Abdul Rahman Al-Kawakibi
عبد الرحمن الكواكبي
Genres
من أقسى ما يصاب به الطفل في نشأته أن يفقد الأم ويغترب عن الأب وعن الجيرة التي فتح عليها عينيه من دنياه.
وقد أصيب الطفل عبد الرحمن بهذه المحن جميعا، فصلب لها عوده اللدن وهو دون العاشرة، ونما على معدن الجهاد في طبيعته قبل أوان الجهاد في عنفوان شبابه، فمن هذا الطفل الدارج من المهد نشأ ذلك الكهل الذي أقدم على مخاطر الهجرة والرحلة الطويلة على غير أمل في العودة إلى الوطن، وعلى غير أمان من الغيلة والضنك والمشقة، وهو رب أسرة وأبو أبناء وفرع أرومة تأصلت في منبتها - الذي قطع نفسه عنه - منذ مئات السنين.
تقول الأوراق الرسمية إن صاحب الترجمة ولد حوالي سنة 1848م «1265 هجرية»، ويقول ابنه الدكتور أسعد إنه ولد بعد ذلك بسنوات، وطلب تصحيح تاريخ المولد لدخول الانتخابات، وإنما كان مولده الثابت من سجلات الأسرة في سنة 1854م «1271 هجرية»، وتوفيت والدته سنة «1276 هجرية» وهو في نحو السادسة من عمره، أو هو قد ناهز العاشرة إذا أخذنا بالرواية الرسمية.
والمرجح أنه كان أصغر من سنه في الأوراق الرسمية عند وفاة والدته، فإن أباه قد أودعه حضانة خالته السيدة صفية بأنطاكية، فأقام بها إلى سنة 1382 هجرية، ثم عاد إلى حلب لدخول المدرسة الكواكبية، ولو كان قد بلغ العاشرة عند وفاة أمه لاستغنى عن الحضانة في هذه السن وصلح لدخول المدرسة الكواكبية بغير تأجيل. ولو صح تاريخ الأوراق الرسمية لكان في نحو السابعة عشرة حين عاد من أنطاكية لدخول المدرسة، وهي سن متأخرة لمن يبتدئ الدراسة في مثل أسرته.
وقد تعلم الكواكبي في مكتب أنطاكية ومدرسة حلب كل ما يتلقاه التلميذ فيهما من العلوم المدرسية، وتعلم اللغتين التركية والفارسية ومبادئ الرياضيات على الأساتذة الخصوصيين من أصدقاء أبيه، وتلقى من أبيه صفوة العلوم الدينية والأدبية التي كان يتقنها، وهو كما تقدم من معلمي الجامع الأموي وأصحاب المناصب الشرعية.
قال صاحب المنار: «إن الفقيد درس قوانين الدولة درسا دقيقا، وكان محيطا بها يكاد يكون حافظا لها، وله انتقاد عليها يدل على دقة نظره في علم الحقوق والشرائع؛ ولهذا عينته الحكومة في لجنة امتحان المحامين، ولا أعلم أنه برز في فن أو علم مخصوص فاق فيه الأقران، ولكنه تلقى ما تلقاه من كل فن بفهم وعقل، بحيث إذا أراد الاشتغال عملا أو تأليفا أو تعليما يتسنى له أن ينفع نفعا لا ينتظر من الذين صرفوا فيه أعمارهم ... على أن الفقيد لم يتعلم شيئا من علوم النفس والأخلاق والسياسة وطبائع الملل والفلسفة في مدرسة، وإنما عمدته في هذه العلوم ما طالعه منها من المؤلفات والجرائد التركية والعربية.»
ولا يخفى أن طالب العلوم السلفية لا يحتاج في عصر الكواكبي أو في العصر الحاضر إلى غير اللغة العربية للتوسع فيها غاية ما ينشده من توسع المتخصصين أو المستطلعين. أما المعارف العصرية فقد يستهين الناشئ العصري بما كان يتيسر منها للقارئ الذي يجهل اللغات الأوروبية قبل مائة سنة، ولكنه في الحقيقة محصول وافر لا يستهان به في زمانه؛ إذ كان في وسع العارف بالعربية أو التركية أن يطالع مئات من الكتب المترجمة عن اللغات الأوروبية في العلوم والآداب، وأن يطالع معها المجلات والصحف التي تكتب في هذه العلوم والآداب أو تنقلها عن ثقاتها وأعلامها، وقد تحدث الزهاوي عن نفسه فقال إنه لم يتزود من المعرفة العصرية بزاد غير مطالعاته في المجلات العربية والتركية وبعض الكتب المترجمة التي وصلت إلى يديه في بغداد، وبهذا الزاد - ولا زيادة عليه - أصبح في مقدمة الباحثين المعدودين إلى أوائل القرن العشرين، فضلا عن مكانته الشعرية وعمله في مجالس النواب.
ولا نخال أن الكواكبي فاته مرجع هام يعنيه أن يطلع عليه في موضوعات بحثه وتفكيره؛ بل لا نخال أنه ضيع فرصة يستفيد منها علما أو خبرا نافعا من زوار حلب الذين يجتمعون بمثله في مركزه ووجاهته بين قومه، وكانت حلب لا تزال في عهد نشأته مثابة الزائرين والمقيمين من فضلاء الشرق والغرب، وبينهم وكلاء الشركات التي كانت تتأسس في المدينة على طريق التجارة الهندية الشرقية قبل افتتاح قناة السويس، وبينهم فئة من الإيطاليين في إبان ثورتهم القومية، وفئة من الفرنسيين في إبان ثورتهم الدستورية، وكثير منهم مثقفون ينتمون إلى حزب من الأحزاب الثورية في بلادهم، وينقلون معهم آراء فلاسفتهم وزعمائهم وأبناء طوائفهم وجماعاتهم، ومن هؤلاء ولا شك عرف الكواكبي ما عرف عن «ألفييري» صاحب كتاب الاستبداد الذي أشار إليه في كتابه، ولا يبعد أن يكون قد انتظم معه في محفل من محافل «الكربوناري» التي ألفها ثوار إيطاليا لمنافسة الماسون الإنجليز أو الفرنسيين، وجعلوا يرحبون فيها بفضلاء الأمم الأخرى لنشر مبادئهم وتأييد دعوتهم إلى الحرية، وهي قريبة يومئذ من دعوة الثائر العربي إلى الوحدة القومية والاستقلال عن السيادة التركية.
والظاهر من سيرة الكواكبي ومن كتابته معا أنه أصاب من الثقافة القديمة والحديثة ما يرشحه لأعماله في المدينة ولرسالته في العالم العربي والعالم الإسلامي على عمومه، فلم يوكل إليه عمل من أعمال الحكومة أو المطالب الاجتماعية إلا أثبت فيها كفاية الإدارة الحسنة والنشاط المنجز والتصرف المبتكر الذي يخرج به على الأثر من جمود الوتيرة المشهور في عرف الغربيين بالروتين، ويمضي به إلى نتيجته المقصودة التي عطلها التقليد وطول الإهمال.
عمل وهو يناهز الثانية والعشرين في صحيفة «فرات» العربية التركية، التي أنشأها المؤرخ التركي الكبير أحمد جودت باشا قبل عمل الكواكبي فيها بنحو عشر سنوات، ثم أنشأ في حلب أول صحيفة عربية باسم «الشهباء» مع زميله هاشم العطار، ثم أنشأ صحيفة «الاعتدال» بعد تعطيل الشهباء لصراحتها في نقد الإدارة وتلميحها إلى وساوس السلطان عبد الحميد، فأصابها ما أصاب الشهباء بعد قليل.
Page inconnue