؟! إني تعسة. إني شقية.» وغصت بريقها.
قالت الوصيفة: «ماذا حدث يا سيدتي؟»
قالت الزهراء: «لم يحدث شيء، ولكن هذا النور الضعيف ذكرني بأشياء كنت أحاول نسيانها.»
قالت الوصيفة: «هل أنير الشموع؟»
قالت الزهراء: «لا.»
قالت الوصيفة: «ماذا أفعل؟ ماذا تريدين أن أفعل لراحتك؟»
قالت الزهراء: «إن الذي يريحني لا تقدرين عليه.»
فأطرقت الوصيفة هنيهة، وكأنها تذكرت سبب ذلك القلق وقالت: «أظنك عدت إلى الحديث القديم! إن تلك الذكرى يا سيدتي لا فائدة منها؛ إن أخاك لا سبيل إليه، وقد آن لك أن تنسيه.»
فمدت الزهراء يدها إلى فم الوصيفة كأنها تحاول أن تسكتها وقالت: «لا تقولي ذلك، كيف أنساه وأنا لا أزداد إلا تذكرا؟! إني أتذكر صباي يوم حملت من صقلية مع أخي كما أخبرتك مرة، أتذكر الآن وجهه الصبوح، وقد أخذ بيدي ووقف إلى جانبي على ظهر السفينة وهي تقلع من مياه صقلية. يا ليتنا بقينا في تلك الجزيرة ولم ننتقل منها! يا ليتنا غرقنا معا في تلك المياه!»
قالت الوصيفة: «ولكن انتقالك كان سببا في وصولك إلى هذه النعمة التي يحسدك عليها أقرانك، بل يحسدك عليها نساء العالمين.»
قالت الزهراء: «هذا صحيح، ولكن ينقصني وجود أخي ليتمتع بهذه السعادة معي. آه من ينبئني عن مكانه! هل هو حي أم ذهب طعاما للأسماك!» ومسحت عينيها بطرف كمها.
قالت الوصيفة: «لا يعلم ذلك إلا الله، ولو كان حيا لعلم بمقامك وجاء إليك.»
قالت الزهراء: «كيف يعلم وهو لا يعرف اسمي هذا، هو لا يعرف اسمي الزهراء، وإنما يعلم أن اسمي «حسناء»، فلو كنت معروفة بهذا الاسم لبلغه خبري.»
فقالت الوصيفة: «صحيح، وأين افترقتما يا سيدتي؟ هل تخبرينني لعلي أستطيع أمرا ينفعك! هل تكاشفينني؟»
فقالت الزهراء: «فارقته في عرض البحر، اختطفني القرصان ونحن على تلك السفينة، ولا أعلم ماذا فعلوا بأخي.»
قالت الوصيفة: «ألم تسألي عنه؟»
قالت الزهراء: «من أسأل؟ وقد نقلت من أناس لا أعرفهم إلى أناس لا أعرفهم، وكلهم لصوص. اختطفني لصوص من بين ذراعي والدي وباعوني إلى تجار من صقلية، ومكثت عندهم مدة علموني فيها اللغة العربية، ثم باعوني لأمير صقلية، وهذا أمر رجاله فحملوني على سفينة قالوا إنهم ذاهبون بي إلى ملك عظيم في إفريقية، فرضيت لأن أخي كان معي، ولم تنقض علينا سوى بضعة أيام - ونحن في السفينة - حتى سطا علينا لصوص البحر في ليلة ليلاء، وهو كثيرون في هذا البحر، يسطون على السفن وينهبون ما بها، ويسمونهم القرصان، وقد كان في إمكاني أن أبقى هناك ولكن ...»
فتعجبت الوصيفة من قولها وقالت: «ولماذا لم تبقي؟»
الفصل الثاني والخمسون
سبب الفراق
فغصت بريقها وسكتت، وهي تتلهى بمسح دمعتين انحدرتا على خديها، وقالت: «لم أبق لأني كنت أطلب النجاة من رجل هناك يزعم أنه رئيس تلك السفينة، وما برح منذ أقلعنا من صقلية وهو يتقرب إلي وأنا أشعر بنفور منه لا أدري سببه، وهو يدنو مني ويعدني ويمنيني ويظهر أنه يحب أخي ويلاطفه، فأظهرت لأخي نفوري من ذلك الرجل وتواعدنا على أننا إذا وصلنا إلى شاطئ إفريقية شكوناه إلى ملكه، وكان قد أدرك غرضنا فجعل يضيق علينا، فلما هاجمنا القرصان خطر لي - من شدة كرهي لذلك الرئيس - أن انتقالنا إلى سفينة القرصان ينجينا منه. ونحن في كل حال غنيمة للقوي، فلم ندافع كثيرا ولم تكن نجاتنا في أيدينا، فما شعرت إلا وأنا على سفينة القرصان، وقد أقلعت بنا، وكنت أحسبهم قد خطفوا أخي معي، فلم أجده ، فبكيت وصرخت وما من سميع، فأخذت أشعر بالتعاسة منذ ذلك الحين. وحملني القرصان إلى شاطئ الأندلس فباعوني إلى لصوص آخرين، وهؤلاء باعوني إلى رجل حملني إلى قرطبة، فلما رآني ياسر رئيس الخصيان اشتراني لسيده أمير المؤمنين، فشغلت في بادئ الأمر بمصائبي، ثم بالانتقال إلى هذه النعمة، وما لبثت أن عدت إلى أمر أخي، ويكاد الندم يأكلني لأني أشعر أني كنت سببا في هذا الفراق.» ولما بلغت إلى هنا لم تتمالك عن البكاء، وهي لا تجسر أن تجهر به لئلا يظن من يسمعها أنها تبكي خوفا من غضب الخليفة.
وكانت الوصيفة تسمع كلامها وتعجب لشدة تعلقها بأخيها لأنها لو كانت هي في مكانها، وصارت بهذه المنزلة من الجاه والنعم، لم تعد تذكر أحدا من أهلها، ولكن الناس يتفاوتون في أحاسيسهم ومشاعرهم، ففيهم المحب الذي إذ أحب تعشق وارتسم حبيبه في كل جارحة من جوارحه، ولا يجد له عنه صبرا ولا تغيره طوارق الحدثان، ومن الناس من يخلق مطبوعا على الألفة، إذا تعود شيئا شق عليه فراقه ولو كان مكروها، وإلى ذلك أشار المتنبي بقوله عن نفسه:
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
ويغلب فيمن يحب كثيرا أن يكره كثيرا، فيكون حبه كلفا وبغضه تلفا، ومن الناس من لا يعرف من الحب إلا اسمه، وإنما يكون الحب في نظره قضاء لمصلحة أو طمعا في غرض، فإذا تجرد عن المنفعة لم يبق له أثر.
وكانت الزهراء شديدة الحب إذا أحبت، مع تعقل وإخلاص، شديدة البغض إذا أبغضت، وكانت قد تعشقت أخاها، وتجد الحياة مرة بدونه، وهما في أشقى الأحوال، وقد أبغضت رئيس تلك السفينة حتى لم تعد تستطيع أن تتصوره، فلما صارت إلى تلك النعمة صارت تحب أن يكون أخوها معها ليشاركها سرورها، وهي مع ذلك لا تعرف مصيره، أحي هو أم ميت؟
أما الوصيفة فلما رأت يأس الزهراء، أرادت أن تشغلها عن ذلك الحديث بسواه - ولم يكن يشغلها شيء عنه - فقالت: «احمدي الله أنك نجوت من شخص تكرهينه، و ...»
فابتدرتها قائلة: «نعم نجوت، وليتني ما نجوت!» وكفت عن الكلام كأنها ندمت على ما فرط منها، فساعدتها الوصيفة على تغيير الموضوع فقالت: «إن تفكيرك يا سيدتي في أخيك لا فائدة منه، وقلبي يحدثني بأنك ستلتقين به. ألم تسألي المنجمين عنه؟»
فقطعت الزهراء كلامها قائلة: «إني لا أصدق المنجمين، ولا أثق إذا سألتهم أن لا يبلغوا الخبر إلى الناصر، ولا أريد أن يعرف أني مشغولة عنه بأحد؛ لأنه لم يشغل عني بسواي.»
فقالت الوصيفة: «إن تفكيرك يا سيدتي في أخيك لا فائدة منه، وقلبي يحدثني بأنك ستلتقين به. ألم تسألي المنجمين عنه؟»
فقالت الوصيفة: «أحسنت»، واقتربت من أذنها وقالت همسا: «ولكنني علمت أن الرجل الذي أمره مولانا الناصر أن يعلمك الغناء بارع في التنجيم لا مثيل له فيه.»
قالت الزهراء: «تعنين سعيدا الوراق؟ هل يعرف التنجيم؟»
قالت الوصيفة: «أنا على ثقة من ذلك، وعلمت أن مولانا يعول عليه سرا في استطلاع الغيب، وله فيه ثقة كبرى. فإذا جاء لتعليمك الغناء فاسأليه لعله يفيدك، ولا ضرر من ذلك.»
قالت الزهراء: «ولكن سؤاله في هذا الشأن يقتضي ... لا بأس سأرى.» وأحست من تلك الساعة براحة أذهبت قلقها، فأظهرت أنها تميل إلى النوم، فساعدتها الوصيفة في إرسال الكلة (الناموسية) ونامت وهي تعمل فكرها فيما تفعله.
أما سعيد فذهب في تلك الليلة إلى غرفته ينتظر أن يأتيه جوهر بما دار بين الناصر والزهراء، ولم يفت جوهر شيء مما دار بينهما، فجاء إلى سعيد وقص عليه ما سمعه، فبات تلك الليلة وهو يتوقع أن يبعث الخليفة في طلبه في الغد.
الفصل الثالث والخمسون
ماذا وجدت؟
وفي الصباح جاء ياسر يدعو سعيدا إلى الناصر، فنهض ومعه كتاب التنجيم وياسر يحرضه على الإيقاع بالزهراء، فمضى حتى دخل على الخليفة وهو لا يزال في فراشه، فدعاه إلى الجلوس، فجلس وهو يتجاهل، فقال له الناصر: «هل علمت جاريتنا الزهراء شيئا؟»
قال سعيد: «كلا يا مولاي؛ لأني لم أجدها في غرفتها بالأمس.»
فقال الناصر: «ألم يدلك تنجيمك على سبب غيابها؟»
قال سعيد: «لم أبحث عن سبب ذلك، ولو أمرتني لفعلت.»
فأخرج الكتاب وأخذ يقلب فيه ويتأمل في بعض سطوره، كأنه يحسب ويستخرج، والناصر ينتظر ما يقول، فلما أبطأ في الكلام قال له: «ماذا وجدت؟»
قال سعيد: «يأمر مولاي بمبخرة؟»
فصفق وأمر له بما أراد، فجيء إليه بمبخرة من ذهب فيها جمرة، فأخرج من جيبه قطعة من البخور، ووضعها في المبخرة وجعل يتفرس في الدخان المتصاعد منها، ثم ترك الكتاب وجعل يده على حاجبه كأنه يستظل بها من الشمس، وهو ينظر إلى الدخان ويقول: «ماذا أرى؟ أليس هذا هو الأمير عبد الله؟»
فلما سمع الناصر قوله تيقن من قدرته على استطلاع الغيب، وظل ساكتا ليرى ما يبدو منه، فأنزل سعيد يده وأعاد التفرس في الدخان وهو يتصاعد من المبخرة إلى السقف وقال: «بلى، هذا هو الأمير عبد الله ابن أمير المؤمنين في الحديقة والزهراء إلى جانبه، هذا يا سيدي ما أراه. ولا أدري إذا كان البخور يخدعني.»
قال الناصر: «وهل خدعك من قبل؟»
قال سعيد: «كلا، وإنما استبعدت ذلك لأني تركت الأمير عبد الله في قصره، ولم أسمع أنه جاء إلى هذا القصر.»
قال الناصر: «ينبغي لك أن تعرف كيف جاء!»
فعاد إلى المبخرة ووضع عليها قطعة أخرى من البخور، ونظر إلى دخانها، وقال: «هو، هو بعينه، وعليه ملابس النساء والزهراء إلى جانبه تحادثه.»
قال الناصر: «ماذا كان حديثها؟»
قال سعيد: «لم أسمع شيئا.»
قال الناصر: «أحب أن أعرف الحديث الذي دار بينهما.»
قال سعيد: «وهذا ما أحب أن أعرفه أنا، ولكني لا أسمع شيئا الآن.»
قال الناصر: «هل ترجو أن تسمع شيئا في فرصة أخرى؟»
قال سعيد: «نعم يا سيدي.»
قال الناصر: «يكفي الآن، فاكتم ما رأيت، ومتى تمكنت من سماع الحديث فأخبرني، وما الذي يساعدك على سماعه؟»
قال سعيد: «يساعدني أن أسمع صوتها تتكلم.»
قال الناصر: «فأنت اليوم مأمور بتعليمها الغناء، وسأبعث إليها بأنك آت لهذه الغاية في العصر.»
فأشار برأسه إشارة الطاعة وقال: «الأمر لمولاي، ولكن الأفضل أن لا يكون ذلك في غرفتها؛ لكثرة من فيها من الخدم والوصيفات، أو يأمر مولاي أن تكون هناك منفردة، ومعها وصيف أو وصيفة فقط.»
قال الناصر: «حسنا، وإنها تفضل ذلك أيضا، فمتى ذهبت إليها تجدها في غرفتها منفردة.»
قال سعيد: «هل أذهب إليها في أصيل هذا اليوم؟»
قال الناصر: «افعل»، وتزحزح الخليفة من مكانه، فنهض سعيد واستأذن وخرج.
وفي العصر أصلح شأنه واصطحب ياسرا إلى غرفة الزهراء، فأوصله إلى باب الغرفة ودخل فأخبرها بمجيئه وانصرف، فدخل سعيد من باب الغرفة فوجد في وسطها ستارا منصوبا خرج إليه من ورائه جوهر، وأظهر أنه لم يره إلا في تلك الساعة وقال له: «أنت معلم الغناء؟»
قال سعيد: «نعم.»
قال جوهر: «إن مولاتي في انتظارك وراء هذا الستار بأمر الخليفة، تفضل واجلس.» وثنى وسادة وقدمها له، فجلس ثم ذهب فأتاه بعود، وقال: «هذا عود لتدلها به على ما تريد أن تفعله.»
الفصل الرابع والخمسون
الدرس
فتناول سعيد العود وضبطه على لحن، ودفعه إلى جوهر، وقال: «أعطها العود.»
فدخل به وسلمه إليها فقال سعيد: «اعزفي عليه لحن كذا.»
فأخذت تعزف عليه، وهو يشير إليها أن تصلح هذا الوتر وتشده، أو ترخيه، وتغير هذه النقرة أو تلك، وهي تفعل وأفكارها تائهة؛ لأنها كانت ما تزال مشغولة بأمر أخيها والتنجيم.
ولم يكن هو أقل اشتغالا بها، وود لو أنها تزيح ذلك الستار ليراها، وندم لأنه لم يشترط على الناصر مجالستها ورؤيتها، ولكنه أومأ إلى جوهر أن يحتال في أن يراها، فأخذ جوهر يظهر الضجر من نقل الدرس بينهما، وقال: «إن التعليم على هذه الصورة لا يفيد يا قوم.»
وكان لقوله وقع استحسان عند كليهما، فقال سعيد: «لو استأذنت أمير المؤمنين في أن نتقابل لم يمنعنا، وإذا أمرت الزهراء بذلك الآن كان الأمر لها.»
فقال جوهر: «لا أظن أن سيدتي تمانع في ذلك، ونحن في هذا الجناح من القصر وحدنا، ليس من يسمع أو يرى.» ودخل إليها فخاطبها همسا ثم عاد وقال: «إن سيدتي تأمر برفع الستار على شرط .»
قال سعيد: «وما هو؟»
قال جوهر: «بلغها أنك عالم بالتنجيم.»
فقطع سعيد كلامه قائلا: «ومن أبلغها ذلك؟»
قال جوهر: «علمت والسلام، وأنا أعلم أيضا، فالشرط يا سيدي أن تستطلع لها أمرا شغل بالها منذ عدة أعوام، فإذا فعلت ذلك وأصبت. كشف الستار وقابلتها، فهل تقبل بهذا الشرط؟» قال ذلك وهو يتلوى ويتماجن.
فقال سعيد: «أما وقد أمرت، فلها علي ذلك.» ثم وجه خطابه إليها فقال: «ما الذي تريدين كشفه يا سيدتي؟»
قالت وصوتها يتلجلج: «لا أقول ما هو، ولكنني أقول إني فقدت شخصا منذ أعوام كثيرة، ولا أعلم ما صار إليه أمره، فإذا كنت تجيد التنجيم حقيقة فقل لي من هو؟ وأين هو؟»
فأخرج سعيد كتابه، وأخذ يقلب فيه، وقد استولى السكوت على المكان لا يسمع فيه إلا حفيف صفحات الكتاب، ثم قال: «إنك تبحثين عن أخ شقيق.»
فلما سمعت الزهراء قوله لم تتمالك أن صاحت: «نعم أخي شقيقي، لله درك! هل هو حي؟ أخبرني حالا.»
فأعاد سعيد التقليب وقال: «نعم، حي!»
فاستغربت الزهراء حكمه السريع، وشكت في صدقه، وقالت: «هل تعرف اسمه؟»
قال سعيد: «أي اسم من اسميه تريدين؟»
قالت الزهراء: «وهل له اسمان؟»
قال سعيد: «نعم، له اسمان، اسم تعرفينه، واسم جديد لا تعرفينه.»
قالت الزهراء: «ما هو اسمه الذي أعرفه؟»
قال سعيد: «سالم.»
فصاحت الزهراء: «نعم سالم. سالم. قل لي هل هو حي؟ قل رعاك الله!»
قال سعيد: «نعم، إنه حي ولكنه ...»
قالت الزهراء: «ولكن ماذا؟»
قال سعيد: «ولكنه تحت خطر القتل.»
فلما رأت أنه أصاب في ذكر الاسم وأنه شقيقها، صدقت كلامه عن الخطر المحدق به، وأخذت ترتعد وقالت: «وأي خطر، وأين؟ قل لي، فإن أمير المؤمنين ينقذه منه إكراما لي.»
قال سعيد: «يا حبذا ذلك، ولكن الخطر عليه من أمير المؤمنين نفسه.»
الفصل الخامس والخمسون
كشف الحجاب
فلم تعد الزهراء تستطيع استبقاء الحجاب بينها وبين سعيد، فنهضت وأطلت من وراء الستار، وقد أرخت على رأسها خمارا مزركشا، وعيناها تلمعان من الدهشة، فنهض سعيد عند رؤيتها كأنه وقف احتراما لها فقالت: «الخطر عليه من أمير المؤمنين؟» قالت ذلك وحالما وقع نظرها على سعيد تراجعت وحولت بصرها عنه لحظة، ثم أعادت النظر إليه وتفرست في وجهه كأنها تعرفه، أو تعرف رجلا يشبهه، ولكنها أحست بقشعريرة.
أما هو فنظر إليها بهدوء، وقال بصوت خافت: «لا تضطربي يا حسناء إن أخاك سالما لا بأس عليه، ولو كان الخليفة خصمه.»
فلما سمعته يناديها باسمها القديم أجفلت وزادت رعدتها، ولم تعد تقوى على الوقوف، وقالت: «لست منجما، ولكنك نبي!»
فضحك سعيد وحول وجهه عنها ليهدأ روعها وقال: «لست نبيا ولا منجما.»
فغطت الزهراء وجهها بكفها وقالت: «ماذا أرى، ويلاه! هل أنا في يقظة أو في منام؟»
قال سعيد: «بل أنت في يقظة يا حسناء.»
فرفعت كفيها عن عينيها ثم أعادتهما وتحولت مسرعة إلى ما وراء الحجاب وهي تقول: «نعم في يقظة. يا ليتني كنت في منام.»
وكان جوهر واقفا يسمع ما دار بينهما، وقد أخذته الدهشة، فلما رأى الزهراء عادت إلى وراء الستار تبعها، وقال لها: «ما بالك يا سيدتي؟ اسأليه أين أخوك الآن. أتمي الحديث.»
فدفعته بيدها فأظهر أنه استلقى على ظهره من شدة الدفعة، وأخذ يتماجن فقال: «الحق علي لأني خالفت مولاي وأذنت بخروجك إلى المعلم.»
أما سعيد فإنه ظل واقفا لا يتكلم، ثم تقدم وأزاح الستار بيده، فرأى الزهراء جالسة وقد جعلت رأسها بين كفيها، وأطرقت كأنها أصيبت بالجمود فقال لها: «ما بالك يا سيدتي. هل عدلت عن الاستفهام؟ هل أذهب؟»
فأدارت ظهرها له وانزوت وراء الستار وقالت: «نعم اذهب، اذهب، لا، لا تذهب.»
فقال سعيد: «أذهب؟ أم لا أذهب؟ أذهب لأني قلت لك الحق؟! إني ذاهب.» وأرخى الستار من يده وتحول، فوثب جوهر إليه وأمسك بردائه وقال: «تعال، إلى أين أنت ذاهب؟»
فأشار سعيد إلى جوهر أن يخرج من الغرفة ويتركهما فخرج.
فلما أصبح سعيد وحده وقف والستار لا يزال مسدلا بينه وبين الزهراء، وقال لها: «اخرجي إلي وانظري في وجهي.»
فلم تجبه، فرفع الستار ودخل، فرآها واقفة وهي مطرقة تنظر في الأرض، وقد امتقع لونها، وتبدلت سحنتها وتولتها الرعدة فقال لها: «انظري إلي.»
فرفعت يدها كأنها تتقي بصره بكفها، وقالت: «دعني، لا أستطيع أن أنظر إليك. قل من أنت؟»
قال سعيد: «قولي أنت من أنا؟ كما قلت لك من أنت.»
فقالت الزهراء: «قل من أنت!»
قال سعيد: «أنا سعيد الوراق. بعثني أمير المؤمنين لأعلمك غناء أهل العراق.»
فرفعت بصرها إليه وتفرست فيه وهي تتجلد وقالت: «كلا، بل أنت لص غادر.»
فضحك وقال: «لست لصا. إنما اللص من يخون ولي نعمته ويختلي بالغرباء، يأتي بهم إلى قصر الخليفة في أثواب النساء.»
فصاحت الزهراء: «ويلك! إنك شيطان، بل أنت عفريت من العفاريت.»
فقال بصوت هادئ: «أنا من أنا، فالأفضل لك أن ترجعي إلى رشدك، وتتكلي علي؛ إذ ليس لك من يفرج كربك سواي.»
فتماسكت ووقفت وهي تفرك عينيها ولا تصدق أنها في يقظة، وصاحت به وقالت: «قل لي. قل من أنت حالا!»
قال سعيد: «أقول أم تكتفين بما قلته؟»
قالت الزهراء: «قل، قل سريعا» وعيناها تبرقان من الدهشة، وشفتاها ترتجفان من الغضب، وقد شخصت فيه.
فقال سعيد: «أنا سليمان.»
فلما سمعت اسمه صرخت ووقعت مغشيا عليها، فبادر إلى رشها بعطر كان معه حتى أفاقت، وحين فتحت عينيها ورأته تراجعت وغطت وجهها بيديها، وقالت: «أنت سليمان! إنك أصل بلائي. سوف أريك عاقبة عملك. ألا تزال تتعقبني وكنت السبب في ضياع أخي.» قالت ذلك ونهضت وهمت بالخروج كأنها تريد أن تستعين عليه بأحد، فأمسك بيدها وأوقفها وقال: «تمهلي ولا تلقي بيديك إلى التهلكة. اعلمي أن حياتك وحياة أخيك في يدي.»
الفصل السادس والخمسون
الوعود
فوقفت وهي تنظر إليه وتتفرس في سحنته، وهو يرنو إليها بلطف وسكينة ثم قال: «لا تغضبي يا حسناء، ولا تنقمي علي، فإني ارتكبت العظائم في سبيل حبك. إني أحبك.» قال ذلك بنغمة المحب الولهان.
فلم يزدها ذلك إلا غضبا وقالت: «أنا لا أحبك. يكفي ما سببته لي من البلاء.»
قال سعيد: «لم أسبب لك بلاء، ولا ذنب لي عندك سوى أني أحبك، وقد عرفتك قبل أن يعرفك صاحب هذا القصر.»
قالت الزهراء: «وتتجاسر على جارية أمير المؤمنين. ألا تعلم أن الناصر إذا اطلع على حقيقة أمرك قتلك حالا.»
قال سعيد: «لا تجعلي للطيش سبيلا إلى عقلك. تذكري أخاك وأن حياته في يدي، إذا شئت قتلته في هذه الساعة.»
قالت الزهراء: «كذبت. قد عرفت الآن أنك تحتال علي وتحملني على خيانة مولاي ومولاك الناصر، فلا تطمع في نيل مرامك، إنك ميت لا محالة، دعني وإلا صرخت صرخة جمعت عليك أهل القصر فيسوقونك إلى حتفك.»
فترك سعيد يدها وقال: «يظهر أنك لم تصدقي قولي، إن أخاك حي، وإنه معرض للقتل، ولا ينقذه من الموت سوى استرضائي. لا تتهوري. إذا كنت تعتقدين أني كاذب وأنك قادرة على أذاي فهذا لا يفوتك في أي وقت تريدين، فلا تتعجلي فتعود العائدة عليك. إن لأمير المؤمنين ثقة في وفي تنجيمي لا تتزعزع.»
فقطعت كلامه قائلة: «أنا أخبره أنك خائن وأطلعه على حقيقة أمرك.»
فقال سعيد: «هل تظنين أنه يصدقك؟»
قالت الزهراء: «نعم يصدقني.»
قال سعيد: «لا، ومع ذلك فإن الخطر يظل يهدد أخاك؛ لأن الناصر حين يعلم بوجوده يبعث إليه فيطلب رأسه، فالأحسن أن تتبصري.»
فاقشعر بدنها وخافت على أخيها، وتجلدت وكظمت، وقالت: «ها أنا متبصرة، فقل ما هو خبر أخي.»
فتقدم نحوها ونظر إلى عينيها نظرة استرضاء، وقال: «إني أشكو إليك غرامي بك وفنائي في خدمتك، وأنت تشتمينني وتهددينني. تأملي الفارق بيننا! أما أخوك فقد سألتني عن اسمه، وقلت لك إن له اسمين، ذكرت أحدهما، ولم تسأليني عن الآخر.»
قالت الزهراء: «وما هو الاسم الآخر؟»
قال سعيد: «اسمه صاحب النقمة.»
وكانت تعلم أن ذلك اسم رجل من أشد أعداء الناصر، وأكثرهم سعيا في خلعه، وقد قام بتحريض العرب والبربر على مناوأته، وإخراج الدولة من يده، وقد بذل الناصر الأموال وبث الجواسيس للبحث عنه فلم يظفر به؛ ولذلك لم تشك في أن الناصر حين يسمع به يأمر بقتله، ولو عرف أنه أخوها قد يغضب عليها من أجله. لكنها برغم ذلك، ظلت تظن أن سعيدا يكذب تخويفا لها، فلما ذكر اسم أخيها هذا أظهرت الاستخفاف، وقالت: «لا يمكن أن يكون هذا الرجل أخي، إنك تخدعني كي تحقق غرضك. دع عنك هذا وارجع، وأنا أعدك إذا رجعت عن غيك وأفدتني عن حقيقة حال أخي (وتنهدت) أني أعفو عنك وأكتم أمرك.»
قال سعيد: «يا سيدتي، أو يا حبيبتي، إني لا أكذب. إن صاحب النقمة هو أخوك سالم نفسه، وإذا شئت أتيتك بالدليل المحسوس.»
قالت الزهراء: «وما دليلك؟»
قال سعيد: «دليلي قريب. ألا تعرفين خط أخيك؟»
قالت الزهراء: «أعرفه.»
فمد يده إلى جيبه وأخرج رقا ملفوفا في منديل. تناوله وفتحه وقال: «اقرئي.»
فقرأت سطرا مكتوبا بالدم هذا نصه:
أنا سالم صاحب النقمة، أعاهد أنصار الحق أني أبذل حياتي في سبيل قتل عبد الرحمن الذي يسمى الناصر.
كتبه سالم
صاحب النقمة
فأخذت تقرؤه وتعيد قراءته، وتتفرس في الخط، فإذا هو خط أخيها نفسه، فرفعت بصرها إلى سعيد فحدق هو فيها عنوة، فأحست بتيار كهربائي سرى في عروقها، فأضعف عزيمتها، فتولاها الخوف على نفسها وعلى أخيها، فوقفت مبهوتة لا تبدي حراكا، ولف سعيد الرق في أثناء ذلك ووضعه في جيبه وهو يقول: «ما رأيك الآن يا حسناء؟»
فشعرت بقوتها تنهار، ولم تعد تستطيع الوقوف، فجلست على البساط وأطرقت وظلت ساكتة.
فقال: «هل رأيت أني ناصحك، وأني أتيت لإنقاذك وإنقاذ أخيك؟ ألا ترين أني قادر على أن اقتله بكلمة واحدة؟ ارجعي عن جفائك وقسوة قلبك وارحمي قلبا كاد يذوب شوقا إليك. إن سليمان الذي رأيته على ظهر تلك السفينة يوم خروجك من صقلية رجل يحبك ويهواك، وما أنا ربان السفينة يا حسناء، ولا أنا خادم فيها، وستعلمين متى أخلصت الحب لي أني أهل لمحبتك، لقد ركبت الأخطار في سبيلك، ولو علمت حقيقة ما فعلته من أجلك لم ترفضي طلبي، وسوف تعلمين، ولا يغرنك ما ترينه من القصور والزخارف، إنها لا تلبث أن تذهب ولا يبقى غير الحب . ها أنا أعرض عليك هذه النعمة فلا ترفضيها.»
الفصل السابع والخمسون
الرجوع إلى الصواب
فوقعت في حيرة ولم تعد تعلم بماذا تجيب، وترجح لديها أن أخاها في قبضة سعيد، ولا نجاة إلا بمسايرته، ولكنها ظلت تكرهه وتود قتله، ولا سبيل لها إلى ذلك، فعمدت إلى الملاطفة، فقالت: «والآن ما العمل؟ هل أخي قريب من هذه الديار؟»
قال سعيد: «بل هو في هذه الديار في مخبأ لا يعرفه أحد سواي.»
قالت الزهراء: «وما السبيل إليه؟ وكيف العمل؟»
قال سعيد: «سأخبرك عن السبيل في فرصة أخرى، إنما أرجو منك الآن أن تثقي بي، ولا أظنك تفعلين، فإن لم تفعلي فدمك ودم أخيك على رأسك. إني نصحتك وحققت كل ما طلبت مني، فما رأيك؟»
فأطرقت وأعملت فكرها فيما وقعت فيه، فلم تجد لها سبيلا غير الملاطفة ريثما تحتال في النجاة، فعادت إلى رشدها وتعقلها ورباطة جأشها، لكنها أحست بتغيير طرأ على إحساسها بعد تلك النظرة التي اخترقت أحشاءها وهزت أعصابها وقضت على إرادتها، وخيل لها من تلك اللحظة أنها طوع إرادته ولم تعد تملك رأيها فقالت: «نصبر كما قلت، وأخشى أن تكون خدعتني!»
قال سعيد: «دعي عنك الشكوك.»
فسكتت وهي تفكر، ثم قالت: «وكيف ألتقي بأخي؟ هل تستدعيه إلى هنا؟»
قال سعيد: «كيف يستطيع دخول هذا القصر؟ الأفضل أن تذهبي أنت إليه، ومتى اجتمعت به تقنعيه بالرجوع عن الثورة، ونحتال في استرضاء الخليفة عليه، وأظننا ننجح في ذلك، ثم نقيم هنا معا، وأنت في منزلتك ولا يعلم أحد بما جرى، والآن لا ينبغي لنا أن نفترق قبل أن نحسن التفاهم، فهل أنت واثقة بما أقول؟»
فقالت: «نعم.»
فقال سعيد: «سنتفق على وقت نخرج فيه خلسة إلى مقر أخيك. لا أستطيع أن أتصور فرحك به ساعة اللقاء، وسيخبرك هو كيف أنه مدين لي بحياته، ولولاي لم يبق حيا.»
فكان لهذا التعبير وقع حسن على قلبها، فابتسمت وقالت: «أنت كنت السبب في حفظ حياته؟ شكرا لك.»
قال سعيد: «لا فضل لي في شيء من ذلك ؛ لأني فعلت ما يدفعني إليه شعوري، فإن حبك يا حسناء قد استولى على كل جارحة من جوارحي. ألا أفعل ما يرضيك! وهل يكون لي فضل إذا فعلته؟! والآن دعيني أعلمك لحنا تغنينه للناصر إذا سألك عما تعلمته.»
قالت الزهراء: «حسنا»، ونادت جوهرا فأتى وعاد إلى خدمتها، فعلمها سعيد لحنا، ثم ودعها وقد اتفق على موعد المجيء في الغد لتعليمها. ومضى وقد مالت الشمس إلى المغيب، وسار توا إلى غرفته، وكان الخليفة قد نزل إلى غرفته في ذلك النهار لظروف سياسية اقتضت مقابلة بعض السفراء من ملوك النصارى المجاورين، وكان يفضل أن يقابلهم في قصر قرطبة.
أما سعيد فمكث في غرفته، فجيء إليه بالعشاء فتناوله، ولم يخرج من تلك الغرفة لأنه أحب الخلوة ليفكر في إتمام الحيلة للفرار بالزهراء من تلك القصور.
الفصل الثامن والخمسون
الواقع
ذهب سعيد إلى فراشه، وقد أنهكه التعب لشدة ما أثر ذلك الحديث في نفسه، وقد كان يترقب هذه المقابلة منذ أعوام عديدة، وقد سعى إليها وبذل كل رخيص وغال في سبيل الوصول إليها، وهو يعلم الخطر المحدق به، ولكنه جن بحب الزهراء، ولم يعد يحسب للحياة حسابا، ورغم ما رأيت من تعقله ودهائه فإن حبه الزهراء غلب على عقله وأخذ بمجامع قلبه. وليس للعقل سلطان على قلوب المحبين؛ فقد تجد الرجل العاقل يقيس الأمور ويحلل أسبابها ونتائجها، وقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب، فإذا استولى الحب على قلبه ارتكب من الهفوات ما يتنزه عنه الجهلاء، وهو يرى أنه عاجز عن تجنبه، وإذا فكر فيما يأتيه من الخفة والطيش في سبيل الحب خجل من نفسه، ولا يرى له مندوحة للخلاص من تلك الشراك. •••
كان سعيد قد أحب الزهراء وافتتن بها منذ رآها في صقلية - وكان قد ذهب إلى تلك الجزيرة في مهمة سياسية من قبل المهدي صاحب إفريقية - فغلبت على عقله وأراد أن يستأثر بها لنفسه، وركب السفينة معها على أن يحتال في اجتذاب قلبها، ثم يبحث عن السبيل للفرار بها. أما هي فلما وقع نظرها عليه أحست بنفور منه، وصار كلما اقترب منها ابتعدت عنه وهي تزداد نفورا، حتى فضلت أن يأخذها اللصوص على أن تبقى بقرب ذلك الرجل.
أما هو فأخذ أخاها معه ورباه على الغرض الذي أجمع عليه العبيديون في إفريقية، وهو كره آل مروان في الأندلس، والسعي في الاستيلاء على مملكتهم، وكان سعيد من كبراء هذه الشيعة وله نفوذ كبير عند المهدي العبيدي ومن جاء بعده على عرش الخلافة الفاطمية في القيروان، وقد عهدوا إليه بأغراضهم، وكانوا قد بثوا هذه الروح في كثيرين من كبراء القواد في الأندلس نفسها، ومنهم الجمعية التي كانت تجتمع في قرطبة سرا كما رأيت. •••
جاء سعيد إلى قرطبة في مهمة سياسية منذ أعوام، وكان قد علم بالبحث والتدقيق أن حسناء التي عرفها في صقلية صارت إلى الناصر في قرطبة وسماها الزهراء. عرف ذلك بدهائه واهتمامه، وكتمه عن أخيها، وجعل همه الوصول إليها، وأقام حولها الجواسيس، وكاتبها بأساليب مختلفة يستعطفها وهي تستخف به وترذله، وهو يزداد شغفا بها، حتى أصبح يسعى إلى الوصول إليها ولو نكاية فيها واستردادا لكرامته ودفعا لإهانته، وكان يعلم تعلقها بأخيها فأتاها بهذه الحيلة. •••
قضى سعيد بضع ساعات بغرفته في الظلام، وهو غارق في بحار الهواجس، وقد فر النوم منه وتولاه الأرق لعظم ما جاش في خاطره في ذلك اليوم.
الفصل التاسع والخمسون
موعد آخر
وبينما هو جالس على فراشه في الظلام، وبصره متجه إلى نور يظهر له من نافذة تطل على داخل القصر، إذ وقع نظره على شبح يتمشى هناك بخفة كأنه يحاذر أن يسمع أحد وقع خطاه، فتفرس فيه، فإذا هو ساهر وعليه ملابس الوصفاء كما رآه في المرة الماضية، فنهض واقتفي أثره، فرآه يلتمس غرفة الزهراء، فما زال في أثره حتى رآه دخل الغرفة وقد وقفت الزهراء لاستقباله، وهي لا تزال بثوبها العادي كأنها كانت على موعد معه، فثارت الغيرة في قلب سعيد وجعل يغالب نفسه فلم يستطع صبرا على ما شاهده، فمشى حتى دخل الغرفة ولم يشعر به أحد منهما، فرأى ساهرا جاثيا أمام الزهراء وهو يقول لها بصوت المحب الولهان: «مريني يا سيدتي فأنا رهين أمرك، وليس أشهى على قلبي من أن أنفذ إرادتك، ويكفيني شرفا وسعادة أن تسمع أذني أوامرك.»
فأجابته الزهراء: «انهض يا ساهر، بارك الله فيك، إني مسرورة من مروءتك وصدق مودتك. قل لسيدك أني لولا حبي له لم أطلب مقابلته، ولا بأس عليه من أهل هذا القصر، فليأت على عجل.» ولما وصلت إلى هنا لمحت سعيدا داخلا فبغتت وظهرت البغتة في عينيها ولاحظ ساهر تغيرها فالتفت حوله، فلما رأى سعيدا تنحى ثم انصرف.
أما سعيد فظل ماشيا وهو يتجلد حتى صار بين يدي الزهراء وهي تنظر إليه والغضب ظاهر في عينيها، فقالت له: «ما الذي جاء بك يا سيدي؟»
قال وهو يتلطف في التعبير: «جئت لأتمتع برؤيتك قبل الذهاب إلى الفراش، وقد تمتعت بما يذهب عني النوم!» وتنحنح.
فقالت باستخفاف: «ما كان أغناك عن هذا المجيء! كأنك تتلصص علي وتراقب حركاتي ومن يدخل أو يخرج من عندي! إن أمير المؤمنين لم يفعل ذلك.»
فقطع سعيد كلامها وقال: «لأن أمير المؤمنين لا يحبك مثلما أحبك.» قال ذلك وتنهد.
فقالت وهي تبالغ في الاستخفاف: «صدقت، إن الناصر لا يحبني أبدا، ولكن أنت وحدك تحبني. ما كان أغناني عن هذه المحبة! بل ما أحوجني إلى بغضك!» قالت ذلك وصرت على أسنانها.
فلما رأى جفاءها تقدم نحوها وهو يتكلف الاسترضاء وقال: «سامحك الله يا حسناء، كلما شكوت إليك غرامي وذلي زدت نفورا وجفاء.»
فلما دعاها باسمها الأصلي تذكرت أخاها فخافت عليه، فعادت إلى التجلد والملاطفة فقالت: «لقد أسأت إلي بمجيئك على هذه الصورة حتى أغضبتني وحملتني على ما قلت، ونحن كما تعلم قد تواعدنا واتفقنا.»
قال: «إنما حملني على المجيء حبي لك وغيرتي عليك.»
فمدت يدها نحوه كأنها تستوقفه وقالت: «لا فائدة من الغيرة وأنا في هذا القصر، وعما قليل أكون لك، لا تسألني عن شيء.»
فلما سمع قولها استخفه الفرح وصاح: «تكونين لي؟ قبلت ذلك، وعفا الله عما سلف .»
قال ذلك وهو ينظر في عينيها وقد نسي الغيرة والشك، وتناول يدها كأنه يهم بتقبيلها، فجذبتها منه ونظرت إليه نظرة عتاب وتوبيخ، وقالت: «امض الآن ولا تجعل للناس سبيلا إلى الظنون.»
فتحول وخرج وهو يحسب أنه قد تحققت له أهم أسباب السعادة بما سمعه من وعودها، فدخل غرفته واستلقى على فراشه، فعادت إليه هواجسه فأخذ يفكر في حاله، فاستغرب انقياده الأعمى لداعي قلبه ونسيانه المهمة الأصلية التي قام من أجلها، وقد قامت معه إفريقية كلها، وعول خليفتها عليه ووضع ثقته فيه، حتى إنه لو كتب إليه يطلب تجريد جيش لفعل، فكيف يشتغل عنه بحب جارية لا تحبه؟! فأحس بصغر نفسه وضعف إرادته كأنه عبد لعواطفه، فأخذ يوبخ نفسه على ذلك الضعف. ولكنه كان كلما هم بالرجوع إلى رشده والعدول عن الغرام إلى طلب العلى بحد الحسام، تمثل الزهراء وتصور أنها طوع إرادته، فتنحل عزيمته ويفتر حماسه.
الفصل الستون
طارق آخر
وبينما سعيد في تلك الهواجس وقد استبد به الأرق، ولم يبق في ذلك المكان ساهر سواه، وقد ساد السكون على القصر، ولم يعد يسمع إلا خرير الماء في برك الحديقة، وفي البركة الداخلية في بيت المنام، وكان يحمل نفسه على النوم ويحاول نسيان تلك الأفكار عبثا، وبينما هو في ذلك الهدوء والظلام سائد إذ سمع حركة في غرفته، فجلس فرأى شبحا داخلا عليه عرف حالا أنه عابدة، وما زالت تمشي الهوينى حتى رأته قد جلس على فراشه، فأسرعت إليه وجثت بين يديه وقالت: «بالله يا سعيد، إلى متى تضحك مني؟»
فأظهر الاستغراب وقال: «أضحك منك؟! ما هذا الكلام؟» قالت وصوتها مختنق: «نعم تضحك مني وتهزأ بحبي.»
قال سعيد: «دعي عنك الأوهام.»
قالت عابدة: «يكفيني ما قاسيته من الصبر على وعودك. قل لي: إني لا أحبك، ودعني أمضي لسبيلي.»
قال سعيد: «كيف أقول لك ذلك، وأنت تعلمين أني أحبك؟! ولكننا لم نفرغ من مهمتنا بعد، وأنت على بينة من كل شيء.»
قالت عابدة: «نعم أنا على بينة من كل شيء؛ ولذلك لم أعد أستطيع صبرا.»
فأدرك أنها تشير إلى اطلاعها على شيء يكتمه عنها، فقال: «ماذا تعنين؟»
قالت عابدة: «أعني أنك شغلت عني ونسيت عابدة المسكينة!» وأجهشت بالبكاء، فأثر بكاؤها في قلبه وأحس أنه أساء إليها، ولكنه ما لبث أن تصور الزهراء حتى نسي إساءته، وجعل همه تدبير الوصول إليها، فقال: «دعي عنك هذه الأوهام، ومن يشغلني عنك؟! وإذا رأيت مني تقربا إلى أحد سواك فما ذلك إلا سعيا في الوصول إلى الغرض المطلوب الذي تعلمينه.»
فتنهدت تنهدا عميقا ورددت قوله: «الغرض المطلوب! آه من ذلك الغرض! ما كان أغنانا عنه! ولا أظننا نصل إليه مع ما يحدق بنا من العوائق.»
فأظهر أنه استاء مما صرحت به من الشك في سبيل ذلك الغرض، وقال: «لا تضعفي أملي في تحقيق الهدف المنشود.» وخفت صوته وقال: «سيأتي يوم نكون فيه ملوك هذه الجزيرة، وتكونين أنت ملكة عظيمة الشأن.»
قالت عابدة: «دعني من ذلك، دعني؛ إن السعادة ليست في السيادة ولا في الثروة، إن السعادة في الحب.» قالت ذلك وصوتها يتلجلج خجلا وبلعت ريقها ثم قالت: «لو كنت أعلم أنك تحبني مثل حبي لك لكنت أسعد امرأة على وجه الأرض. آه من يقول لي الحق!»
فقطع كلامها، وقال: «أنا أقول لك، صدقيني، وسوف تتحققين صدق قولي.»
فوقع كلامه على قلبها بردا وسلاما، وأحست بأنها في نعيم وقالت: «صحيح؟ صحيح أنت تحبني؟»
فمد يده إلى يدها وقبض على أناملها، فأحست عابدة بتيار كهربائي انتفضت له أعصابها وغلبت على أمرها وقالت: «صحيح أنك تحبني؟! إذن فأنا سعيدة.»
قال سعيد: «بقي أن أسألك أنا، هل تحبينني؟»
ولم يتم سؤاله حتى تناثر الدمع من عينيها وقالت والبكاء يخنقها: «أتسألني إذا كنت أحبك؟! أمثلي يسأل هذا السؤال، ولم تبق في جارحة لم تفتتن بك؟! ألا يكفيك من الأدلة ما أنا فيه؟! ما الذي حملني على التعرض لهذه الأخطار؟»
فقال سعيد: «لم تتعرضي لخطر بعد. إن وجودك في هذا القصر من أسباب السعادة ويتمناه كل إنسان، ولكننا سنواجه الخطر قريبا ، وعند ذلك يظهر المحب الصادق، ولا شك عندي أنك ستبرهنين على صدق محبتك لي وللإمام العبيدي صاحب إفريقية الذي نحن في خدمة مصلحته.»
قالت عابدة: «آه يا سعيد! إن كل شيء سهل في سبيل حبك. دعني أغتنم هذه الظلمة وأصرح لك بما يكنه فؤادي من الشغف بك. لو كنا في النهار أو كانت هذه الغرفة مضيئة لأحجمت، ولكن الظلام يستر. إني أحبك إلى حد الجنون ولا أراك تحبني وتهتم بأمري، مع أني أتفانى في سبيل مرضاتك. أفعل ذلك من كل قلبي ويلذ لي العذاب إذا كان فيه سرورك. فهل عندك مثل الذي عندي؟ أو مثل نصفه، أو ربعه يا ترى؟»
فضغط على يدها ثانية وقال: «كفى يا عابدة شكوكا، وقد دنا الوقت، ولا نبرح أن نتفرغ لما نريد. لم يبق من المهمة التي جئنا من أجلها إلا خطوة واحدة، وهي عليك.»
قالت عابدة: «مر بما تشاء.»
قال سعيد: «ألا يزال ذلك الحق معك؟»
فضربت كفها على صدرها وقالت: «هو هنا في مكان حريز.»
فقال سعيد: «إلي به.»
فدفعته إليه، فأخرج من جيبه ورقة قطعها نصفين وصب ما في ذلك الحق فيهما، وهو مسحوق أبيض لامع، ولف كل واحدة على حدة ودفعهما إليها وقال: «احتفظي بهاتين الورقتين جيدا لوقت الحاجة.»
قالت عابدة: «وماذا فيهما؟ هل من بأس علي إذا تناولت منهما شيئا؟»
فابتدرها قائلا: «احذري أن تفعلي.» وضحك يوهمها أنه يمزح.
فضحكت وقالت: «لم أكن أجهل ذلك، ولكنني أرجو أن لا أحتاج إلى تناول شيء منهما!»
فتجاهل مرادها وقال: «احتفظي بهما حتى آتيك غدا أو بعد غد.»
فأحست أنها ينبغي أن تنصرف، فوقفت وودعته وهي تتفرس في وجهه والظلام يحجب علامات المكر والغدر، ولو لم يحجبها فإن عابدة لم تكن ترى في سعيد غير الكمال لأنه استهواها بجاذبيته.
الفصل الحادي والستون
سعيد وهواجسه
خرجت عابدة من عند سعيد، وعادت إليه هواجسه بأشد مما كانت عليه، فتصور كيف أنه يخادع هذه الفتاة المخلصة ويغريها على المخاطرة بنفسها، بمواعيد كاذبة، ويراها شديدة الثقة به وهو ينوي خيانتها، فرجع إلى تعقله فرأى أنه يفعل أفعالا لا يرتكب مثلها إلا المجانين؛ إنه سيرتكب جريمة قتل تحت أشد الأخطار. وعاد إلى التفكير في مهمته السياسية الأصلية، وكيف أنه كاد يفوز بها لو لم يلهه عنها حب الزهراء، ولما تذكرها خفق قلبه وأعمل فكره في أمرها، وقال: «قد يكون سعيد من قلب الزهراء مثل عابدة من قلب سعيد، فأنا أداجي عابدة وأعدها، فهل الزهراء تداجيني؟ ولكن سعيدا غير عابدة. إن من يرتكب ما ارتكبته ويعمل ما عملته لا يشق عليه أن ينتقم من تلك الجارية، إني أريها العذاب ألوانا، لا، لا، لا أفعل ذلك مع الزهراء؛ إنها حبيبتي، لماذا أنا مستسلم لها! أتركها وشأنها والنساء كثيرات، وهذه عابدة المسكينة تتمنى رضاي. إن حب الزهراء سبب بلائي، وسيكون سببا في ضياع أمة برمتها. ألم يضع الإمام العبيدي ثقته في، وأهل إفريقية ينتظرون نتيجة سعيي؟» وحين فكر في ذلك هب من فراشه كالمجنون، ووضع كفيه على عينيه كأنه يستحث قريحته لإعمال الفكر في حقيقة حاله، ووقف لحظة ثم عاد فجلس على الفراش، وقد تمثلت له الزهراء في أشهى ما يتمناه فقال: «إن نظرة إلى حسناء تساوي العالم برمته، وما لذة الإنسان من المناصب والمراتب إذا لم يكن له حبيب يحبه؟! الزهراء تساوي كل شيء، ولا بد من المخاطرة في سبيل تحقيق الأماني، وما فاز باللذات غير الجسور. أما عابدة فإني أشغلها بسواي وأرضيها.»
قضى بقية ذلك الليل في مثل هذه الهواجس ولم ينم إلا قليلا، واستيقظ في الصباح على نقر الباب ففتح عينيه، فرأى ياسرا داخلا فجلس له وحياه ورحب به، فقال ياسر: «أظنني أقلقتك من نومك؟»
قال سعيد: «كلا، بل أنا في شوق إلى رؤيتك؟»
قال ياسر: «وأنا أيضا، وقد استبطأتك وكنت أحسبك تبعث إلي مبكرا لتقص علي ما جرى أمس.»
فعلم أنه يعني ما جرى بينه وبين الزهراء؛ لأن ياسرا يكرهها ويريد أن يوقعها في شر يحقرها في عيني الناصر انتقاما منها لما يتوهمه من عقوقها ونكرانها للجميل، وهو يعتقد أنه كان السبب في إدخالها بلاط الناصر، فلم تقدر له هذا الجميل. وظهر له من حديثه مع سعيد مرة أنه يوافقه على ذلك، وكان يظن أنه يستطيع بالتنجيم معرفة سبب اجتماعها بعبد الله ويفشيه للناصر فيغضب عليها وربما طردها، وأدرك سعيد كل ما كان يجول في خاطر ياسر فقال: «إن أمر هذه الجارية حيرني ولم أستطع كشف سرها تماما، مع أنني قضيت ليلتي الماضية ساهرا ولم أنم إلا قليلا، وأنا أفكر في أمرها، ولما رأيتك داخلا ظننتك أتيت لتدعوني إلى أمير المؤمنين لأنه أكثر الناس تطلعا إلى ذلك.»
قال ياسر: «إنه لم يعد من قرطبة.»
قال سعيد: «هل قضى ليلته هناك؟ ولماذا؟»
قال ياسر: «لأنه ذهب لمقابلة بعض وفود ملوك فرنسا، وإيطاليا، وهو يفضل أن يستقبلهم في قصر قرطبة، فلما أبطأ في الرجوع بات هناك، وقد أوصاني قبل ذهابه أن أفتح عيني وأراقب كل حركة.»
فضحك سعيد وقال: «يظهر أنك لم تكن ساهرا.»
ففهم مراده، فقال: «كنت ساهرا، وقد رأيت ساهرا يدخل القصر بملابس بعض الوصفاء، فسهلت له الدخول على أن تتورط هي فتقع وقعة لا قيام منها.»
فأطرق سعيد، وفكر في نتيجة وقوع الزهراء في الذنب، فرأى أن الناصر يغضب عليها، فيتوسط هو في الصلح فيكون له فضل عليها يزيد رضاءها عليه، ويحب من الجهة الأخرى - إذا كان بينها وبين عبد الله تواد - أن يكون قصاصها على يد الناصر. فقال سعيد: «ومتى يعود الخليفة من قرطبة؟»
قال ياسر: «لا أدري، ولعله يعود في هذا المساء، وقد يبيت هناك الليلة أيضا ويأتي غدا، وعلى كل حال فأنا أنتظر رجوعه بفارغ الصبر.»
فقال سعيد: «ترى ماذا يفعل الناصر إذا تحقق مما بين الزهراء وبين ابنه من هوى؟»
قال ياسر: «أظن أنه يطردها، إذا لم يقتلها.»
فسكت وأظهر أنه يهم بالنهوض، فنهض ياسر وخرج وهو يقول: «وفق الله مسعانا.»
فلما خلا سعيد بنفسه أعمل فكره، فرأى أن سعي ياسر ضد الزهراء يفيده طالما كان حائزا على ثقة الخليفة يديره كيف يشاء ، فقرر أن يترقب الفرص.
أما ياسر فجعل همه في ذلك اليوم مراقبة الأبواب، لعله يرى عبد الله داخلا ليشي به إلى الخليفة وهو مجتمع بالزهراء، ولكنه كان يخشى أن يأتي عبد الله ويعود قبل رجوع أبيه من قرطبة، فبعث أحد الخصيان يسأل في قرطبة عن موعد رجوع الخليفة متى يكون، فعلم أنه سيعود بعد الغروب، فأعطى الأوامر ليكون القصر في تأهب لاستقبال صاحبه، وعاد إلى مراقبة الأبواب.
الفصل الثاني والستون
حديث ذو شجون
غربت الشمس ولم يأت أحد، وبعد الغروب رأى ياسر ساهرا برفقة رجل في ملابس الخصيان دخلا من باب القصر ولم يعترضهما أحد من الحراس كأنهم كانوا على موعد، فعلم ياسر أن أحدهما عبد الله، فتنحى ريثما مرا، وراقب جهة مسيرهما فرآهما سائرين نحو قصر المؤنس إلى الحديقة التي اجتمعا فيها في المرة الماضية، فسار من جهة أخرى بحيث يتحقق أن الزهراء نزلت لمقابلة عبد الله، فلما تحقق من ذلك، أصبح همه أن يأتي الناصر قبل أن يفترقا ليرى الاجتماع بنفسه، فيكون ذلك أدعى إلى غضبه وسرعة انتقامه.
فرجع إلى الباب الخارجي الذي يدخل منه الناصر إذا عاد من قرطبة وأخذ يتشوف عن بعد، وقد دنا العشاء وأظلمت الدنيا، لكن قصور الزهراء كانت تنار ليلا بالمصابيح من كل أطرافها. ورآهم ينيرون الطريق بينها وبين قرطبة استقبالا للخليفة، ولم تمض هنيهة حتى رأى الخصيان والفرسان وعليهم الجواشن مسرعين يليهم سائر الموكب وفي وسطه الخليفة، وإلى جانبه تمام رئيس الخصيان زميل ياسر، ولم يكن بينهما تحاب، شأن المتنافسين في المناصب في كل زمان، ولكن الناصر كان يقدم تماما في أكثر الأحيان ويقلل من نفوذ ياسر، وهذا يعتقد أن الزهراء هي التي أوحت إلى الناصر بأن يقلل من شأنه؛ ولذلك زاد رغبة في الانتقام منها، ورأى أن هذه الفرصة أثمن الفرص ليظهر إخلاصه للناصر وتفانيه في خدمته، ليغير ما في نفسه ويرتفع في نظره على تمام.
فلما رأى الناصر في موكبه وتماما إلى جانبه، لم يعد يصبر عن التصدي لمخاطبته قبل الوصول إلى القصر، مخافة أن يذهب إلى قصر آخر غير المؤنس، ثم يشق عليه استقدامه في تلك الساعة.
فلما وقع نظر الناصر على ياسر توسم في وجهه خبرا، فانفرد عن الموكب نحوه، فمشى ياسر في ركابه حتى دنا من قصر المؤنس، وترجل الخليفة وأشار إلى الناس بالانصراف، وظل ماشيا مع ياسر فقال له: «ما وراءك يا ياسر؟»
قال ياسر: «ما ورائي إلا الخير، وكنت أود أن لا يعلم مولاي إلا بما يسره لو لم أعلم أنه راغب في معرفة سر ذلك الاجتماع.»
ففطن الناصر إلى أنه يعني اجتماع الزهراء بعبد الله، فقال: «هل جاء ولدنا عبد الله إلى هنا؟»
قال ياسر: «نعم يا سيدي، ولو أنه جاء كما يجيء سائر إخوته وأهله لم يكن بأس من مجيئه، ولكنه أتى متنكرا.»
قال الناصر: «وكيف يأذن الحراس بدخوله؟»
قال ياسر: «يأذنون له بأمر الزهراء، فإنها توصيهم بذلك عن طريق أحد خدمها.»
فغضب الناصر وقال: «وأين هو الآن؟»
قال ياسر: «هو في الحديقة المعهودة، وهي معه.»
فأطرق الناصر حينا ثم ضرب الأرض برجله وقال: «كأن عبد الله ينتقم مني لأني حبست عابدة عنه؟ إلى هذا الحد بلغت جسارته أن يتعدى على جاريتي الزهراء نفسها؟»
فسر ياسر من غضب الناصر، وأحب أن يزيده من الغضب عليها وحدها فقال: «لا أظنه يطلب انتقاما ولكنها خدعته، والنساء لا يخفى على أمير المؤمنين حالهن.»
فمد الخليفة يده إلى جيبه وأخرج ورقة وقال: «وهذا كتابه جاءني بالأمس في قرطبة، ولم يصبر علي حتى أعود إلى هذا القصر فيخاطبني.»
فقال ياسر: «هل يطلب عابدة؟»
قال: «بل هو يهددني إذا أنا لم أعدها إليه، ولم أفهم معنى تهديده. لقد فهمت الآن إنه يريد أن ينتقم مني بأخذ الزهراء، ولكن كيف توافقه هي على ذلك؟!»
فقال ياسر: «إن النساء ...»
فقطع الناصر كلامه وقال: «أحب أن أراهما وأسمع حديثهما ولي بعد ذلك رأي فيهما.» قال ذلك والغضب باد على أساريره.
ففرح ياسر لهذا التهديد وأسرع بين يدي الخليفة، وبعث الأوامر إلى خدم القصر أن يخلوا هذا الجناح لأن أمير المؤمنين سيمر فيه، ولم تمض بضع دقائق حتى لم يبق هناك أحد، فمشى ياسر بين يدي الناصر حتى وصلا إلى غرفة لها شرفة تطل على الحديقة، فوجداها مقفلة، فقال ياسر: «لقد أغلقتها حتى لا يطل أحد منها عليهما.» وأخرج من جيبه مفتاحا فتحها به بخفة بحيث لا ينتبه أحد لفتحها، ودخل وأعد للناصر مقعدا بجانب الشرفة يطل منه على الحديقة.
فرأي الناصر الزهراء جالسة على مقعد من حجر، وقد كشفت عن وجهها كأنها مع بعض أهلها، وعبد الله جالس أمامها وقد رفع اللثام عن وجهه فبان على نور المصباح جليا، ولم يبق عند الخليفة شك أنه ابنه وأنها الزهراء جاريته، فاضطرب وثارت غيرته، لكنه صمت كأنه أصيب بالجمود. أما ياسر فكاد قلبه يطير من الفرح لنجاح مهمته.
وكان أول شيء سمعاه قول عبد الله: «أنت تعلمين يا زهراء منزلتك عندي قبل الآن.»
فأجابته: «نعم أعلم؛ ولذلك فإني بعثت إليك لأخاطبك بهذا الشأن، ولولا حبي لك لم أفعل.»
قال عبد الله: «إن رضاك عزيز علي، ولكن طفح الكيل ولم أعد أستطيع صبرا.»
فقالت الزهراء: «مهما يكن من طفح ذلك الكيل لا أرى ما يوجب هذه النقمة.»
فقطع عبد الله كلامها قائلا: «كيف لا أنتقم وقد عاملوني معاملة العبد المملوك! لم يكف أنهم سلبوني ولاية العهد حتى أصبحوا يسلبونني أسباب راحتي؛ هذه جارية أتتني واستلطفتها وطلبها أخي مني فاعتذرت له، فشكاني إلى أبي، فبعث يطلبها ليراها فأرسلتها، فحبسها عنده لنفسه.»
قالت: «أهذا يوجب كل هذه النقمة حتى تنصر الغرباء على أبيك؟ أليس هو ولي نعمتنا؟ أليس هو أمير المؤمنين وأرواحنا حلال في قبضة يده؟ يجب أن تعلم أني أحبك؛ لأني حين علمت بتغيير قلبك على أبيك بعثت إليك أنصح لك، ولولا حبي وغيرتي على سيدي الناصر ولي نعمتي لم يكن أسهل علي من أن أرفع أمرك إليه، وهو لا يعجز عن القصاص.»
قال عبد الله: «إنه لم يتصرف معي كما يتصرف مع سائر أولاده، وقد قال لي ابن عبد البر الفقيه، وهو أعلم فقهائنا، إن من كان مثل أخي الحكم لا يليق للخلافة، لاشتغاله عن أمور الدين بالدنيا.»
فقالت الزهراء: «كأنك تطمع في أن تكون ولاية العهد لك؟»
قال عبد الله: «وما المانع؟! ألم يحدث ذلك في الإسلام؟! إن الخليفة غير مقيد بمبايعة أكبر أولاده، بل هو يجب أن يلاحظ أخلاقهم وقدرتهم.»
فقطعت كلامه قائلة: «ليس في ولي العهد ما يمنع مبايعته ... ثم لم أكن أنتظر منك أن تخالف أباك في شيء، وإلا تكون قد أيقظت الفتنة، فأنا قد تحملت تهمة الريبة من سيدي الناصر؛ لأني خاطبتك المرة الماضية على انفراد، وقد هددني فلم أتكلم بشيء خوفا عليك، فأصغ إلى قولي وارجع إلى رشدك، فما أنت أولى من أخيك بولاية العهد ولا كنت أهلا لها. هذا إلى أن طاعة مولانا الناصر واجبة، وهو الذي اختار أخاك، أما إذا كنت تنوي الخروج عليه فذلك أمر آخر، وأنت أعجز من أن تستطيعه.»
وكان الناصر وهو جالس يسمع ذلك الحديث ترتعد فرائصه، وقد أخذته الدهشة من عظم الاستغراب، وكان يسترق اللحظ مرة بعد أخرى إلى ياسر، فيرى الفشل باديا على محياه وكأنه سقط في يده، ومع ذلك فإن اشتغال ذهنيهما بسماع تتمة الحديث ألهاهما عن كل شيء.
أما عبد الله فلما سمع استخفاف الزهراء به هز رأسه وقال: «أتظنين أني وحدي ناقم على والدي؟ إني آخر الناقمين؛ لأنه أساء إلى كل الأحزاب؛ استبد بالسلطة، واستبدل رجال الدولة من العرب والبربر بالخصيان من الصقالبة، فلذلك نقم عليه الناس، ولو قلت كلمة لالتف حولي ألوف من أهل الحرب؛ فيهم كثيرون مثل صاحب النقمة.»
فلم تتمالك الزهراء عند سماع ذلك الاسم عن الوقوف، ثم شغلت نفسها عنه وقالت: «لله أنت من أمير مغرور! اعلم أني نصحتك وأعيد النصح ثانية، فإذا لم تقبل النصح فإني سأتحدث بأمرك إلى أبيك؛ لأني أضن بهذه الدولة أن تذهب فريسة الغرور، وقد بناها أبوك على هام الرجال فأحيا بها دولة المسلمين وعزز الإسلام، فلا تهدمها بطيشك . وأشير عليك قبل أن تقدم على هذا العمل أن تستشير العقلاء.»
فقاطعها عبد الله قائلا: «قد استشرت الفقيه ابن عبد البر وهو أعلم الفقهاء، وإن كان والدي قد نبذه وفضل عليه سواه.»
قالت الزهراء: «أحسب أن هذا الفقيه هو الذي أغراك على أبيك انتقاما لنفسه من الفشل الذي أصابه يوم ذلك الاحتفال؛ إذ امتنع عليه الكلام.»
فضحك عبد الله وهو ينهض وقال: «أنا أعقل من أن أنقاد لسواي، وسترين.»
قالت الزهراء: «لا، بل أرجو أن ترجع إلى رشدك وتعدني أنك تائب في هذه الساعة، وإلا فإنك غير خارج من هذا المكان قط.»
قال عبد الله: «تهددينني؟»
قالت الزهراء: «لا تستخف بي، فإني أضحي بحياتي في سبيل نصرة مولاي ومولاك.»
فهز عبد الله رأسه استخفافا ومشى، فصاحت الزهراء: «ساهر!»
فجاء ساهر بأسرع من لمح البصر، فأشارت إليه أن يقبض على الأمير عبد الله، فهجم عليه وقد أعد وثاقا شد به يديه، وعبد الله ينظر إليه مستغربا وهو يقول: «اخسأ يا غلام، ألا تعلم من أنا؟»
فلم يجب، ولكن الزهراء أجابت: «أنا أعرف من أنت، ولا يغرنك أنه كان خادما لك، فقد كان عينا لي عندك خوفا من أن ينال مثل هذا الطيش شعرة من مولاي الناصر.»
فلم يتمالك الناصر أن صاح وهو بالشرفة: «لله درك يا زهراء!»
فعرفت الزهراء صوت الخليفة، وكانت قد وثقت من القبض على عبد الله فانسلت واختفت، أما عبد الله فإنه أسقط في يده وجمد الدم في عروقه، ولم يعد ينفعه الندم، فساقه ساهر إلى سجن خاص وأغلقه عليه.
الفصل الثالث والستون
المشورة
أما الناصر فنهض ومشى وياسر بين يديه، وقد تولته الدهشة وظهر الفشل واليأس في وجهه، ولم ينبس بكلمة، وظل الناصر ماشيا حتى دخل غرفته وقد أعدوا له المائدة، فذهب إليها فأكل وهو لا يتكلم لعظم ما قام في نفسه من الأمر الخطير، وقد جاءه الخبر بغتة فلم يدر كيف يتصرف، وكان على موعد من لقاء سعيد بعد أن أرسله إلى الزهراء بالأمس يستطلع سر اجتماعها بعبد الله، فخطر له أن يستقدمه ليمتحن معرفته ويستشيره في الأمر لأنه أصبح شديد الثقة به.
أما سعيد فكان في غرفته في ذلك المساء ينتظر رجوع الناصر، فعلم من حركة أهل القصر أنه جاء فلبث ينتظر وصوله، وبعد ساعة أتاه ياسر وقد امتقع لونه من الدهشة والفشل وقص عليه ما كان، وهو يأسف لأن مهمته ضد الزهراء لم تنجح، وكان يحسب أن سعيدا يشاركه في الأسف أو يشير عليه بشيء، فتظاهر سعيد بمشاركته في ذلك، ولكن الرعب وقع في قلبه مخافة أن يصرح الأمير عبد الله بخبره فيذهب سعيه أدراج الرياح، ويصبح مهددا بالقتل، فأشار على ياسر أن يذهب ويكتم ما دار بينهما، فمضى وبقي سعيد وحده يفكر، وقد غلب عليه القلق والخوف.
وبينما هو في ذلك إذ جاءه غلام الناصر يدعوه إليه حالا، فخفق قلبه خوفا لئلا يكون الناصر قد اطلع على شيء من سره، ولكنه تجلد ووضع كتاب التنجيم في جيبه ومشى بقدم ثابتة حتى دخل على الناصر فرآه في فراشه، وقد أخذ الغضب منه مأخذا عظيما وهو يتظاهر بالهدوء والتكتم، فوقف سعيد بين يديه متأدبا ينتظر أمره كالعادة، فأشار إليه أن يجلس، فجلس على البساط جاثيا وأطرق، فقال له الناصر: «أظن أنك استبطأتني؟»
قال سعيد: «نعم، وقد كنت أنتظر رجوع مولاي بفارغ الصبر.»
قال الناصر: «ولماذا؟»
قال سعيد: «لأتبرك برؤيته، ولأنقل إليه نتيجة المهمة التي عهد بها إلي.»
قال الناصر: «أظنك تعني خبر الزهراء وما دار بينها وبين ولدنا عبد الله.»
قال سعيد: «نعم يا مولاي.»
قال الناصر: «ما الذي دلك عليه علمك؟»
قال وهو يبتسم: «لم أجد إلا كل ما يحسن بالجارية الأمينة المحبة.»
قال الناصر: «هذا لا يكفي إن كنت تعرف التنجيم، قل ما هو الحديث الذي دار بينهما؟»
فأطرق سعيد وأخذ يقلب الكتاب بين يديه وينظر إلى الناصر خلسة، والناصر متكئ على جنبه الأيسر، وخده على كفه اليسرى، وهو يراقب حركات سعيد، فلما رآه يتردد قال له: «ما بالك؟ قل الذي رأيته.»
فأظهر سعيد أنه يخشى التصريح، فقال الناصر: «قل كل ما سمعته. لا بأس عليك.»
قال سعيد: «سمعت شيئا لا أجسر على التفوه به، وأكاد أكذب تنجيمي ولا أصدقه لغرابته.»
فضحك الناصر وهو يعتدل في مجلسه وقال: «لا تكذب تنجيمك بل كذب ظنك بالناس خيرا. ألم تقل لي مرة أن الأذى يأتيني من أقرب الناس إلي؟»
قال سعيد: «يظهر أن مولاي الخليفة قد اطلع على السر من سواي.»
قال الناصر: «نعم، قل قولا صريحا، ولا تبال.»
قال سعيد وهو يظهر الاهتمام: «أما وقد اطلع مولاي على ذلك الأمر الفظيع، فلا أكتمه ما ظهر لي من الأسرار المتعلقة به.»
قال الناصر: «قل، أرشدني، إني مضطرب البال من التعب وليس من الخوف.»
قال سعيد: «يحق لمولاي أن يعتب على ابنه إذا أراد الغدر به.»
فلما رآه كشف السر بالتنجيم حسب اعتقاده عظم سعيد في عينيه، وعزم على استشارته والعمل برأيه فقال: «قل ما يدلك عليه علمك ولا تحاذر.»
قال سعيد: «دلني علمي على أن الزهراء - حفظها الله - قد اجتمعت بالأمير عبد الله لترده عن جريمة كان يحاول ارتكابها ضد أمير المؤمنين.»
قال الناصر: «صدقت، وما العمل الآن؟ قل، إني عامل برأيك.»
فانشرح صدر سعيد لهذا النجاح وعول على قطع السبل المؤدية إلى كشف سره هو، فأعاد النظر إلى كتاب التنجيم ورمى البخور في النار، ثم أطرق يفكر، والناصر ينتظر فراغه من التعزيم والتبخير، ورأى عينيه تحمران وتدمعان وقد تبدلت سحنته، وأخيرا وضع الكتاب من يده وأشار بيديه معا إشارة القبض وقال: «اقبض عليه حالا، اقبض عليه وعلى رفيقه في منزله، إنه شريكه في جرمه، واقبض على رجل ثالث كان معك الليلة، فإذا قبضت على هؤلاء بادر إلى الإعدام، إلى الإعدام؛ فإن بقاء واحد منهم يفضي إلى الفتنة. والحازم من اجتث شجرة الشر من جذرها. هذا هو رأيي بصراحة، وقد نفضت يدي من خطر المستقبل إن لم يعمل أمير المؤمنين برأيي.»
وكان الناصر يسمع كلام سعيد ويتفهمه جيدا، وهو ينوي أن يعمل بكل حرف منه بعد أن تحقق من صدق تنجيمه وسداد رأيه مرارا.
أما سعيد فلما فرغ من كلامه، أظهر أنه تعب وأخذ يرتعش كأنه أصيب بالبرداء، فقال له الناصر: «ما بالك يا حكيم؟»
قال سعيد: «إني أخاف أن يتأخر مولاي وتأخذه الشفقة فيذهب بالدولة إلى الخراب. يقبض الآن على فقيه الأمير عبد الله الذي يئس من منصب القضاء فنقم على الخليفة، ولا دخل للبر في شيء منه سوى اسمه، ويقبض أيضا على رفيق أمير المؤمنين الليلة؛ فإنه شريك في الأمر، وإذا سأل أمير المؤمنين نفسه يعلم أن هذا الأخير من أكبر الأعداء مع أنه من أقرب المقربين، ويفعل ذلك سريعا وفي الخفاء، فإن لم يفعل فإني أول من يموت.»
فحمل الناصر منه هذا التعبير محمل الغيرة الشديدة على الدولة وخاف مما خوفه منه، وخصوصا لأن كلام سعيد عن كل من الثلاثة وافق ما في نفسه، فأمر أحد غلمانه أن يقبض على ياسر حيثما كان، ويزج به في السجن، وبعث آخرين إلى قصر مروان للقبض على ابن عبد البر، وحمله إلى قصر الزهراء.
الفصل الرابع والستون
الانتقام السريع
وظل سعيد جالسا ينتظر أمر الناصر بالانصراف فلم يأمره، فأظهر أنه يبكي، فقال له الناصر: «ما بالك يا حكيم؟»
ففرك سعيد عينيه وقال: «لا شيء يا سيدي.»
قال الناصر: «لا، بل أنت تبكي لأمر ما.»
قال سعيد: «أبكي على الأمير عبد الله؛ فإني كنت أحبه، وقد خسرته، ولكن أمير المؤمنين خير منه. ألا يرجو سيدي توبته؟»
قال الناصر: «وكيف ترى أنت؟»
قال سعيد: «لا أرى دواء لهذا الأمر غير السيف، وإذا خفت من الحية فاقطع رأسها، وإلا فأنت في خطر منها. إني أرى رأي عبد الملك بن مروان مع سعيد بن الأشدق، وقد سار إليه وصار من أعوانه بعد أن خرج عليه وحاربه، أما عبد الملك فلم ير خيرا من قطع الرأس، فدعا ابن الأشدق إليه وقتله، فأمن الفتنة بعده. تلك سياسة بني أمية في الشام من معاوية فما بعده، وكذلك فعل جدك عبد الرحمن الداخل وغيره من رجال الحزم والدهاء. إذا خفت من جماعة فاقطع رءوسهم، والذي يظهر من تنجيمي أن الأمير عبد الله يوشك أن يجعل نفسه رئيس عصابة، ولكن ...»
قال الناصر: «يظهر أنك تخشى أن يغلب علي الحنان، فأستبقي عبد الله! كلا، ثم كلا، إني سمعت تهديده بأذني، وأما ابن عبد البر الضعيف الساقط فلا بد من قتله؛ لأنه من جملة المحرضين، وأما ياسر فقد تعبت من دسائسه وشكاياته وكأن الزهراء قتلت أباه، فلا ينفك يشكو منها أو يعرض بها، وقد تأكدت اليوم من تحامله عليها. إني قاتل أولئك الثلاثة قبل أن يطلع النهار.»
قال سعيد: «يعجبني سداد رأي أمير المؤمنين. تلك كانت سياسة الدهاة من أسلافك؛ إذا خافوا من رجل قتلوه سرا فيأمنون غوغاء الأحزاب.»
قال الناصر: «اذهب إلى فراشك ونم مطمئنا، وغدا تجد لوحا على باب القصر وقد كتب عليه ما فعلناه.»
فنهض سعيد تأدبا وهو يقول: «نصر الله مولانا على أعدائه وأيده بروح من عنده، ولا شك عندي أن مبادرته إلى القصاص على هذه الصورة توقع الرعب في قلوب أولئك الأغرار الذين يتعرضون لبطشه، وإذا أمر مولانا أن يكتب على اللوح عبارة تهديد يشار بها إلى سائر العصاة، كان فيها رهبة لهم فيأمر أمير المؤمنين أن يكتب على ذلك اللوح: وهذا جزاء الخائنين وسيناله من حذا حذوهم وخصوصا صاحب النقمة.»
قال: «أصبت. بورك فيك.» وتزحزح إشارة للانصراف فخرج سعيد وهو ينظر إلى السماء، وقد رفع يديه يدعو للخليفة بالنصر، وذهب إلى فراشه وهو يخشى أن يعدل عن قتل أولئك الثلاثة قبل أن يبوح واحد منهم بأمره.
وأصبح أهل القصر في الصباح التالي، فرأوا على بابه الكبير لوحا قد كتب عليه ما معناه: «قد أنفذ حكم الشريعة الغراء بالقتل على الأمير عبد الله ابن أمير المؤمنين، ومحمد بن عبد البر الفقيه، وياسر الفتى رئيس خصيان القصر؛ قصاصا على خيانتهم وخروجهم على أمير المؤمنين حامي حمى المسلمين ومؤيد الدين وعلى ولي عهده. قتلوا خشية الفتنة، وهذا جزاء الخائنين. ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب، فليعتبر بهم كل من سولت له نفسه الأمارة بالسوء أن ينبذ الطاعة ويخرج عن الجماعة، وأولهم ذلك الخائن صاحب النقمة.»
لم يطمئن سعيد حتى قرأ اللوح وتحقق من نجاته من الفضيحة.
الفصل الخامس والستون
الندم
أما الناصر، فبعد خروج سعيد من عنده أمر بقتل الثلاثة
1
بدون أن يراهم، وبعد قليل جاءه الجلاد يخبره بأنه قتلهم، فأمر بكتابة اللوح، وتذكر الزهراء وصدق مودتها، وكان الليل قد مضى معظمه، فلم يصبر على عدم رؤيتها، فبعث يستقدمها إليه ليشكرها ويبشرها بأنه قتل الخائنين، وكانت قد قامت فنهضت وأصلحت من شأنها وذهبت إليه وهي تعجب لتلك الدعوة المستعجلة.
دخلت عليه فرأته جالسا على السرير وبين يديه لوح يقرؤه ويهز رأسه، فلما دخلت وضع اللوح إلى جانبه ورحب بها قائلا: «مرحبا بالحبيبة الصادقة.»
فأكبت على يده تقبلها فقبلها وأمرها أن تجلس إلى جانبه، فجلست مطرقة فقال لها: «قد أسأنا الظن بك وأنت بريئة من أسباب الريبة.»
فقالت الزهراء: «إني جارية أمير المؤمنين، وهو ولي نعمتي أفديه بروحي، ولا فضل لي.»
قال الناصر: «بل لك الفضل، فإنك أصدق مودة إلي من ابني، ذلك الخائن. لقد سمعت ما دار بينكما بأذني. لله درك من صديقة أمينة! وتبا له من خائن مارق!»
قالت الزهراء: «كيف عرف سيدي بوجود ابنه هنا وعهدي أنك في قرطبة؟»
قال الناصر: «دلني عليه ياسر الخائن حال وصولي، وقد أراد الإيقاع بك فأخذني إلى الشرفة ورأيتكما تتحدثان، فلما تحقق من براءتك من التهمة التي وجهها إليك خجل، ولكنه نال جزاءه.»
قالت الزهراء: «أما عبد الله فإني سأعود إلى مخاطبته، وأنا على ثقة من ندمه ورجوعه؛ لأن في فطرته شيئا من طيب عنصر والده، وإنما خدعته أقوال المفسدين كالفقيه ابن عبد البر وأمثاله، أما هو فإنه طيب القلب شديد التدين كما لا يخفى على أمير المؤمنين.»
وكان الناصر طروبا بحديثها لأنه كان يطرب لكل حركة من حركاتها، فلما أثنت على عبد الله وقالت إنها كانت ترجو صلاحه أحس بتسرعه في قتله، وشعر بالندم. لكنه تذكر الخطر الذي كان يهدده لو لم يفعل، فبادر الزهراء قائلا: «أنا لا أرجو صلاحا ممن يخون أباه وأخاه، وعلى كل حال فقد قضي الأمر.» ورفع اللوح بيده ووجهه نحوها لتقرأه، فما أتت على بعضه حتى صاحت: «ويلاه! قتلت عبد الله؟!» ولطمت وجهها ونظرت إلى عيني الناصر وتفرست فيهما كأنها تستوضحهما الأمر، فرأت الشرر يكاد يتطاير منهما، فأعادت قراءة اللوح حتى بلغت إلى اسم صاحب النقمة فاقشعر بدنها؛ لأنها تذكرت أخاها وأنه سيقتل مثلهم، فغلب عليها البكاء للسببين معا، فظنها الناصر تبكي على عبد الله فقال: «ما بالك تبكين؟»
فقالت الزهراء: «أبكي على شباب عبد الله.»
قال في لهجة الغضب: «أتبكين الخائن وأنت أعلم الناس بخيانته؟!»
قالت الزهراء: «أوليس هو بضعة من أمير المؤمنين؟ فكيف لا أبكيه وقد كنت أعتقد أنني سأتمكن من إرجاعه عن خطئه.»
قال الناصر: «أنت أمرت بالقبض عليه بعد أن يئست من صلاحه.»
قالت الزهراء: «قبضت عليه إرهابا، ولم يكن عندي ريب من ندمه في الغد، ولكن ويلاه! هل قتل عبد الله فعلا؟»
قال الناصر: «نعم قتل، وكذلك سيقتل أمثاله الخائنون، فبعد أن يعلموا أني قتلت ابني لهذه الخيانة فلا يلومون إلا أنفسهم إذا وقعوا في يدي، فإني قاتلهم جميعا، والقتل أنفى للقتل.»
فتذكرت أخاها وما يكون من أمره إذا وقع في قبضة الناصر، فأحبت أن تستطلع رأي الخليفة في العفو عن أمثاله فقالت: «وإذا رجعوا تائبين؟»
قال الناصر: «أقتل ابني وأعفو عن سواه؟! لا يقع في يدي واحد من الخائنين إلا قتلته أيا كان.»
فوقع قوله في نفسها وقعا شديدا؛ لأنها تعرف شدة الناصر وبطشه، وازدادت خوفا من ذكر اسم أخيها، ورأت تأجيل طلب العفو إلى فرصة أخرى، وهي لا تعلم إذا كان أخوها يرضى بطلب العفو. فرأت أن تقنعه أولا بالرجوع، ثم تتوسط له في العفو عنه.
وبعد قليل أمر الخليفة بانصرافها، وبعث اللوح لتعليقه بالباب وتوسد يطلب النوم، فتذكر ما دار بينه وبين الزهراء، وتمثلت له صورة ابنه عبد الله عند آخر نظرة، فغلب عليه الحنان وأخذ الندم يتسرب إلى قلبه شيئا فشيئا، وهو يغالبه وينتحل الأسباب التي تسوغ السرعة في القصاص تخلصا من الفتنة، لكنه مع ذلك غلب عليه الأرق وتولاه القلق، فلم يغمض له جفن وهو يتقلب كأنه نائم على الشوك.
ولما طلع النهار أحس بضعف وانقباض، فاستدعى طبيبه سليمان بن تاج، فأتاه مسرعا فشكا إليه حاله، وكان سليمان قد قرأ اللوح المعلق بالباب، فعلم سبب ذلك الانحراف، فوصف له بعض المنعشات أو المبردات في اصطلاحهم، وقال: «لا يخفى على أمير المؤمنين سبب هذا الانحراف، والعلة تزال بضدها، فيستحسن أن يلهو سيدي بما يشغله عن التفكير.»
قال الناصر: «وكيف ذلك؟»
قال سليمان: «تأمر جارية مغنية تغنيك ألحانا مفرحة، فإن من الألحان ما يبعث على الحزن، ومنها ما يبعث على الفرح، وعرفت فيلسوفا من أبناء مهنتنا اخترع ألحانا تضحك، وأخرى تبكي، وألحانا تفرح أو تغضب لغير سبب موجب للضحك أو البكاء أو الفرح أو الغضب، وإنما يحدث ذلك من تأثير الألحان على النفس، وأظن أن ذلك الفيلسوف قد مات الآن، ولست أدرى إذا كان قد علم أحدا هذه الألحان.»
فتذكر الناصر أن عابدة تحسنها فقال: «إن جاريتنا عابدة تعلمت هذه الألحان من معلمها سعيد الوراق.»
فقال ابن تاج: «إن سعيدا هذا من عجائب الدنيا، لا يوجد شيء من العلوم لا يعرفه، حتى الموسيقى، فإذا شاء مولاي أمر جاريته عابدة أن تجالسه فتسقيه هذه المرطبات، وتغنيه على انفراد، فإني أرجو شفاءه عاجلا.»
الفصل السادس والستون
الورقتان
فاستحسن الناصر هذا الرأي، وأشار إليه أن يمضي لتحضير العلاج وإرساله، وبعث أحد الغلمان إلى سعيد فأتى، فقص عليه ما أشار به الطبيب فأظهر موافقته على ذلك العلاج، واستأذن في الذهاب لاستقدامها، وقلبه يكاد يطير من الفرح لسنوح هذه الفرصة ليتم بها غرضه.
وكانت عابدة في غرفتها وعندها بعض الجواري يتحدثن بما هو مكتوب على ذلك اللوح، وهن يستغربن تنفيذ القتل بهذه السرعة، فلما رأت سعيدا قادما أسرعت إليه، وقد زادت ضربات قلبها وعلت الحمرة وجنتيها وأبرقت أسرتها، فمشى هو أمامها إلى غرفته، فلما دخلت سلمت عليه فهش لها واستدناها فأجلسها إلى جانبه ولاطفها، ووضع ذراعه على كتفيها كأنه يضمها تحببا، فأحست بقشعريرة لم تشعر بمثلها من قبل، فزاد تورد وجنتيها ولمعت عيناها وأطرقت خجلا، وقلبها يخفق فرحا وهياما فقال لها: «قد آن الوقت ودنت الساعة، وإنما تتوقف سعادتك عليك.»
فقالت عابدة: «تتوقف السعادة علي؟ علي أنا؟ إني رهينة ما تريد في سبيل هذه السعادة.» قالت ذلك بلهفة المحب المتفاني.
قال سعيد: «نعم عليك، أين الورقتان اللتان أودعتهما عندك؟ هل أنت محتفظة بهما؟»
فنظرت إليه نظر العاتب وهي تبتسم وقالت: «كيف لا أحتفظ بوديعتك! بل كيف أقدر على أن أخالف لك أمرا!» ومدت يدها إلى جيبها وأخرجت الورقتين في صرة ودفعتهما إليه.
فتناول الصرة وقال: «أتعلمين ما بداخل هذه الصرة؟»
قالت عابدة: «ورقتان.»
قال سعيد: «وما فيهما؟»
قالت عابدة: «أحسب أن فيهما سما، فهل هذا صحيح؟»
قال سعيد: «الصحيح لا أقوله لك الآن» وحدق في عينيها فحولت بصرها عنه، وأحست كأن سهما اخترق أحشاءها أو تيارا كهربائيا تسرب في عروقها، فأطرقت وهي تنتفض.
فأتم سعيد كلامه قائلا: «إن في هذه الأوراق مخدرا ينام صاحبه نوما طويلا.»
فقالت عابدة: «نعم.»
قال سعيد: «فهمت؟ إن هذه الأوراق منوما لا يقظة لنا بدونه.»
فرفعت بصرها إلى فمه ولم تجسر على أن تنظر في عينيه وقالت: «لم أفهم ما تريد يا سيدي.»
قال سعيد: «ألا تذكرين أني سألتك يوما ونحن في الأرباض إذا كنت تتحملين خطر القتل من أجل الحب؟»
قالت عابدة: «نعم، وأذكر أني قبلت أن أتحمل كل خطر، وأنا الآن أعترف بذلك وأفتخر به.»
قال سعيد: «اعلمي أن الخليفة يشكو من أرق وانقباض، وقد وصف له الطبيب من يسامره أو ينادمه بالغناء بألحان مطربة، وذكر الألحان التي استنبطها الفارابي للضحك والطرب، والخليفة يعرف أنك تحسنين هذه الألحان، فطلب إلي أن أدعوك إليه وأفهمك ما يلزم، فها أنا قلت لك.» وسكت.
فظلت ساكتة تنتظر تتمة الحديث ، فرأته قد شغل عنها بحك أنفه فقالت: «وما علاقة هذا بالخطر؟»
فنهض سعيد وقال: «لا علاقة بينهما، صدقت، دعي هذه الأوراق معي وقومي لمنادمة الخليفة. فإني أخاف أن يستولي عليك الضعف.»
قالت عابدة: «لا تخف من شيء، فإن أوامرك تبث في قوة وشجاعة.»
وكان يعلم أن أمره نافذ عندها ولو ضد إرادتها، وقد اختبر ذلك مرارا، فإذا أمرها وشدد أمره ونظر في عينيها وهي تنظر في عينيه استهواها، فتعمل ما تؤمر به حرفيا، وهو ما يعبر عنه علماء اليوم بالتنويم المغناطيسي، ولم يكن تعليله معروفا في ذلك العصر أو ربما عبروا عنه بالسحر، فلما قالت له ذلك أمسك يدها بين يديه وحدق في عينيها، وأمرها أن تنظر في عينيه ففعلت، فدفع إليها الورقتين وقال لها: «إني آمرك أن تسقي ما في هذه الورقة للخليفة الناصر في هذا اليوم.»
فارتعشت وغلبت على أمرها، وقالت: «سأفعل ذلك يا سيدي.»
قال سعيد: «اسمعي يا عابدة، ضعي هذه الورقة في جيبك واذهبي الآن إلى الخليفة وهو في غرفته على فراشه ومعك القانون والعود، وغنيه وأطربيه واسقيه من الشراب الذي وصفه الطبيب. فهمت؟»
قالت عابدة: «نعم.» وهي تحدق في عينيه ويدها ترتعش بين يديه.
قال سعيد: «فإذا سمعت أذان نصف الليل فاعمدي إلى هذه الورقة فصبي ما فيها في كأس الشراب، وقدميها للخليفة، وبعد أن يتناولها ببضع دقائق يغلب عليه النوم ويبقى نائما إلى الأبد.»
قالت عابدة: «نعم، وماذا أفعل بعد ذلك؟»
قال وهو يخرج الورقة الأخرى: «وبعد ذلك تأتين إلى هذه الغرفة، فإذا لم تجديني فيها فإنك تجدين قدحا فيه ماء، فصبي فيه هذه الورقة واشربيه فتنامين ريثما آتيك، وقد أعددت كل ما يلزم للفرار إلى مكاننا حيث نكون قد قمنا بما علينا، وقد دبرت كل شيء.»
فتناولت الورقتين وخبأتهما في جيبها ولم يبد عليها اضطراب أو خوف. لكنها قالت: «هل هذا آخر سعي لنا في سبيل السعادة؟»
قال سعيد: «نعم، امضي وانتبهي لأذان نصف الليل.»
فنهضت وتناولت العود وسارت إلى غرفة الخليفة وأخذت تغنيه وتسقيه كما أوصاها الطبيب.
الفصل السابع والستون
الفرار
أما سعيد فمكث بعد ذهاب عابدة مدة صامتا، يفكر في خطورة الأمر الذي كلفها به، وكيف أنها طاوعته بلا تردد، فلم يبق عليه إلا أن يفر بالزهراء، وأراد أن يقتل الناصر مخافة أن يبعث في طلبه بعد فراره بأحب جواريه إليه، وأن يقتل عابدة ليبقى أمره خفيا.
فذهب إلى الزهراء في غرفتها، فقابله جوهر بالباب فسأله عنها فقال: «إنها ما فتئت منذ علمت بمقتل الأمير عبد الله ورفيقيه وهي منقبضة النفس لا تكلم أحدا.» فعلم سعيد أن سبب اضطرابها أنها قرأت اسم أخيها على لوح الإعلان بإعدام هؤلاء، فقال: «استأذن لي في مشاهدتها.» فأجاب مطيعا، وكانت قد علمت أنه من رجال سعيد، وقد أدخله في بلاط الناصر جاسوسا، فهو يتفانى في خدمته ويحتفظ بسره.
عاد جوهر وأشار إلى سعيد بأن يدخل، فدخل وهو يمشي الهوينى كأنه يفكر في شيء شغل خاطره، فوجد الزهراء جالسة على وسادة وقد أسندت خدها بكفها واستغرقت في التفكير، فلما شعرت بدخوله رفعت رأسها إليه، فتفرست فيه لحظة ثم عادت إلى الإطراق.
فتقدم سعيد نحوها وقال: «هل تحققت من صدقي؟» فلم تجبه.
فقال سعيد: «يا حسناء قولي، هل علمت أني قلت لك الصدق عن أخيك، وأخلصت لك النصح في كيفية إنقاذه؟»
فرفعت بصرها إليه، وقد تلألأ الدمع في عينيها، وبدت مظاهر العتاب والأسف على محياها، وقالت: «آه! ليتك لم تقل شيئا، ولو أنني بقيت جاهلة أمر أخي لكان خيرا لي من أن أرتكب في سبيل إنقاذه خيانة سيدي وولي نعمتي.»
قال سعيد: «أراك تزدادين حبا له؟»
قالت الزهراء: «كيف لا ولم أر منه شرا، بل لم أسمع منه كلمة تسوءني، وقد رفع منزلتي وقدمني على سائر نسائه، وبنى هذه القصور حبا في. كيف لا أحبه؟ بل كيف لا أعبده؟ هذه هي المحبة الخالصة و...» وسكتت كأنها همت أن تقول شيئا وأمسكت نفسها حياء.
ولم يفته أنها كانت تشير إلى محبته غير الخالصة فقال: «تعيرينني بمحبة الناصر يا حسناء؟ لماذا لا يحبك وأنت تتفانين في خدمته؟ وأما القصور فقد بناها لنفسه وحاشيته، وأما المحب الصادق فهو الذي يرى نفورك ويأبى السعادة بعيدا عنك، يرفض الملك ويحترف التنجيم والتعليم للوصول إليك، يعرض حياته للخطر من أجل حبك. هذه هي المحبة الخالصة، وهذا هو المحب الصادق. دعينا من هذا الآن وقولي هل أنت عازمة على إنقاذ أخيك أم لا؟ وقد عرفت اليوم بنفسك مقدار غضب الناصر عليه.»
فأجفلت وقالت في ذلة وانكسار: «نعم عرفت.»
قال سعيد: «إذا كانت نجاته لا تهمك، فذلك أمر آخر.»
قالت الزهراء: «أنت تعلم أن نجاته تهمني كثيرا، ولكن الطريق وعر.»
قال سعيد: «ولا بد دون الشهد من إبر النحل، ومع ذلك فإني لا أرى مشقة عليك في الخروج من هذا القصر ليلة واحدة وتعودين في الصباح وأخوك معك، وتستعطفين الناصر عليه ثم تستقدمينه كما تشائين. إذا كنت عازمة على الخروج معي فقولي وإلا فأنا ذاهب.» قال ذلك وأظهر أنه يريد الخروج فابتدرته قائلة: «وتهددني أيضا؟! أهكذا تكون الأريحية؟! ألأني في حاجة إلى خدمتك تنتهرني؟!» واغرورقت عيناها بالدموع.
فجثا بين يديها وتظاهر بالتأثر من قولها وقال: «حاشا لله أن أهددك، فإني إنما ألتمس رضاك وأبذل حياتي في سبيل حبك. أنت صاحبة الأمر، قولي، قولي وأنا أفعل ما تريدين حتى الموت، وأنا مستعد لاستقباله باسمك. آه لو كان لك قلب مثل قلبي فتدركين مقدار حبي لك! ولكنك قاسية القلب، وطالما وصفتك بهذا الوصف.»
فتنهدت تنهدا عميقا وقالت: «سامحك الله على هذه التهمة، إني أكاد أكون مجبولة بالحب. وإذا أحببت فإلى حد لا يتصوره العقل، ولك من حديثي بالأمس عن قتيل النهار أحسن مثال!»
فقطع حديثها قائلا: «يظهر أنك لم تبغضي أحدا سواي؟»
قالت الزهراء: «أعترف لك يا سيدي أني لم أحبك، ولكن إذا صدقت الخدمة في إنقاذ أخي فإني أحبك ولو على سبيل الشكر.»
فنظر إليها شذرا وقال: «أقول إني ميت في حبك، وقد ركبت كل مركب خشن في سبيلك، وأنت تشترطين في حبي ألف شرط؟! آه ! إنك ترغمينني على أن أبوح لك بذنب ارتكبته في هذا النهار من أجل حبك.»
قالت الزهراء: «وما هو؟»
قال سعيد: «أنت تعلمين حبي للأمير عبد الله، وقد كنت عنده معززا مكرما، ولكنني أعلم أنه يعرف مقر أخيك، وقد خشيت إذا استجوبه الخليفة أن يدله عليه فيقتله، فأشرت على الناصر بأن يبادر إلى قتل عبد الله وقتل رفيقه دون مواجهتهم، وقد فعل. ألا تعدين ذلك فضلا لي؟»
فانطلت حيلته عليها وصدقته وقالت: «صدقت.»
قال سعيد: «وتقولين إنك ربما تحبينني إذا أنقذت أخاك؟»
قالت الزهراء: «أتريد أن أخدعك؟! هذا ما أشعر به، وسنرى!»
قال سعيد: «لا أفعل شيئا لا يرضيك، وسترين، وأنا راض بتأجيل الحب حتى تتأكدي من خدماتي. فقولي الآن هل تذهبين؟»
قالت الزهراء: «إلى أين؟ ومتى؟»
قال سعيد: «تذهبين معي الليلة إلى أرباض قرطبة حيث تلاقين أخاك كما قلت لك.»
فرفعت نظرها إليه وقالت: «كيف أذهب؟»
فحدق في عينيها تحديقا شديدا وقال: «تذهبين متنكرة على بغلة بثياب صاحب البريد ومعك جوهر الخادم، وأنا ألاقيك خارج هذا القصر ونذهب معا، وسترين أني صديق صادق. قولي: نعم، قولي، لا تخافي، فما فاز باللذات غير الجسور!»
فأحست بضعف الإرادة، فنهضت وهي تتنهد وكأنها تتأهب للخروج وقالت: «متى أخرج؟»
قال سعيد: «اخرجي بعد الغروب، وفي ركابك جوهر.»
قالت الزهراء: «وبعدئذ؟»
قال سعيد: «وبعد ذلك أخرج أنا من باب آخر، ونلتقي معا خارج هذه القصور في الطريق المؤدي إلى قرطبة، ثم نذهب معا إلى أخيك.»
قالت الزهراء: «هل أنت واثق أني أجده هناك؟»
قال سعيد: «نعم.»
قالت الزهراء: «هذا آخر اجتماع لنا هنا؟»
قال سعيد: «لا حاجة إلى اجتماع بعده، فقد تم الاتفاق بيننا، اخرجي أنت مع جوهر، ألا تثقين بأمانته؟»
قالت الزهراء: «نعم.»
قال سعيد: «أخبريه بعزمك على الخروج الليلة لمشاهدة أمر يهمك، وأنك لا تحبين أن يعلم أهل القصر بخروجك، وقولي له إنك سوف تتنكرين في ثوب صاحب البريد، فإن صاحب البريد لا يسأل عن خروجه ودخوله، وخصوصا إذا كان معه أحد غلمان الزهراء، واطلبي إليه أن يهيء لك الثياب والبغلة.»
فوقفت هنيهة وهي مطرقة تعمل فكرها كأنها تتردد، فخشي أن تعدل عن عزمها فقال: «إذا كنت تخافين من الخروج، فلست أهلا لإنقاذ أخيك.»
فلما ذكر أخاها عادت إليها جسارتها وقالت: «نعم أذهب، وسنلتقي بعد العشاء في الموقف الثاني في الطريق بين الزهراء وقرطبة.»
فقال سعيد: «بارك الله فيك، وأنا ذاهب لنلتقي هناك.» وخرج.
الفصل الثامن والستون
الأرباض
وكان حراس باب القصر في ذلك المساء جلوسا، يتحدثون بما علموه من مقتل الأمير عبد الله وابن عبد البر وياسر، ويستغربون وقوعه، وقد أتتهم الأوامر المشددة بالانتباه إلى من يدخل القصر أو يخرج منه، وبينما هم في ذلك، إذ سمعوا قعقعة لجام البريد ثم رأوا البغلة وعليها راكب بثياب صاحب البريد وقد تلثم، وإلى جانبه جوهر على بغلة، فهم الحراس أن يعترضوا طريقهما فقال لهم جوهر: «هذا بريد مولاتنا الزهراء.» ففتحوا لهما الباب، فخرجا.
فلما صارت الزهراء خارج القصر منفردة غلبت عليها الوحشة والتفتت إلى ما حولها، فإذا هي وحدها في صحراء رملية، وكلما بعدت أحست بالظلام؛ لأن أنوار تلك القصور كانت تؤنسها، حتى إذا وصلت إلى الموقف المعهود وقفت، وأدار جوهر بغلته نحوها وسألها عما تحتاج إليه.
فقالت الزهراء: «إلى أين نحن ذاهبان؟ ما هذا؟ كيف خرجت من قصري وأنا فيه كالملكة المتسلطة حتى على الملك نفسه؟!»
فقطع جوهر كلامها قائلا: «لا تزالين يا سيدتي صاحبة السيادة، وفي غد تعودين إلى قصرك ومعك أخوك، وتخلصينا من انقباضاتك وعبساتك.»
وكان جوهر خفيف الروح وهي تأنس إليه، فأعجبها تعبيره، فقالت: «هل ألاقي أخي؟ يا حبذا ذلك!»
قال جوهر: «لا بد من لقائه، وإلا فلماذا خرجت؟»
وهمت بالجواب، وعيناها شاخصتان إلى منتهى الطريق، تنتظر مجيء سعيد، وبغلتها تتحرك تحتها، فشغلها شبح ظهر عن بعد من ناحية القصر، فأسرع جوهر ببغلته لملاقاته، ثم عاد مسرعا وبشر الزهراء أنه سعيد، فلم تدر أتفرح أم تحزن؛ لأنها كانت لا تحبه، ولكنها لا ترى بدا منه أملا في لقاء أخيها، فظلت صامتة حتى وصل سعيد إليها فحياها، وقال لها: «هل أنت مرتاحة؟»
فأجابت برأسها أن: «نعم.»
فأومأ لها أن تسوق بغلتها بجانبه وساروا، وكانت قد تعودت الركوب؛ لأن الناصر كثيرا ما كان يصطحبها في خروجه للصيد أو التنزه، وركوب البغال سهل.
ساروا برهة لا يتكلمون حتى أطلوا على الجسر المؤدي من قرطبة إلى أرباضها، فوق الوادي الكبير، فسمعوا دوي الطواحين، وكانت الزهراء لم تسمعها من عهد بعيد؛ لأنها لم تمر على ذلك الجسر من عدة أعوام. قطعوا الجسر وقد مضى هزيع من الليل فأشرفوا على الأرباض وهم سكوت. وكانت الزهراء كلما بعدت عن القصر خطوة اقتربت من الندم خطوتين، فلما دخلت الأرباض ورأت ما هنالك من المنازل الحقيرة أحست بانقباض نفسها وقالت: «إلى أين نحن ذاهبون؟»
قال سعيد: «إلى سالم.»
قالت الزهراء: «أرى أن سفرنا قد طال كثيرا؟»
قال سعيد: «لم يبق إلا القليل.»
وظلوا سائرين فرأت أنهم تجاوزوا الأرباض، فتصورت أن سعيدا يخدعها فأوقفت بغلتها وقالت: «أرانا خرجنا من حدود قرطبة؟»
قال سعيد: «نحن على مقربة من المكان، لا تخافي.» وبعد قليل أطلوا على الوادي الكبير ثانية حتى صاروا عند الشاطئ، وعرفوا ذلك من لمعان سطح الماء عن بعد وانعكاس أضواء النجوم عليه.
ثم وصلوا إلى بيت منفرد، فترجل سعيد وترجل جوهر وأعان الزهراء على النزول فنزلت، وأخذت قواها تنهار من الخوف، وكادت تعتقد أنها وقعت في الفخ، ولكنها تجلدت وأطاعت سعيدا، والتفتت إلى ما حولها فإذا هي في بساتين قليلة العمارة، وقد ساد السكون في ذلك الليل، فلم يكن يسمع فيه غير خرير ذلك الوادي. ثم ما لبثت أن رأت كلبا كبيرا يخرج من ذلك البيت وأخذ يحوم حول سعيد ويقفز عليه، وهو سلام المعرفة عند الكلاب، فعلمت الزهراء من ذلك أنهم وصلوا إلى المكان المقصود، وصارت تتوقع أن ترى أخاها أو أحدا يأخذها إليه.
الفصل التاسع والستون
الخوف
وبعد أن ترجلوا تناول جوهر أرسان البغال، وأخذ في شدها إلى بعض جزوع الشجر هناك، وأشار سعيد إلى الزهراء بأن تمشي معه ، فمشت وهي تحاذر أن يمسها ذلك الكلب بسوء، وقلبها يخفق حذرا من الخديعة. أما سعيد فكان يلاطفها حتى دنت من البيت، فتناول من جيبه مفتاحا فتح به الباب، ودخل والظلام حالك فتراجعت وقالت: «لا أدخل في الظلام.» فأشار إليها أن تجلس، فقالت: «أين أخي؟»
قال سعيد: «ليس هو هنا، وإنما أردت أن تستريحي هنيهة.»
فأجفلت وقالت: «أستريح؟ كنت أفضل أن نظل سائرين حتى نصل إليه؛ فقد مضى معظم الليل وسيدركنا النهار، وينبغي أن نكون في القصر في صباح غد.»
فضحك سعيد، وقال: «لا بأس. سنكون هناك كما تقولين» قال ذلك وخرج.
فالتفتت حولها فلم تزدد إلا وحشة، وأخذت تفكر فيما أتته من الطيش في تسرعها، ولكنها شعرت أنها لم تكن مخيرة في ذلك، وأرادت أن تصيح وتستغيث، فخشيت العاقبة، فرجعت إلى رشدها وأخذت تتجلد وتفكر، فحدثتها نفسها أن تستغيث بجوهر لعله ينقذها، فنهضت ومشت إلى الباب فرأت سعيدا واقفا إلى جانبه يكلمه، ثم أشار إليه فأسرع نحو الشاطئ، وعاد سعيد نحو البيت والكلب يقفز حوله.
فرجعت الزهراء إلى مقعدها، وأحست أنها وحيدة هناك، وقد أصبحت في قبضة سعيد، فأخذ قلبها في الخفقان وجاش الحزن في صدرها وأحست بالحاجة إلى البكاء، ولم تستطع أن تحبس دموعها فبكت. ثم دخل سعيد، فلما رآها تبكي ضحك وقال: «ما بالك تبكين؟»
قالت الزهراء: «أخشى أن تكون قد خدعتني؟»
قال سعيد: «كيف أخدعك أو أريد بك سوءا وأنا إنما أريد سعادتك، وقد تركت الدنيا كلها من أجل لقائك؟»
قالت الزهراء: «أين نحن الآن؟ أين أخي؟ بالله أرني إياه ثم لا أبالي بعد ذلك ما يصيبني.»
فقالت الزهراء: بالله دعني، أرجعني إلى القصر، لقد استغنيت عن رؤية أخي أو غيره، ويلاه ما هذا! أين أنا؟
قال سعيد: «تمهلي، إنك سترينه، وتكونين في أوج السعادة.»
وبينما هما في ذلك، سمعا صفيرا فأجفلت الزهراء وجعلت تتلفت وهي مذعورة، فقال لها سعيد: «لا تخافي.»
فقالت الزهراء: «وما ذاك؟»
قال سعيد: «هذا ربان السفينة يخبرنا بوصولها.»
قالت الزهراء : «وأية سفينة ؟»
قال سعيد: «سفينة لنا في هذا النهر، سننتقل بها إلى المكان الذي فيه أخوك، وهو ليس بعيدا.»
فصفقت وصاحت: «ويلاه! إلى أين تذهب بي يا سعيد؟ ألم تعاهدني على الذهاب إلى أخي؟»
قال سعيد: «نحن ذاهبون إليه عن طريق النهر، وذلك أهون من السفر عن طريق البر.»
فقالت الزهراء: «بالله دعني، أرجعني إلى القصر، لقد استغنيت عن رؤية أخي أو غيره، ويلاه ما هذا! أين أنا؟» قالت ذلك وأطلقت لنفسها عنان البكاء.
فتقدم سعيد إليها وأمسكها بيدها وقال: «لا تظني سوءا يا حسناء، نحن ذاهبون إلى أخيك. تعالي، اخرجي، انظري إلى السفينة، فإنها ستحملنا إلى منزل تجدين فيه أخاك، فتتحققين صدق قولي.»
فجذبت يدها من يده وتراجعت، ثم أعملت فكرها، فرأت نفسها منفردة هناك وندمت ندما شديدا على مجيئها، ولكنها لم تقطع الأمل من لقاء أخيها فتجلدت وأطاعت سعيدا في الخروج إلى السفينة فرأت الشراع منصوبا، فدعاها للنزول ولم تجد في السفينة أحدا من النوتية، وما لبثت أن رأت السفينة تخترق عباب الماء، وليس فيها أحد غيرها هي وسعيد وجوهر.
الفصل السبعون
الفشل
فلنتركهم يخوضون الماء ونرجع إلى عابدة عند الناصر وهي تسقيه المرطبات وتغنيه وتنادمه. قضت بقية ذلك النهار عنده وهو يتلهى بالحديث والشراب، فلما اقترب وقت العشاء كان الشراب والغناء والخلوة قد نبهت فيه ذكرى ابنه عبد الله، فتصور ما كان من تسرعه في قتله وكيف أن الزهراء قالت له إنه كان في إمكانها إقناعه واستبقاؤه حيا، ولامته على تسرعه، فأحس بشوق لرؤيتها ومحادثتها، فبعث في طلبها فلم يجدها في غرفتها، فألح في البحث عنها فلم يقف لها أحد على خبر، فغضب وغلبت عليه الحدة فأمر برفع المائدة وأخرج عابدة وطلب الانفراد ليناجي نفسه فيما فعله، هل أخطأ في قتل ابنه أم كان يستحسن أن يستبقيه، فقضى بقية تلك الليلة في أمثال هذه الهواجس، ولا يجسر أحد على مخاطبته.
أما عابدة فكان إخراجها من حضرة الخليفة صدمة قوية بالنسبة للهدف الذي كانت تهيئ نفسها له، وسارت توا إلى غرفة سعيد فلم تجده هناك، ولاحظت من حال الغرفة أنه خرج منها خروج المسافر، ومكثت على ذلك وهي تصبر نفسها لعله يأتي، فمضى هزيع من الليل ولم يأت، فخرجت تلتمسه عند الزهراء فوجدت مربيتها، وكانت قد تعرفت إليها، فسألتها: «هل رأيت سعيدا؟» فقالت: «لا هو ولا الزهراء.»
فأجفلت عابدة للحال، ودلها قلبها على مكيدة فقالت: «وكيف اتفق خروجهما معا؟»
فهزت كتفيها كأنها تتنصل من تبعة ما خطر ببالها، فأدركت عابدة أن تلك الوصيفة تشك في ذلك الأمر، ثم شاع في القصر خبر خروج الزهراء، ولم تبق وصيفة، ولا وصيف، ولا خادم، ولا خادمة إلا عرف به، وكلف تمام رئيس الخصيان بالبحث عنها في سائر القصور فلم يقف لها على خبر.
أما عابدة فإنها عادت إلى غرفة سعيد لتعيد النظر وتتفرس في الأشياء، فلم تزدد إلا اعتقادا بفراره، فانقبضت نفسها وتولاها اليأس، فجلست على مقعد هناك، وقد وهنت عزيمتها واسترخت كأنها أصيبت بغيبوبة، واستغرقت في الهواجس، وأخذت تراجع تاريخ حياتها مع سعيد وكيف كانت متيمة به، وهو يعدها بأن يتزوجها، وكيف جعل شرط الزواج فوز العبيديين على الأمويين، واستخدمها في كثير من الأحوال لتنفيذ أغراضه وآخرها دخولها قصر الزهراء على ما علمت، وكيف أراد أن يستخدمها في الفتك بالخليفة، وكيف أنها قبلت ذلك على أن تكون هذه المهمة آخر العقبات في سبيل الظفر بما تريد، ثم هو يفر من القصر بالزهراء! ولما تصورت فراره معها، أجفلت وجلست على المقعد والظلام حالك، فغلب عليها الانقباض وعمدت إلى البكاء.
وبينما هي مستغرقة في البكاء إذ سمعت الأذان، وعلمت أنه أذان نصف الليل، فتذكرت وصية سعيد أن تسقي الخليفة العقار وتشربه في تلك الساعة فغلبت عليها الطاعة للاستهواء، فنهضت وأخرجت الورقة من جيبها وعمدت إلى الكأس وفيها الماء وصبت العقار فوقه وأخذت تتأمله وتقول: «هل الموت مختبئ في هذا الماء؟ الموت ولا هذا العذاب، ولكن لا، لا، ربما صدق سعيد فيأتيني بعد قليل. كيف يأتي وقد فر بالزهراء؟ لا، لا أظنه يفعل ، بل هو يشفق على قلبي لأنه يعلم مقدار حبي له.»
ثم وضعت الكأس من يدها وأسندت رأسها على الحائط، فغلب عليها النعاس من فرط التعب، فتوالت عليها الأحلام المزعجة، ولم تستيقظ إلا على أذان الصبح، فنهضت مذعورة لصوت الأذان ورأت الكأس لا يزال كما هو فتناولته، وكان الاستهواء قد ذهب تأثيره فانتبهت لنفسها وقالت: «أين ذهب سعيد؟ هل يعود ويشفق على قلبي؟ سامحك الله، ما أقسى قلبك! وإذا لم ترجع فهل أبقى على قيد الحياة! تبا للحياة بعدك! الأفضل أن أموت، إن الموت في هذه الكأس.»
ورفعت الكأس وتأملته، وهمت أن تضعه على شفتيها، فإذا بيد قد قبضت على ذراعها، فوقع الكأس إلى الأرض وانسكب ما فيه، فأجفلت والتفتت فرأت ساهرا ينظر إليها بوجه عبوس ويقول لها: «أين معلمك؟ أين سعيد الوراق الخائن؟» قالت عابدة: «لا أعلم أين هو، إني أبحث عنه؟»
قال ساهر: «قبحه الله من خائن! قد وشى بالأمير عبد الله والفقيه وعجل بقتلهما، وهو سبب خروجهما على الخليفة، وأنت معه لأنك رفيقته.»
فقالت عابدة: «أنا؟ أنا المسكينة الذليلة؟ إنه خانني قبل الجميع.»
وأطلقت لنفسها البكاء، فرق ساهر لها وقال: «خانك أنت؟»
قالت عابدة: «قد عذبني عدة أعوام وهو يعدني بالزواج فأطعته إلى هذه الساعة، ثم ظهر لي أنه فر. ألم يفر؟»
قال ساهر: «يظهر أنه فر والزهراء معه، وقد علم الخليفة بذلك وبعث إلي فأمرني أن أبحث عنه، فلما وجدتك هممت بالقبض عليك لأنك رفيقته.»
قالت عابدة: «ويلاه من ذلك الظالم الخائن! آه لو ألقاه لقتلته بيدي! قد كنت حتى هذه الليلة أتعشقه وأتفانى في حبه، أما الآن بعد أن تحققت من خيانته فليس في الدنيا أبغض إلي منه، ولو استطعت أن أمتص دمه لفعلت.» قالت ذلك وهي ترتعد وتصر على أسنانها.
ومن نواميس الحب أن يزداد بالتبادل أو بالأمل؛ فالمحب يزداد تعلقا بحبيبه إذا تحقق أنه يحبه أو استدل من تصرفه أنه سيحبه، فيحيا بالأمل، فإذا علم بعد ذلك أن أمله في غير موضعه وأن ذلك الحبيب كان يخادعه تصيبه صدمة الفشل، فينقلب حبه بغضا، ويشتد غضبه بنسبة ذلك الحب. وهذا ما حدث لعابدة حين تحققت من خيانة سعيد لها، فإنها نقمت عليه نقمة لا تقاس بها نقمة أعدى الأعداء.
فقال لها ساهر: «أنت طبعا تعرفين منزله ومخبآته في قرطبة وأرباضها؟»
قالت عابدة: «أعرف، نعم أعرف كثيرا من أحواله.»
قال ساهر: «اتبعيني» ومشى نحو غرفة الخليفة فلقى تماما رئيس الخصيان، فقال له: «إن هذه الجارية تعرف كثيرا من مخبآت ذلك الخائن لأنها كانت معه، وقد خدعها وخانها، وكاد يقتلها. فهي تدلنا عليه إذا أمر الخليفة بفرقة ترافقنا، فنذهب الآن للبحث حالا.»
فدخل تمام على الناصر، وقص عليه ما قاله ساهر، فأمر أن يرسلوا معه فرقة من الفرسان الأشداء، ومعهم عابدة ترشدهم إلى المكان، فهيئوا الأفراس وأعدوا لعابدة فرسا ركبت عليه، وركب ساهر على فرس إلى جانبها، وقد أعجبه ما ظهر من أدبها، وكان قد استلطفها كثيرا منذ رآها في قصر مروان منزل الأمير عبد الله، وتولدت فيه حاسة الشفقة عليها بعد أن عرف حقيقة أمرها، وكان حسن السريرة مخلص الطوية شديد الحب، مع أنه خصي لا يرجو من وراء الحب غير تعب القلب، ولكنه كان قد أحب الزهراء إلى درجة العشق، وكان يكفيه من حبها أن تبتسم له وتظهر رضاها عنه، وقد خدمها بالتجسس على عبد الله كما أوحت إليه؛ ولذلك كان من أكثر الناس غضبا على سعيد لفراره بها.
الفصل الحادي والسبعون
الفخ
أما سعيد فقد تركناه على ظهر السفينة ومعه الزهراء، وقد تولاها الخوف وأوشكت أن تيأس من النجاة، لكنها صبرت نفسها لترى عاقبة الصبر، وقد سارت السفينة بهم ساعة والريح خفيفة، وسعيد يحاول استرضاء الزهراء وهي لا تزداد إلا اضطرابا، تنتقل في السفينة من جانب إلى جانب، وتتطلع إلى الشاطئ والظلام يحجب الشاطئين عنها. لولا ما تراه من بصيص الأنوار في بعض الأماكن.
وكان جوهر في أثناء ذلك متشاغلا لا يتكلم، فرأت سعيدا يغافل جوهرا ويدور من ورائه وبيده كيس معلق بحبل قد حمله سعيد ، ومشى الهوينى وجوهر مشتغل بربط حبل الشراع إلى السارية، وقد وقف على حافة السفينة والظلام حالك والرجل في غفلة، فاستغربت الزهراء ذلك التلصص ولم تفقه له معنى. على أنها لم يطل نظرها في الأمر حتى رأت سعيدا قد وثب على جوهر، فجعل ذلك الحبل حول عنقه ورفسه برجله فسقط في الماء إلى قاع النهر، فصاحت الزهراء: «ويلك! ماذا فعلت؟» ووقفت وركبتاها ترتجفان وهي تنظر إلى الماء تتوقع أن يسبح جوهر، فلم يفعل لأنه كان في الكيس حجر هبط به إلى القاع، فصاحت: «ما هذا؟» فتجاهل سعيد ثم قال: «لعل جوهرا سقط في الماء.»
فقالت الزهراء: «تقول ذلك وأنت الذي أغرقته؟!»
قال سعيد: «ما لنا وله! دعينا وحدنا.»
قأيقنت عند ذلك بوقوع الخطر، فصاحت فيه: «ويلك يا خائن! كيف قتلت الرجل وهو خادمك الأمين؟! ما أسهل القتل عليك!»
وكان سعيد قد قبض على الدفة وجعل يديرها نحو الشاطئ، فلم يجبها حتى رست السفينة، فنهض إليها وتناولها بيده وقال: «اطلعي إلى البر.»
فتراجعت وقالت: «إلى أين؟ لا، لا أطلع.»
قال سعيد: «أتريدين البقاء في السفينة؟»
قالت الزهراء: «بل ألقي بنفسي في الماء، الموت خير لي من رفقتك.» واجتذبت يدها من يده، وهمت أن تلقي بنفسها في النهر فمنعها وهو يقول: «ألا تريدين أن تلاقي أخاك؟ قد وصلنا إلى مكانه وتخلصنا من التعب.»
فلما سمعت قوله عاد إليها أملها وأطاعته فنزلت إلى البر، وقد بان الفجر فالتفتت إلى ما حولها، فإذا هي في بستان في وسطه بيت كالذي كانت فيه منذ هنيهة، ورأت البغال هناك أيضا، ثم شاهدت الكلب الذي رأته بالأمس، وإذا بسعيد قد تناول المفتاح وفتح الباب، وأشار إليها أن تدخل فتحققت أنها في البيت الذي كانت فيه منذ بضع ساعات، وأن سعيدا لم يركب السفينة إلا ليغرق جوهرا في الماء، فأصبحت ترتعد من فظاعة ذلك العمل، ولما دعاها للدخول أبت، وقالت: «لا أدخل إلا إذا قلت لي أين أخي؟»
قال سعيد: «يظهر أن أخاك وسائر رجالنا فروا من هذه الديار حين بلغهم مقتل الأمير عبد الله، والغالب أنهم رجعوا إلى القيروان حيث كان موعدنا من أول الأمر، فقد اتفقنا على أننا إذا أحسسنا بالفشل ونحن في أي مكان رجعنا إلى القيروان، فما علينا الآن إلا أن نذهب إلى هناك.»
قالت الزهراء: «ألا تزال تخدعني؟ لقد انكشفت لي خيانتك، ولكن ويلاه! بعد أن ضاعت حيلتي.» قالت ذلك وجلست على الأرض وأخذت تبكي وتلطم وجهها.
فأمسكها سعيد وأراد إنهاضها وهو يقول لها: «لا تستسلمي إلى الظنون. ما أنا والله بخائن، وإنما محب عاشق. أقلعي عن هذا الجنون وتعالي معي إلى القيروان فتشاهدي أخاك، وبعد ذلك إذا شئت رجعنا به إلى قرطبة، وإلا بقينا هناك في أرغد عيش.»
قالت الزهراء: «ألا تزال تذكر الحب والغرام وقد ظهرت خيانتك؟»
فأمسك بيدها وقال: «ادخلي إلى البيت وافعلي ما شئت. لا فائدة من بقائك هنا. قومي ادخلي.»
فأطاعته ونهضت حتى دخلت البيت وعرجت إلى أقرب الغرف فوقفت إلى الحائط وهي في غاية الاضطراب.
فجثا أمامها جثو المتضرع وقال: «آه يا حسناء! والله إني أحبك، أحبك، وتحبك كل جارحة من جوارحي. قد تعرضت للأخطار واقترفت الذنوب وأتيت الفظائع طمعا في الوصول إليك، فهل يعقل أني أخونك؟ سترين مني ما ينسيك هذا العذاب. نعم إني أسأت إلى كثيرين، ولكنني فعلت ذلك في سبيل حبك، ارحمي متيما لا يطلب من الدنيا سواك.» قال ذلك في تذلل ويكاد الدمع يتناثر من عينيه وهو شاخص إليها.
الفصل الثاني والسبعون
اليأس
أما هي فكانت تسمع كلامه وهي مطرقة، فلما فرغ من قوله دفعته بيدها وقالت: «أتعترف بجرائمك وذنوبك ثم تطلب إلي أن أحبك؟! إني لا أحبك ولا أستطيع أن أحبك.»
فتلملم واعتدل في مقعده وقال: «نحن هنا وحدنا وترينني أستعطفك وأتذلل لك فلا تستبدي بي واسمعي نصحي.»
قالت الزهراء: «إن من يزعم أنه محب لا يكذب على حبيبته ولا يخونها.»
قال سعيد: «أنت حبيبتي. ومتى خنتك؟!»
قالت الزهراء: «ألم تأت بي إلى هنا لمشاهدة أخي، فأين هو؟»
قال سعيد: «قلت لك إنه رجع إلى القيروان، ودعوتك للذهاب إليه فلم تقبلي.»
قالت الزهراء: «هل يعقل فرارهم جميعا؟»
قال سعيد: «نعم، هكذا اتفقنا، أنه متى شعرنا بالفشل ننتقل إلى القيروان، فلما سمعوا بمقتل عبد الله وابن عبد البر وياسر واطلاع الناس على أمرهم فروا، وقد أخطئوا لأنهم لو انتظروا مجيئي الآن لعلموا أن عدوهم الأكبر قد مضى.»
قالت الزهراء: «من تعني؟»
قال سعيد: «أعني أكبر عدو نخاف منه ونخشى بأسه.»
قالت الزهراء: «لا أعرف أحدا تعنيه إلا أن يكون الناصر!»
قال سعيد: «هو أعني.»
فأجفلت وقالت: «ماذا تعني بأنه مضي؟»
قال سعيد: «لا تعجبي، أعني أنه مات.»
فتراجعت وصاحت: «الناصر! الناصر مات! خسئت! إن باعك أقصر من أن تناله.»
فوقف وهو يهز كتفيه ويقول: «سواء صدقت أو لم تصدقي فقد قلت لك الواقع، ومع ذلك فهو بعيد عنا، ولا شيء يمنعني مما أريده، وإذا بقيت على عنادك عمدت إلى العنف.»
فتفرست في وجهه وقالت: «لك أن تقتلني، وتستطيع أن تقذف بي في هذا الماء كما قذفت بذلك الخادم الأمين، ولكن لا يمكنك أن تحول بغضي إلى حب، وأنت قد ارتكبت ما ارتكبته حسب قولك، التماسا لحبي. إنني لا أحبك، لا أحبك، فافعل ما تشاء، اقتلني.»
فنظر إليها نظرة استغراب، وقال: «أظنك لم تفهمي مرادي. أنت إذا أقلعت عن هذا العناد وأطعتني فإنك لا تلاقين أخاك فقط، بل تعيشين عندي عيشة الملكة الآمرة الناهية.»
قالت الزهراء: «فهمت كل ما تقوله، ولكنني لا أستطيع أن أحبك. أقول ذلك مع علمي بأن موتي وحياتي بين يديك فافهم!»
قال سعيد: «يا لله! ما هذه الوقاحة؟!»
قالت الزهراء: «لا تكثر من الكلام، ليس عندي غير ما قلته لك، وإن ما تزعم أنك فعلته في سبيل حبي لا يزيدني إلا بغضا لك، وإذا خيرت بينك وبين الموت لاخترت الموت. ألا يكفيك هذا التصريح؟ اقتل ثم اقتل.» قالت ذلك وقد احمرت عيناها من البكاء والغضب، وأخذت ترتعد وقد اصطكت ركبتاها ولم تعد تستطيع الوقوف، فجلست وقد خارت قواها وأسرع تنفسها وأوشكت أن تصاب بنوبة عصبية، ثم انقلب ذلك الغضب بغتة إلى حزن، فغلب عليها البكاء، فأخذت تندب نفسها وتلطم خديها وتقول: «ويلاه يا زهراء! أين أنت يا سيدي الناصر! نصرك الله على أعدائك، وإذا علمت بموتي فاعلم أني مت على ولائك، فإني محبة لأحبائك، عدوة لأعدائك إلى آخر نسمة من حياتي. آه! آه! تبا لك يا سعيد أو يا سليمان أو كما تسمي نفسك، لقد ارتكبت آثاما كثيرة. ألم يكن الأفضل لك أن تقتل نفسك وتخلص الناس من شرك؟ من أجل هذا الحب الذي تزعمه ارتكبت هذه الآثام! أنت تكلفني أن أحبك ولا طاقة لي بذلك. دعني، أو اقتلني وليس لك مأرب ثالث.» ولما فرغت من قولها كان قد أنهكها التعب، وهي لم تنم طول الليل الماضي فضلا عن الغضب والخوف، فخارت قواها وهي لا تزال في ثوب صاحب البريد.
أما سعيد فكان يسمع توبيخها وتعنيفها وهو صابر يرقب حركاتها وسكناتها، ويتردد بين أن يبقي على المحاسنة أو يعاملها بالعنف، فلما رآها استلقت منهوكة القوى وقد امتقع لونها وكاد يغمى عليها، جلس أمامها ومد يده إلى رأسها وقد اعتزم أن يمررها على جبينها لعله يؤثر عليها بكهربائيته أو مغناطيسيته، وحين لمست يده جبينها نهضت مذعورة كأنها وخزت بحربة ونفرت منه. فنهض وقد أخذه الغضب وجرى في أثرها وهو يحاول أن يلف خصرها بذراعيه، وهي تتحاشى أن يمسها فأفلتت منه، وقد تدلى شعرها على كتفيها، وهمت أن تخرج من البيت إلى البستان، فسبقها وأغلق الباب فأصبحت سجينة، ولكنها أحست بقوة لم تعهدها في نفسها من قبل، والتفتت إلى سعيد وقالت: «أهذا ما تزعمه من حبك، تثب علي كالوحش الكاسر، والله إنك لن تأخذني إلا جثة هامدة.»
فتراجع وقال: «كم توسلت إليك وتذللت لك فلم تقبلي، وهل يليق بي - وأنا لا يعجزني قلب الممالك وتفريق الجنود - أن أعجز عن إخضاعك؟»
قالت الزهراء: «قلت لك إن كل ما في وسعك أن تقتلني، هذا كل ما يمكنك أن تفعله معي، والقتل لا يهمني ، اقتلني كما قتلت سواي وعش هنيئا. ماذا ينجيك من غضب أمير المؤمنين؟! إلى أين تفر من سيف نقمته؟!»
فضحك ضحكة ضج لها المكان وقال: «قلت لك إن الناصر مضى إلى حال سبيله.»
فصاحت: «إن يدك أقصر من أن تناله.»
قال سعيد: «يظهر أنك لم تعرفي من أنا، وسوف تعلمين.»
الفصل الثالث والسبعون
شد الوثاق
قال ذلك وأراد أن يتحول عنها ليتناول شيئا في غرفة أخرى، فسمع نباح الكلب، وكان ينبح إذا استغرب قادما، فأجفل سعيد وأنصت، وإذا بدبدبة خيول قد تعالت، فتركته الزهراء مشتغلا بالإنصات، وفتحت الباب ووثبت إلى الخارج، فتعثرت بالعتبة ووقعت، لكنها عادت فنهضت، وإذا بعشرات من الفرسان قد ملئوا البستان وفي مقدمتهم فارسان عرفت منهما ساهرا، فصاحت: «ساهر! ساهر! لله درك! عليكم بهذا الخائن أحيطوا بالمنزل واحذروا أن يفلت منكم.»
فهرولوا بأفراسهم حول المنزل وجاء بعضهم من ناحية الباب، فخرج إليهم سعيد وقد تبدلت سحنته وجحظت عيناه وقال لهم: «لا تزعجوا أنفسكم، ها أنا بين أيديكم لا أحمل سيفا ولا سكينا، ولا تخشوا فراري.» قال ذلك بهدوء وسكينة كأن شيئا لم يكن.
فتقدم إليه ساهر وخلفه جماعة قد صوبوا سيوفهم إلى سعيد وقال له ساهر: «تسمح لي أن أشد وثاقك؟»
فمد يديه وقال: «افعل.»
فأخذوا يشدون وثاقه وهو ينظر إلى ما بين يديه، فرأى عابدة بينهم فقال: «عابدة، وأنت أيضا؟»
فلم تجبه، ولكنها تقدمت إلى الزهراء وأخذت تخفف عنها، فسألتها الزهراء عن الناصر فقالت: «هو بخير.» فقالت عابدة: «ولكن كيف جئت مع هذا اللعين؟»
قالت الزهراء: «أتيت معه لأرى أخي.»
قالت عابدة: «ومن أخوك؟»
قالت الزهراء: «يسمونه صاحب النقمة.»
قالت عابدة: «صاحب النقمة أخوك؟ ألم تريه؟»
قالت الزهراء: «لم أجده. هل تعرفين مكانه؟»
قالت عابدة: «نعم، أعرفه.»
فأشارت إليها أن تنتظر، والتفتت إلى ساهر، وكان قد شد وثاق سعيد وسلمه إلى أربعة يحرسونه، وجاء في الحال إلى الزهراء ووقف متأدبا: «هل تأمر سيدتي بشيء، إني عبدك المطيع.»
قالت الزهراء: «بورك فيك من شهم، لقد جئتني بالفرج في وقت الضيق . جزاك الله خيرا.»
فابتسم وقال: «إن هذه الكلمة من فمك تساوي عندي كل أموال العالم، ولا تنسي أن لعابدة الفضل الأكبر لأنها دلتنا على هذا المكان، ولولاها لم نعمل شيئا.»
فالتفتت الزهراء إلى عابدة وضمتها إلى صدرها وقالت: «لن أنسى فضلك يا عزيزتي، ويزداد ذلك الفضل إذا استطعت أن تهديني إلى أخي.»
قالت عابدة: «أنا أعرف مخبأه، لكنني لا أستطيع أن أدعوه، فإنه لا يصدقني، بل إنه قد يفتك بي.»
فقال ساهر: «أنا أسير إليه، قولي أين هو مكانه.»
قالت عابدة: «ولا أنت فإنه يسيء الظن بكل رجال الناصر، وكل أهل الأندلس، وخصوصا الآن بعد ذيوع خبر مقتل الأمير عبد الله.»
قال ساهر: «ما الحيلة إذن؟»
قالت عابدة: «الحيلة أن نأخذ إليه كتابا أو علامة من سعيد فإنه يأتي سريعا لأنه يحترمه احترام العبادة.»
فصاحت الزهراء: «بالله أين هو؟ خذيني إليه.»
فقال ساهر: «لا أظن أن سعيدا يعطينا كتابا أو علامة.»
قالت عابدة: «أنا أكلمه. دعوني أدخل إليه وحدي.»
قالت ذلك ودخلت عليه وهو مشدود الوثاق في إحدى غرف ذلك البيت، وكان جالسا وقد قطب حاجبيه وأطرق كأنه يفكر، وظهر الاهتمام في عينيه، فلما لمح ظلها رفع بصره إليها فلم يتمالك عن إرسال دمعتين، فلما رأته يبكي خفق قلبها وتذكرت ما كان له من المنزلة الرفيعة في نظرها، وكيف قضت عدة سنوات وهي ترى السعادة في رؤيته والموت والحياة بين شفتيه، فتأثرت لمنظره وغلب عليها الحنان فقالت: «يسوءني يا سيدي أن أراك في هذه الحال، وأنا الجانية عليك لأني دللتهم على مكانك، ولكنك أذهبت رشدي بأعمالك.»
فقطع كلامها قائلا: «لا ذنب لك يا عابدة، وإنما الذنب ذنبي. أنا لا أنسى ما سببته من ألوان الشقاء لك وكم عرضت حياتك للخطر. أعرف هذا كله؛ ولذلك فلا لوم عليك مهما فعلت، وسيسوقونني إلى الخليفة أو غيره وسيقتلني طبعا، وهذا كله لا يهمني لأن الحياة لم تعد تحلو لي.»
وسكت هنيهة ثم قال: «ماذا فعلت بالناصر؟ هل أصابه سوء؟»
قالت عابدة : «لا؛ لأني لم أستطع تنفيذ أمرك.»
فتنهد تنهدا عميقا وقال: «الحمد لله، أشعر الآن يا عابدة كأني صحوت من نوم أو أفقت من إغماء، فإذا كنت قد تعمدت نجاة الخليفة فإن لك الشكر.»
قالت عابدة: «الحق يقال إني لم أتعمد ذلك قط.» وقصت عليه ما وقع باختصار، ثم قالت: «لعل الخليفة إذا تأكد من رجوعك وتوبتك يعفو عنك ليستفيد من علمك ودهائك.»
فهز رأسه هزة الإنكار والاشمئزاز وقال: «لا، لا أحب البقاء بعد الآن؛ لأن نفسي لا ترضى بأقل من منصب الملك أو الخلافة. أما وقد تعذر ذلك فالقبر أولى، وقد خدعتك وخدعت سواك، وفتكت وغدرت رغبة في ذلك المطمع فأسقط في يدي، والآن هل أستطيع أن أخدمك في شيء تريدينه.»
قالت عابدة: «لا أريد شيئا. سوى أن الزهراء، وهذه قد لحقها منك عذاب شديد (فصر على أسنانه عند سماع اسمها) فإذا كنت تشعر بذلك، فأكرمها بإيصال أخيها إليها، وأنا أعرف مكانه، ولكنني أعلم أنه لا يصدق سواك ولا يثق بغيرك، فأرسل إليه علامة منك أو كتابا كي يحضر إلى هنا، ومتى جاء كنت وسيلة في تعريفه إلى أخته، وهذه تكفر عن كل سيئاتك معها.»
قال سعيد: «أفعل ذلك. مدي يدك إلى هذا الخاتم، تناوليه من أصبعي، واذهبي إلى المنزل الذي تعرفينه واطلبي سالما، ولا تسمه صاحب النقمة، فمتى جاءك فأعطه هذا الخاتم واسأليه ما شئت.»
فمدت يدها وأخرجت الخاتم من يده، وأحست وهي تخرجه ببرودة أطرافه فتجاهلت.
ولما أرادت الخروج ناداها فعادت، فقال لها: «أنت تعلمين أن القوم الذين أغريناهم على الثورة لا يزالون يجتمعون هناك، وتعلمين أن الذنب في ذلك ذنبي أنا، فهؤلاء لا تزال الدولة تعدهم أعداءها، فإذا عرفت مكانهم فربما فتك الجنود بهم، فتزيدين ذنبا آخر إلى ذنوبي. لذلك ينبغي أن تذهبي أنت وحدك وتحتفظي بهذا السر، وتأتيني بصاحب النقمة وحده وأنا أرشده إلى الحقيقة، وهذا المفتاح في جيبي لتفتحي به الباب الخارجي، وهو يعود فيحل تلك الجمعية ولا يعرف أحد بها، ولا تجدين الآن منهم أحدا هناك كما تعلمين.»
قالت: «حسنا»، وأخرجت المفتاح ورجعت إلى الزهراء وقالت لها: «هذه هي العلامة، سأذهب بها لآتيكم بسالم، ومتى جاء فإن سعيدا يتمم التعارف.»
الفصل الرابع والسبعون
صاحب النقمة
تنكرت عابدة في ملابس رجل، ومشت حتى دخلت ذلك الدهليز، واتصلت منه إلى الباب وطرقته الطرقة التي عرفتها، فخرج إليها شاب ملثم الوجه وقال: «من الطارق؟»
فقالت عابدة: «افتح وخذ هذه الرسالة»، ففتح كوة صغيرة في الباب، فمدت الخاتم منها، فلما رآه فتح الباب ودعاها للدخول وهو يحسبها رجلا، فقالت: «إن صاحب هذا الخاتم يدعوك إليه الآن. إنه على مقربة من هذا المكان.»
قال صاحب النقمة: «هل هو في ضيق؟»
قالت عابدة: «لا، ولكنه يحب أن يراك وحدك.»
فدخل وغير ثيابه وخرج معها حتى تجاوز الدهليز، وهو يتفرس فيها لأنه طرب لرخامة صوتها، وشعر بأنها امرأة، فقضى مسافة الطريق وهو يوجه إليها أسئلة، ولو بغير باعث ليسمع صوتها، وكلما سمعه زاد استئناسا به، وقد تذكر أنه سمعه قبلا وطرق باب قلبه.
وبعد قليل اقتربا من البستان فسمع صهيل الأفراس، وعلم أنها أفراس صقالبة الناصر، فوقف وقال لها: «أخشى أن يكون في الأمر دسيسة يا رجل، أو يا امرأة!»
قالت عابدة: «كلا يا سيدي، وسترى ذلك حال وصولك.»
قال صاحب النقمة: «لا، لن أخطو خطوة واحدة من هذا المكان قبل أن ترفعي عنك هذا القناع.»
قالت عابدة: «أخشى أن تعرفني»، قالت ذلك وأزاحت اللثام.
فلما وقع نظره عليها عرفها فصاح: «عابدة! أين سعيد؟ ماذا أرى؟»
قالت عابدة: «لا تخف يا سالم. أما وقد عرفتني فلم يبق باعث على الحذر، وعما قليل ترى سعيدا وهو يقص عليك خبرا جديدا.»
وكان سالم قد خرج وعليه عباءة وتحتها السيف والخنجر، وكان طويل القامة عظيم الهيبة جميل الخلقة، يكاد الشرر يتطاير من عينيه، لا يهاب عشر رجال إذا لقيهم وحده، وقد تعود الضرب والطعن، فلما سمع قول عابدة وهو يعلم منزلتها عند سعيد ويعرف غيرتها على أحزابه، مشى معها حتى وصلا إلى باب البستان ، وكانت الزهراء قد اختبأت في إحدى الغرف ريثما يقابل أخوها سعيدا ويمهد السبيل للتعارف.
فمشت عابدة بين يدي سالم في البستان، ومشى هو في أثرها مشية البطل الباسل، لا يبالي بما هناك من الخيول حتى وصل إلى باب البيت فسبقته عابدة إلى سعيد وأنبأته بمجيئه، وكلفته بأن يخاطبه ليستأنس به لئلا يشك في الأمر، فصاح من الداخل: «سالم!»
فلما سمع صوته وثب إليه وهو يقول: «لبيك يا سيدي»، وما عتم أن رآه موثقا على تلك الصورة حتى صاح: «ماذا أرى؟» واستل سيفه وقال: «تفديك روحي، من أوثقك؟»
فأجابه سعيد بهدوء وسكينة: «تمهل يا بني، نحن في حال آخر، أنا أوثقت نفسي، وإنما دعوتك لأعترف لك أني خدعتك.»
فاستغرب سالم قوله وقال: «خدعتني! معاذ الله.»
قال وهو يغص بريقه: «نعم خدعتك وخدعت آخرين، ما لنا ولذلك! أحب أن أنصحك نصيحة الوالد، اعلم يا سالم أن المشروع الذي قمنا من أجله قد فشل، ولعلك عرفت ذلك من مقتل الأمير عبد الله ورفيقه لأنهم اتهموا بالانتماء إلينا، والصواب الآن هو الرجوع عن هذا الأمر.»
فصاح: «نرجع عنه؟ أنا لا أرجع؛ خصوصا بعد أن جاهر ذلك الخليفة برغبته في القصاص مني، فقد بلغني أنه كتب ذلك على اللوح الذي أعلن فيه تنفيذ حكم الإعدام.»
قال سعيد: «نعم فعل، ولكن لا فائدة من مقاومته، وليس من الحكمة مقاومته عبثا، فالرجوع إلى الصواب أولى، أخبر بذلك سائر الرفاق.»
قال سالم: «لا حاجة إلى إخبارهم، فقد تفرقوا منذ أمس خوفا على أنفسهم، بعد اطلاعهم على ذلك الخبر.»
قال سعيد: «وأنت؟»
قال سالم: «كنت عازما على الثبات والمثابرة على السعي في هذا السبيل عملا بما بثثته في من الأنفة وطلب الحق، ولكن ...»
قال سعيد: «لقد قلت لك رأيي في هذا الشأن.»
قال سالم: «وأنت إلى أين ذاهب بهذا الوثاق؟»
قال سعيد: «إني سأساق إلى الخليفة ليحاكمني.»
قال سالم: «وكيف تقبل ذلك؟ دعني أنجيك من الآن بحد هذا الحسام.»
قال سعيد: «لا تفعل.»
قال سالم: «أذهب معك للمحاكمة أو القتل، ولا أتخلى عنك.»
قال سعيد: «تأتي معي، ولكن لتكون سعيدا صاحب القول الفصل والكلمة النافذة في بلاط الخليفة.»
فدهش لهذا القول ولم يفهمه فقال: «ماذا تعني؟ إن الناصر لا يكاد بصره يقع علي حتى يأمر بقتلي؛ لأني كنت أكثر أعدائه مجاهرة بعداوته.»
قال سعيد: «نعم، ولكن لك شفيعا لا ترد شفاعته.»
قال سالم: «من هو ذلك الشفيع إن لم يكن أنت؟»
قال سعيد: «ألا تذكر أختك حسناء؟»
قال سالم: «دعني من ذكراها، فقد مضت عدة أعوام لم أذكر اسمها، وإن كانت صورتها لا تبرح ذهني. ما الذي بعث إلى ذكراها الآن؟»
قال سعيد: «لأنها ستكون شفيعة لك عند الخليفة.»
فصاح سالم قائلا: «أختي حسناء! هل هي على قيد الحياة؟ أين هي؟ أم أنت تعني شيئا آخر.»
قال سعيد: «أختك حسناء على قيد الحياة، وهي الآن صاحبة المقام الأول عند الناصر.»
الفصل الخامس والسبعون
اللقاء
فأطرق سالم وهو يفكر فيما سمعه ولا يصدقه. ثم رفع بصره إلى سعيد وقال: «اصدقني الخبر يا سيدي، فقد فهمت منك مرارا أنها ماتت.»
قال سعيد: «نعم قلت لك هذا؛ ولذلك أعترف لك الآن أني خدعتك، فإن أختك لا تزال على قيد الحياة، وهي أقرب الناس إلى الناصر.»
قال سالم: «يا للعجب! ماذا أسمع؟ كيف غاب عني هذا الأمر كل هذه الأعوام وأنا على مقربة منها؟»
قال سعيد: «لأنك لا تعرف اسمها الجديد، فكما غيرت اسمك من سالم إلى صاحب النقمة غيرت هي اسمها من حسناء إلى الزهراء.»
فصرخ وقد دهش وقال: «الزهراء! الزهراء حظية الناصر أختي! ماذا تقول؟»
قال سعيد: «نعم إن الزهراء أختك، وهي تتفانى في حبك.»
قال وقد جحظت عيناه: «هل تعلم هي بوجودي؟»
قال سعيد: «كانت تحسبك ميتا حتى أمس، فأخبرتها بوجودك حيا، فهربت من بيت الخليفة وأتت معي ليلا لتراك وتنصح لك بالرجوع إلى طاعة الناصر.»
فصاح وقد أخذته الدهشة: «أين هي؟»
قال سعيد: «هي قريبة منك» وأشار بعينه إلى ذلك المكان.
قال سالم: «هي هنا الآن؟» وتلفت حوله.
وكانت الزهراء - ساعة رجوع عابدة - مستلقية في إحدى غرف البيت للراحة من عناء ذلك الليل، فدخلت عليها عابدة وحدها، فنهضت وسألتها عن سالم فقالت: «إنه سيأتي بعد قليل، فقد تركته في بيته يتأهب للمجيء.»
فقالت الزهراء: «اصدقيني، أظنك لم تجديه، أو لعله قد فر أو مات؟ قولي؟»
فقالت عابدة: «وحياتك هو حي، وسيأتي بعد قليل.»
فصدقتها وصبرت نفسها، وهي كلما سمعت حركة أو صوتا تحسب أخاها قادما، وعابدة تشاغلها ريثما يفرغ سعيد من التعريف، وإذا بالزهراء نهضت فجأة وقالت أسمع صوت أخي، هذا صوته يرن في أذني.» وهرولت نحو الباب فمشت عابدة معها، ولما دنت من الغرفة التي كان سعيد فيها سمعت كلاما فقالت: «أسمع سعيدا يتكلم، مع من؟»
قالت عابدة: «ستعلمين بعد قليل.»
قالت الزهراء: «أظنه يكلم أخي.» واقتربت من الباب، وكان مغلقا فسمعت أخاها يقول: «هي هنا الآن؟»
فعرفت صوته ففتحت الباب، وكان هو يقول ذلك ويتلفت حوله، فوقع بصره عليها وهي لا تزال بملابس صاحب البريد، فلم يعرفها. أما هي فوقفت لحظة تتعرف ملامحه وتتفرس فيه، وما عتمت أن ألقت بنفسها عليه وهي تصرخ: «أخي! أخي سالم!»
فلما سمع صوتها عرفها فضمها إليه وتعانقا، وعابدة وسعيد ينظران إليهما نظر الإشفاق، وسعيد كأنك أبدلته بسواه؛ فقد تغير قلبه وتبدلت عواطفه، وأحس بالجريمة التي كان قد أوشك أن يرتكبها، لو لم تتداركه عابدة بالجند ويقبضوا عليه، فإنه كان عازما على الفتك بها وبأخيها إذا هي لم تبادله الحب والغرام، فلما رأى تعانقهما والدموع تتساقط من عينيهما فرحا بذلك اللقاء، شعر بعظم الذنب الذي كان عازما على ارتكابه، وأحس بلذة الاحسان في هذا اللقاء؛ لأنه كان وسيلة التعارف بين الأخوين، فجعل يتأمل حركاتهما، فكانا يفترقان لحظة ريثما يتأمل أحدهما في وجه صاحبه ثم يعودان إلى العناق.
أما عابدة ففرحت لأنها كانت الوسيلة في إنقاذ الزهراء وأخيها، وسرها على الخصوص أنها لم تقتل الخليفة، ولا هو علم أنها كانت عازمة على قتله، وإن لم يكن ذلك العزم من ذنبها.
أما سالم فإنه بعد أن قبل أخته مرارا تباعد ونظر إلى ما حوله، ثم نظر إلى أخته وقال: «لا أزال أحسب أني في حلم؛ لأني كثيرا ما ضممتك في منامي وقبلتك مثل هذه القبلات، ثم أستيقظ فلا أجد أحدا.»
قالت الزهراء: «أنت في يقظة يا حبيبي، وقد تمت سعادتي الآن بلقياك.»
فقال سالم: «أليس الفضل في هذا الاجتماع لصديقنا سعيد؟»
قالت الزهراء: «نعم له فضل.» وتنهدت، فصاح سعيد فيها: «أنا أولى بهذا التنهد يا حسناء» قال ذلك وهو مغلول اليدين، فلم يستطع سالم مشاهدته على تلك الحالة فقال لأخته: «حلوا وثاق سعيد، وإذا كان له ذنب فهو لا يفر.»
فاعترضه سعيد قائلا: «لا، لا أريد أن يحل وثاقي.»
فحولت الزهراء انتباهه إلى عابدة وقالت: «إن الفضل الأكبر في هذا اللقاء حقيقة هو لهذه الأديبة اللطيفة. هل تعرفها؟»
فهز رأسه مجيبا وقال: «نعم، نعم أعرفها.»
قالت الزهراء: «وهل عرفتها قبل الآن؟»
قال سالم: «عرفتها مع سعيد الوراق. يا للعجب ماذا أرى؟ أهذا سعيد صاحب الرأي الصائب والقول الفصل؟!»
أما عابدة فقد توسمت في ملامح سالم وحركاته توددا إليها وإعجابا بها فتحرك قلبها. وكانت أول مرة تحرك قلبها لغير سعيد، فغضبت من نفسها خوفا من أن يسوقها ذلك إلى بلاء جديد، فأحبت أن تلهو عن ذلك بشيء آخر فقالت للزهراء: «هل نسيتي يا سيدتي ساهرا؟»
قالت الزهراء: «لا أنسى فضله من وجوه كثيرة. أما لقاء أخي فأنا مدينة به لك بنوع خاص.»
ثم نادت ساهرا وكان في طرف البستان مع سائر الخصيان، فأتى ووقف متأدبا فقالت له: «هذا أخي صاحب النقمة.»
فأجفل وصاح: «أخوك؟ وتقولين صاحب النقمة! أليس هو مطلب أمير المؤمنين؟ أعوذ بالله! كيف يكون أخا لأعز الناس عنده؟»
فقالت الزهراء: «وسيكون من أعز الناس عنده لأنه أخي.»
فحنى رأسه موافقا وقال: «نعم سيكون، والآن يا سيدتي ألا نعود إلى القصر؛ فإن أهله في قلق شديد لغيابك؟» قالت: «نمضي حالا.»
فخرج وأمر الصقالبة أن يتأهبوا للركوب، وأن يأخذوا سعيدا معهم تحت حراسة شديدة، وسار الجميع قاصدين القصر.
الفصل السادس والسبعون
المحاكمة
أما القصر فكان أهله في خوف لغياب الزهراء، وقد علموا بذهاب ساهر والصقالبة للتفتيش عنها، والخليفة أكثر الجميع قلقا وغضبا، ولو أخذت الزهراء وهو في ريب من إخلاصها لكان وقع المصيبة عليه أخف كثيرا. أما بعد أن ظهر له من حبها وإخلاصها في خدمته ما ظهر، فضلا عن تعقلها ورويتها، فأصبح شديد التعلق بها يفديها بأعز ما لديه.
فقضى معظم ذلك النهار وهو قلق لا يرتاح له بال، وكان يرسل الوصيف إثر الوصيف كي يراقبوا الطريق عن بعد، وصعد هو على منارة من منائر جامع الزهراء ليشرف منها على الطريق المؤدي إلى قرطبة فلم ير شيئا.
وفي الأصيل جاء البشير برجوع ساهر والصقالبة ومعهم سعيد والزهراء وعابدة ورجل آخر لم يعرفوه، فأمر أن يؤتى بهم إلى بيت المنام في قصر المؤنس، وجلس لهم مجلسه يوم جاءته عابدة وسعيد حيث البركة وعليها التماثيل الذهب وغيرها، فأدخلوا عليه أولا الزهراء وهي لا تزال بملابس صاحب البريد، فلما رآها دهش، فكشفت له عن وجهها وأكبت على يده فقبلتها، فلما عرفها صاح بها: «ويلك! ما هذا؟»
فقالت الزهراء: «هذا هو الثوب الذي تنكرت به ساعة الفرار.»
فقطب حاجبيه وقال: «ساعة الفرار؟ لماذا تفرين؟ هل رأيت مني إنكارا لحقك، وأنت أعز الناس عندي لما تأكدته من صدق مودتك وإخلاص طويتك، كيف تفرين؟»
قالت الزهراء: «فررت إلى أخ لي كنت قد فقدته، ثم بلغني أنه موجود في مكان بالأرباض فذهبت لأراه.»
قال الناصر: «وما كان أجدر أن تطلبي إحضاره فيجئك ولو كان وراء سد يأجوج.»
قالت الزهراء: «نعم أعلم ذلك، ولكني أخاف على أخي من أمير المؤمنين.»
قال الناصر: «تخافين على أخيك مني؟»
قالت الزهراء: «نعم يا سيدي، إنما الخوف منك وحدك وليس من سواك؟»
قال الناصر: «هل إلى هذا الحد تسيئين الظن بي؟ هل أكافئك على صنيعك الجميل بأذى أخيك؟»
قالت الزهراء: «أيعدني أمير المؤمنين إذا جاءه أخي وكان مذنبا أن يعفو عنه؟»
قال الناصر: «لك ذلك.»
قالت الزهراء: «ولو كان ذنبه كبيرا؟»
قال الناصر: «ماذا عسى أن يكون ذنبه نحوي؟»
قالت الزهراء: «قد يكون من الخارجين على الدولة.»
قال الناصر: «أعفو عنه إكراما لك، ولو كان صاحب النقمة.»
قالت الزهراء: «هو صاحب النقمة يا سيدي بعينه.»
فاستغرب قولها وقال: «وكيف يكون صاحب النقمة أخاك؟»
فقصت عليه حديثها عن أخيها باختصار، وما كان من أمر سعيد وكيف أحبها ولم تحبه، وما فعله إلى أن فر بها بالأمس، وكيف أنقذها ساهر وعابدة.
وكان الخليفة يسمع كلامها باستغراب ودهشة، فلما فرغت منه انجلت أشياء كثيرة لم يكن يفهمها، وتبين له أمور كثيرة تزيد ثقته بالزهراء فقال لها: «لقد عفونا عن أخيك. أين هو؟»
فأمرت أحد الغلمان أن يدعو سالما، فخرج وعاد به، فدخل سالم، وهو يمشي مشية الشجاع مع احترام، فأعجب الناصر بما في وجهه من دلائل البسالة والجمال، فأشارت إليه الزهراء أن يقبل يد الناصر ففعل ووقف، فقال له الناصر: «أنت صاحب النقمة؟ قد بلغنا خبر خروجك علينا في جملة الخارجين، فما الذي رأيتموه من الناصر حتى خرجتم عليه؟»
فخافت الزهراء أن يقول أخوها كلمة تغضب الناصر فيعود إلى الانتقام.
فقالت الزهراء: «ألم يعف أمير المؤمنين عنه؟»
قال الناصر: «عفوت، ولكنني لست أفهم ما يحمل هؤلاء على الخروج، وكان الإسلام على وشك السقوط فأنهضته، وكانت الدولة مبعثرة فجمعت شتاتها وقهرت أعداءها. ألم أرفع شأن الإسلام بعد أن كادت هيبته تذهب بما أتاه أصحاب بغداد من أسباب الضعف، فأتاني ملوك النصارى يتزلفون ويتقربون، وهادنني أكبر ملوك النصرانية وخطبوا مودتي. أليس في ذلك عز للإسلام والمسلمين؟ من استطاع ذلك من الخلفاء قبلي؟ وأنتم مع ذلك تتآمرون وتتواطئون!» وكان يقول ذلك وصوته يرتجف من الغضب حتى خافت الزهراء من غضبه، ونظرت إلى أخيها مخافة أن تبدو منه كلمة تبعث على هياج الناصر فسمعت من الخارج صوتا يقول: «لا ذنب لأحد من المتآمرين. إنما الذنب لواحد منهم.»
الفصل السابع والسبعون
موقف هائل
فعرف الخليفة صوت سعيد، فأمر بإدخاله وهو موثق اليدين، وليس على وجهه شيء من مظاهر الخوف، وإنما كانت عيناه حمراوين يكاد الشرر يتطاير منهما، فلما وقع نظر الخليفة عليه هاب منظره وأمر أن يحل وثاقه، فتقدم بعض الحراس إلى حله، ووقف بضعة منهم إلى جانبيه بالسيوف المسلولة، وأشار بدخول سائر القادمين، فدخلت عابدة، فوقفت بجانب الزهراء، ودخل ساهر ووقف متأدبا بجانب سالم، فأمر الخليفة سعيدا أن يتقدم حتى وقف في وسط القاعة، فتقدم بقدم ثابتة وجأش رابط، فقال له الناصر: «أنت سعيد الوراق صديقنا وموضع ثقتنا؟» فلم يجب.
فقال الناصر: «أهذا جزاؤنا لأننا قربناك وأكرمناك وجعلناك مستشارنا؟! تحرضنا على قتل ولدنا لأنه خرج علينا وأنت السبب في خروجه، ثم تتجاسر على الفرار بجاريتنا الزهراء من قصرنا؟ هل بعد ذلك من مسوغ للرفق بك؟ يسوءني والله أن أخسر مشيرا عاقلا حكيما مثلك، ولكن يا للعجب! كيف ارتكبت هذه الفظائع؟ كيف جعلت لهذه الدنايا سبيلا إليك فاقترفت أمورا يتنزه عنها الجهلاء وأهل الطيش، وأمورا يستحي أهل الفجور من إتيان مثلها؟ أين كانت حكمتك؟ أين كان عقلك وسداد رأيك؟ بل أين كان تدبيرك، وأنت تعلم أن فرارك بالزهراء لم يكن ليتم لك وعبد الرحمن حي؛ فإنه يملأ الأرض عليك خيلا ورجالا ويأتي بك صاغرا ذليلا، وإذا لم يكن لك شرف يعصمك عن ارتكاب الرذائل ويردعك عن خيانة من أكرمك وقدمك، ألم يكن لك عقل يدلك على الخطر الذي يهددك من هذه الجرأة؟» •••
وكان سعيد واقفا يسمع كلام الناصر، وقد وقف مستريحا ينظر إلى بيت من الشعر مطرز على ستارة من ستائر تلك القاعة، وسائر الحضور ينظرون إليه، ينتظرون ما يعتذر به عن نفسه، وكلهم يعرفون قوة حجته ورجاحة عقله، ورغم ما أساء به إليهم كانت لا تزال منزلته رفيعة في أعينهم.
أما سعيد فلما سمع سؤال الناصر عن سبب جسارته، وكيف يفر بجاريته ولا يخشى بأسه، نظر إليه وقال: «أما سوء التدبير فلا أقبل أن أوصف به، فإن تدبيري لو عرفه المولى لما وجد به عيبا. ولكن القضاء قضى بفساد ذلك التدبير لأقف هذا الموقف.»
فقال الناصر: «كأنك دبرت الوسيلة لقتلي أيضا ولم تنجح، فكيف خطر لك أن تفعل ذلك ونحن لم نقصر في إكرامك؟ وما الذي كنت تتوقعه من اقتراف تلك الجريمة؟ إنها لم تكن لتغنيك بالمال ولا لترفع منزلتك، بل قد تكون سببا في الحط من شأنك حتى عند نفسك يوم يثوب إليك رشدك، وترى أنك قتلت الأبرياء وأسأت إلى من أحسن إليك.» •••
فاعتدل سعيد في موقفه ووجه خطابه إلى الناصر باهتمام وجرأة وقال: «يعلم أمير المؤمنين أنه لم يقل لي شيئا لا أعلمه، وقد اعترف لي بسداد الرأي والحكمة والتعقل، ولكنه يسألني عما حملني على مخالفة الصواب وتعريض نفسي لذلك الخطر. لم يحملني على ذلك يا أمير المؤمنين طمع في مال؛ فإن الأموال كثيرة عندي، ولا الحياة فإني لا أرى السعادة بها. لقد ارتكبت كثيرا من الرذائل، ارتكبت الخيانة والغدر والكذب وأنا أعلم جيدا أنها رذائل، وأن مثلي يجب أن ينزه نفسه عنها. لم أرتكبها طمعا في المال أو الجاه كما قلت ولكن ...» ولما وصل إلى هنا، تغيرت سحنته وتشاغل ببلع ريقه والجميع سكوت، وقد أمسكوا أنفاسهم تشوقا لسماع ما يعتذر به سعيد عن نفسه، فلما سكت جعلوا ينظرون بعضهم إلى بعض.
أما سعيد فرفع كمه ومسح به دمعة انحدرت على خده، واستدرك فقال: «لا يظن أمير المؤمنين أني أبكي جزعا من الموت؛ إني لا أرى السعادة في الحياة، كما أني لا أراها في الجاه ولا المال.»
الفصل الثامن والسبعون
الجسارة
فاستغرب الخليفة تعبيره وتشوق لتتمة حديثه فقال: «أنا أعلم أنك لا تخاف الموت لأن أعمالك الماضية تدل على ذلك، ولكني سألتك عن سبب إقدامك على الخيانة، وأنت أعقل من أن تأتيها عن جهل، ونحو أمير المؤمنين أيضا! ألم تخش بأسه؟»
فأجابه سعيد: «إن الرذيلة التي لا يجوز ارتكابها مع أمير المؤمنين لا يجوز ارتكابها مع سائر الناس، وأستأذن الإمام الناصر بكلمة أقولها وأنا في آخر يوم من حياتي: إن المنصب الذي يشغله أمير المؤمنين إنما ساقته إليه المقادير وهو غير مخير، ولو وجد فيه سواه لبلغ إلى مثله. لا تغضب يا سيدي، لو لم تولد من بيت الخلافة وينصرك الناس على قتل الناس لم تبلغ هذا المقام، فأنت وصلت إليه على جسر من الجماجم فوق بحر من الدم، وأي فخر في ذلك؟! فلما رفعوا مقامك وبايعوك وجعلوك خليفة بنيت القصور وأكثرت من الجواري والخصيان، وأمرت الناس أن يعظموك، وقد فعلوا وهم يحسبون أن لك فضلا عليهم، والفضل لهم في صيانة دولتك والدفاع عن حياتك. ثم أنت تنكر على أحدهم جزءا صغيرا مما تحوزه لنفسك، ولا ذنب لك في ذلك؛ فإنها القاعدة التي جرى عليها الناس من قبل، ولكنها ليست هي أسباب السعادة.»
فامتعض الناصر من تلك الجسارة، لكنه تجلد وصبر عليه حلما وسعة وقال: «ربما كنت مصيبا، لكنك لم تجبنا عما حملك على تعريض نفسك، فضلا عن ارتكاب الخيانة وغيرها من الرذائل، وأنت الحكيم العاقل؟»
قال سعيد: «لست أول حكيم عاقل ارتكب الرذائل في سبيل مطلبه.»
قال الناصر: «نعم، ولكننا لم نفهم الغرض الذي حملك على ذلك.»
قال سعيد: «إن الغرض الذي حملني على هذه الرذائل من أشرف الأغراض، بل هو أشرفها جميعا لأن عليه يتوقف عمران هذا الوجود، بل هو سنة من سنن الله في خلقه، وفضيلة من أكبر الفضائل. وأما سواي فإنه يرتكب الرذائل في سبيل أغراض تخالف سنة الوجود، وقد نهى عنها الشرع والعرف. كم من رجل ارتكب الغدر والفتك والقتل التماسا لمنصب الملك أو الخلافة، وهذا المنصب نفسه مشوب بأمثال هذه الرذائل؛ لأن طالب الملك متى ناله حلل لنفسه كل محرم، وساعده الناس على التمادي في الأثرة، وصار يحسب أموال الرعايا وأنفسهم حقا له، فيبني القصور ويزخرفها بالذهب والفضة مما يجمعونه له من تعب الفقراء، ويقتني الجواري على اختلاف أنواعهن، ويتحكم في رقاب الناس وأموالهم كما يشاء، ولا يرى لسواه حقا في عشر معشار ذلك. بل ويل لمن يجرؤ على الاعتراض، ولو لم أكن على باب الآخرة لم أقل ذلك.»
فدهش الجميع لهذه الجسارة مع ما فيها من الحكمة البالغة، ولم يجسر أحد قبله على مثل هذا التصريح في حضرة خليفة شديد البأس، ولكنهم غضوا من أبصارهم تهيبا من الخليفة.
أما الناصر فظل يظهر الاستخفاف بما يسمعه، ولم يشأ أن يجعل نفسه المقصود من ذلك التعريض فقال: «صدقت، إن كثيرين من طلاب الملك لم ينالوه إلا بعد سفك الدماء، وهؤلاء إخواننا العباسيون أكبر شاهد على ذلك، وقدوتهم أبو مسلم الخراساني الذي كان يقتل على التهمة. لكنني لا أزال أنتظر أن أسمع منك السبب الذي حملك أنت على ما فعلت، ولم ألح عليك بالاستفهام إلا لأستفيد من حكمتك، فقد كنت - كما تعلم - كثير الثقة بعلمك والإعجاب بعقلك.»
الفصل التاسع والسبعون
الحب
فتنهد سعيد تنهدا عميقا وأجال بصره في الحاضرين حتى وقع نظره على الزهراء، وكانت شاخصة فيه، وقد غطت رأسها بالنقاب، وأخذ منها الإعجاب به كل مأخذ، فلما رأته ينظر إليها حولت نظرها عنه. أما هو فلما وقع نظره عليها ابتسم ابتسامة شفت عن معان كثيرة وتنهد ثانية وقال وهو يوجه كلامه إلى الناصر: «إن السبب الذي حملني على ما ارتكبته إنما هو أشرف الأسباب، بل هو الوسيلة الوحيدة لجمع شتات الناس وتأليف قلوبهم وحفظ أنواعهم، وهو الذي أمر به الشرع وأوصى به الله، وقد امتدحه الحكماء، وتغزل به الشعراء، بل هو أكبر الفضائل. إن ذلك السبب يا سيدي هو «الحب»، هذا هو الذي حملني على ارتكاب ما ارتكبته، فهل في الحب عار وقد جاء ذكره في القرآن والحديث؟! أليس هو سبب نظام الكون؟!»
فلما قال ذلك أجفلت الزهراء، وأطرقت حياء لعلمها أنه يشير إلى حبه إياها، ولم يخف غرضه على الناصر فقال له: «ولكن الله ينهى عن التعدي على نساء الآخرين.»
قال سعيد: «نعم يا سيدي، ولكن الحق الطبيعي في الحب للمحب الأول، خلافا لما هو جار في أعمال الناس، فإن القوي يفوز بما يريد والضعيف يذهب حقه هباء.»
فقال الناصر: «وإذا كان الضعيف حكيما، ألا تقضي عليه حكمته أن يخاف العقاب فيبتعد عن عرين الأسد ؟»
قال سعيد : «نعم، إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، ولكنه غلب على أمره وتمكن الحب من قلبه حتى أعمى بصيرته، وأصبح لا يرى للحياة معنى بدون الاجتماع بحبيبه، كما يعمى طالب الدنيا بزخرفها، وكما يعمى طالب السيادة فلا يرى غير مطلبه، وكما يعمى طالب الجاه فإنه يقتل ويغدر ويخون في سبيل الحصول عليه، والسيادة ظلم واستبداد تخالف الحرية الطبيعية التي منحها الخالق لبني الإنسان، وأما الحب فإنه شريعة طبيعية أمر الخالق بها، وقال في كتابه:
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ، فلا غرو إذا اعترض طلبه فتك أو قتل أو غدر، وخصوصا إذا سبق المحب سواه إلى ذلك الحبيب.»
فلما سمعت الزهراء قوله، خشيت أن يظن الخليفة أنه كان بينها وبين سعيد محبة متبادلة قبل مجيئها إليه، فاستأذنت في الكلام فأذن لها فقالت: «ولكن شرط المحبة الصحيحة أن تكون متبادلة، فإذا لم تكن كذلك بطلت فضيلتها وأصبح طلبها تعديا.»
فنظر سعيد إليها وهي تتكلم وقد ترنح لصوتها الرخيم، فلما فرغت من الكلام ظل ساكتا ينظر إليها كأنه يتوقع أن تستأنف الحديث، فلما واصلت الصمت قال: «إن الحب فضيلة مهما اعترضه أو تقلبت عليه الأحوال؛ لأنه أساس العمران، والمحبون هم الفضلاء، ولولاهم لخلت الدنيا من الرحمة والإحسان، ولولا الحب يا حسناء لكانت الحياة كالصحراء القاحلة، ماؤها أجاج وهواؤها سموم، وإنما يجعل ماءها عذبا وسمومها نسيما الحب. آه من الحب!» ولما قال ذلك شرق بريقه ثم أجهش بالبكاء، والناصر ينظر إليه ويعجب، وكان أول من شارك سعيدا بالبكاء عابدة، فإنها لم تستطع أن تغالب نفسها لما غلب على قلبها من الذكريات الماضية، وكيف كانت متعلقة القلب بسعيد وهو يضحك منها ويتخذها أداة لتحقيق هدف آخر، لكنها ظلت تشعر بالعطف عليه، فلما رأته يبكي بكت.
أما الزهراء فأجابت سعيدا قائلة: «ولكن إذا تأكد المحب أن حبيبه لا يحبه، ولا يستطيع أن يحبه، ولا سبيل للوصول إليه، أليس من الحكمة أن ينساه؟»
فتنهد سعيد وقال: «لي عقل يحل المشكلات ، ورأي يرد السيل الجارف، وعزم يهد الجبال الراسيات، وقد تغلب على كل أنواع المشاق، لم تعرض لي مشكلة إلا حللتها، ولا أردت أمرا إلا استطعت تحقيقه، إلا الحب فإنه غلبني على أمري وذهب بعزيمتي وقضى على عقلي وحكمتي.»
فقالت: «فماذا يفعل المحب إذن ولا حيلة له إلى حبيبه؟»
فمد سعيد يده إلى جيبه وقال: «إذا تأكد يأسه من حبيبه فقد تأكد أنه ميت؛ إذ لا حياة للمحبين بغير الحب، وإذا عاشوا فحياتهم هي الشقاء بعينه، فما عليهم إلا الرحيل من هذه الدنيا.» قال ذلك وأخرج ورقة ملفوفة ووجه كلامه إلى الزهراء وقال: «إني أموت فداء الحب.» والتفت إلى عابدة وقال: «سامحيني يا عابدة فقد ظلمتك كثيرا.» ونظر إلى الناصر فقال: «ليس لك عندي غير هذه الروح عقابا على جرائمي، فخذها.» والتقم ما في تلك الورقة.
الفصل الثمانون
عابدة وسالم
فعلم الناصر أنه تناول سما، فصاح فيه: «ويلك! أتقتل نفسك؟! تمهل، إني أحب بقاءك وأضن بحكيم مثلك أن يموت، قد كنت أحب أن أستبقيك، ماذا فعلت؟»
فقال: «تستبقيني لأخدمك وأموت حسرة وقد يئست من حبيبتي؟ لا حياة لي إلا بالزهراء» قال الناصر: «أهديك مئات من الجواري أجمل منها.»
قال سعيد: «الحب يا عبد الرحمن لا يستبدل، ولولا ذلك لكانت هذه - وأشار إلى عابدة - أولى الجميع بأن تكون بديلة، ولكن قلبي لا يرضى بأحد غير هذه - وأشار إلى الزهراء - فإني أحس كأنها شطر من قلبي، ولا يعيش الإنسان بنصف قلبه، فاهنأ بها، إنها جوهرة جمعت بين الصدق والإخلاص، ولكن لك وحدك فقط.»
فقال الناصر: «كيف تقتل نفسك بيدك؟!»
فقال سعيد: «هذا أفضل من أن يقتلني الجلاد.»
فصاحت عابدة: «إذا كان هذا دواء المحب إذا يئس من حبيبه فما أجدرني أن أقتل نفسي.» وأخذت تبكي، فأدركت الزهراء قصدها، فاقتربت منها وأشارت إليها أن تسكت.
أما سعيد فلم تمض لحظات حتى بدأ الألم في بطنه، واسترخى فأشار الناصر أن يحمل من ذلك المكان، وقد شق عليه أمره لأنه كان يحبه ويحترمه، ولو بقي حيا لاستخدمه في بعض أموره.
فحملوه وقد كاد يغمى عليه، وبعد قليل مات فدفنوه.
أما الناصر فبعد خروج سعيد تراجع واعتبر، وزادت الزهراء رفعة عنده وازداد حبا لها، والتفت إليها وابتسم فرآها تنظر إلى الأرض كأنها تفكر فقال: «كل ذلك جرى لأجلك!»
قالت الزهراء: «إني حقيرة لا أستحق هذه العناية، ولكن الرجل قصير العمر رحمه الله.»
قال الناصر: «نعم، إنه دلنا على فضلك وصدق مودتك، فأنت اليوم أرفع منزلة عندنا من قبل، فاطلبي ما تشائين.»
قالت الزهراء: «إن نعم مولاي متوالية على جاريته، وقد تم حظي بعفوه عن أخي هذا، وإنما أشارك هذه المسكينة في شعورها؛ لأنها قاست العذاب في أثناء مساعي ذلك الرجل الغريب، وكانت تحبه وهو لا يحبها، وهي تخدمه وهو يخادعها، فأحب أن تنال تعزية تنسيها ذلك.»
فالتفت الناصر إلى سالم وقال: «يا سالم، هل أنت متزوج؟»
قال سالم: «كلا يا سيدي.»
قال الناصر: «أتتزوج عابدة؟ إنها أديبة عاقلة.»
فأشرق وجهه وحنى رأسه وقال: «ذلك حظ كبير لي، وكيف لا أختار نصيبا اختاره لي أمير المؤمنين؟»
فأمر الناصر أن تزف عابدة إلى سالم، وأن يخصص لهما قصر يعيشان فيه في رغد وهناء.
فقالت الزهراء: «وهذا ساهر يكون في بطانة مولاي الناصر؛ فإنه أهل للمناصب الكبيرة.»
قال: «جعلناه من خاصتنا ...»
وانقضى المجلس على تلك الحال ...
Page inconnue