Abdul Rahman Al-Kawakibi
عبد الرحمن الكواكبي
Genres
رجل واحد ندبته الحوادث لرسالته ولم تندب لها أحدا غيره، فأي عجب في ذلك وهو الذي تهيأ لتلك الرسالة بالاستعداد لها والقدرة عليها والشعور بدوافعها والعجز عن إغفالها والإغضاء عنها؟ •••
وقد تجرد الكواكبي لرسالته وتفرد بها في بيئته؛ لأن هذا الاستعداد الموروث منذ القدم يسانده استعداد خاص به من فطنته وخلقه ومطالعاته وبواعثه النفسية، فلا تكفيه الفطنة وحدها؛ لأن الفطنة لا تقدم ولا تؤخر ما لم تسعدها الخلائق التي تصبر على الشدة وتقدم على المخاوف وتضطلع بتكاليف النجدة والمروءة، ولا تغنيه الفطنة والخلق بغير البواعث النفسية التي تثير الضمير وتستجيش الخاطر، وبغير البيان الذي استفاده من دراسته واطلاعه وحسن إصغائه إلى ذوي المعرفة والخبرة من صحبه، ومن المصادفات النادرة أن يجتمع ذلك الاستعداد الموروث من القدم، وهذا الاستعداد الخاص بصاحبه لأكثر من نابغ واحد في حقبة واحدة، وهو كاف لارتياد الدعوة الأولى على سنة الطبيعة من القصد في غير ضرورة للسرف والزيادة. •••
والشخصية المكونة المنذورة لرسالتها هي هذه الشخصية التي تعاونت فيها العوامل هذا التعاون بين حديث وقديم وبين خاص وعام، وعلى هذا التكوين بنيت «شخصية» الرائد الذي كتب «أم القرى» و«طبائع الاستبداد».
كان الرجل قضية حية متفقة المقدمات والنتائج.
كان شخصية قويمة جلية لا موضع فيها لغموض أو التواء.
مفتاحها إذا التمسنا المفتاح لبعض زواياها أنها «شخصية عزيز قوم يغضب لكرامته وكرامة قومه»، ولنا أن نفسر بهذا المفتاح كل سر فيها من أسرار الأعمال أو أسرار النيات.
الفصل الثاني عشر
في مصر
وصل الكواكبي إلى مصر في منتصف شهر نوفمبر سنة 1898، وتوفي بها في شهر يونيو سنة 1902، وتخلل هذه الفترة رحلتان، قال صديقه صاحب المنار عنهما: «إنه وجه همته أخيرا إلى التوسع في معرفة حال المسلمين؛ ليسعى في الإصلاح على بصيرة، فبعد اختباره التام لبلاد الدولة العلية - تركها وعربها وأكرادها وأرمنها - ثم اختباره لمصر ومعرفة حال السودان منها، ساح منذ سنتين في سواحل إفريقية الشرقية وسواحل آسيا الغربية، ثم أتم سياحته في العام الماضي فاختبر بلاد العرب التي كانت موضع أمله أتم الاختبار، فإنه دخلها من سواحل المحيط الهندي، وما زال يوغل فيها حتى دخل في بلاد سورية، واجتمع بالأمراء وشيوخ القبائل وعرف استعدادهم الحربي والأدبي، وعرف حالة البلاد الزراعية، وعرف كثيرا في معادنها حتى إنه استحضر نموذجا منها.
وقد انتهى في رحلته الأخيرة إلى كراجي في موانئ الهند، وسخر الله له في عودته سفينة حربية إيطالية حملته بتوصية من وكيل إيطاليا السياسي في مسقط، فطافت به في سواحل بلاد العرب وسواحل إفريقية الشرقية ، فتيسر له بذلك اختبار هذه البلاد اختبارا سبق به الإفرنج، وكان في نفسه رحلة أخرى يتمم بها اختباره للمسلمين، وهي الرحلة إلى بلاد الغرب، ولكن حالت دونه المنية التي تحول دون كل الأماني والعزائم ...»
Page inconnue