Abdul Rahman Al-Kawakibi
عبد الرحمن الكواكبي
Genres
وذكر آخرون في سبب عمارة حلب أن العماليق لما استولوا على البلاد الشامية وتقاسموها بينهم استوطن ملوكهم مدينة عمان ومدينة أريحا الفور، ودعاهم الناس الجبارين، وكانت قنسرين مدينة عامرة، ولم يكن يومئذ اسمها قنسرين وإنما كان اسمها صوبا ...
وقد أصاب ياقوت في ملاحظته الأولى؛ فإن لغة إبراهيم - عليه السلام - لم تكن عربية، ولم تكن العربية كما تكلمها أهلها بعد ذلك معروفة في عصره، ولكنه أصاب كذلك في ملاحظته الثانية؛ إذ خطر له التشابه بين ألفاظ اللغات واللهجات التي شاع استعمالها في بطحاء حلب قبل الميلاد بأكثر من عشرة قرون، فإن الآرامية - عربية ذلك العصر - قريبة بجميع لهجاتها إلى العربية الحديثة، وتفيد كلمة «حلبا» فيها معنى البياض، ومنه لون اللبن الحليب؛ بل يرجح الكثيرون أن اسم «صوبا» الذي ذكر ياقوت أنه كان يطلق على قنسرين؛ إنما يعني «الصهبة» التي تقرب من الشهبة في لفظها ومعناها، وكانت حلب توصف بالشهباء وتشتهر بالصفة أحيانا، فيكتفي بها من يذكرونها دون تسميتها، وورد اسم مدينة صوبا غير مرة في أسفار العهد القديم، فرجح أناس من مفسريه أنها حلب، ورجح الآخرون أنها قنسرين، ولا يبعد إطلاق الاسم أحيانا على المكانين.
على أن الأمر الثابت من وقائع التاريخ أن الآراميين سكنوا هذه البقاع قبل عهد إبراهيم عليه السلام، وأن المدينة وما جاورها كانت عربية بالمعنى الذي نبحث فيه عن أصل العربية القديم ولا نقف فيه عند تاريخها الأخير، وقد ثبت أن أسلاف الآراميين غلبوا على هذه البقاع في عهد الملك سراجون قبل الميلاد بأكثر من عشرين قرنا، ولم تكن هنالك لغة أخرى يفيد فيها الحلب معنى البياض غير الأصول العربية الأولى. (2) ومدينة عامرة
والمدينة بموقعها وقدم عهدها مدينة حل وترحال، يقيم فيها من يقيم، ويتردد عليها من يتصرفون في شئون معاشهم من أبنائها وغير أبنائها، تعددت فيها أسباب المعاش من زراعة وصناعة وتجارة فلم تنحصر في مورد واحد من هذه الموارد، وكتب رسل
Russell - وهو ممن أقاموا فيها حقبة من القرن الثامن عشر - مجلدا ضخما عن تاريخها الطبيعي، فأحصى فيها ما يندر أن يجتمع في مدينة واحدة من محاصيل الغلات والفاكهة والخضر والأبازير والرياحين، ومن أنواع الدواب والماشية والطير والسمك، ومن خامات الصناعة للملابس والأبنية ومرافق المعيشة، فصح فيها ما يوجزه الكاتب العربي حين يجمل الوصف عن أمثالها فيقول: إنها مدينة خيرات.
وتكلم عنها ملطبرون صاحب الجغرافية العالمية التي ترجمها رفاعة الطهطاوي قبيل عصر الكواكبي، فقال بأسلوبه الذي ننقله بحرفه: «ولنبحث الآن عن أشهر الأماكن مبتدئين بالقسم الذي بجوار الفرات، وهو إيالة حلب، فنقول: إن المدينة المسماة بهذا الاسم هي كما في كتاب البوزنطيا «برة» القديمة، وهي أعظم جميع المدن العثمانية في آسيا، سواء بتأدب أهلها أو بعظمها وكثرة أموالها وغناها، وظن بعضهم أن أهلها لا يزيدون عن مائة وخمسين ألف نفس، ومبانيها من الحجر النحت، كما أن طرقها السلطانية مبلطة به أيضا، ومنظرها عجيب لما فيها من أشجار السرو المظلمة الأوراق المباينة بالكلية لمنارتها البيضاء، فما أحسن اختلاط كل من الجنسين بصاحبه! وبها فابريقات القطن والحرير على حالة زاهية، وإليها تأتي القوافل العظيمة من بغداد والبصرة فتحمل إليها بضائع بلاد العجم والهند، وبالجملة مدينة حلب الشهباء ما يسميه المتأخر «تدمر» ورياضها مزروعة بالعنب والزيتون كثيرة الحنطة ...»
وملطبرون يفهم بالتقدير الذي سماه ظنا أن سكانها لا يزيدون على مائة وخمسين ألف نسمة، ولكن الرحالين والخبراء من الأوروبيين الذين أقاموا بها بين القرن السابع عشر والثامن عشر يبلغون بتعدادها نحو أربعمائة ألف نسمة، ويقول دارفيو
D’Arvieux
الذي كان قنصلا لفرنسا في المدينة بين سنة 1672 وسنة 1686: إن الطاعون أهلك من أهلها نحو مائة ألف، ولم يشعر طراق الأسواق فيها بنقص سكانها، وكان بعض المؤرخين لها يعولون في تقدير سكانها على إحصاء الموتى في الكنائس المسيحية، أو على مقادير الأطعمة اليومية التي تستنفد فيها، لاضطرارهم إلى الظن مع قلة الإحصاءات الرسمية، فراوحوا في حسابهم بين ثلاثمائة ألف وأربعمائة ألف في عامة التقديرات إلى نهاية القرن الثامن عشر، ثم تبين من الإحصاءات الأخيرة أنهم لم يخطئوا التقدير. (3) ومدينة اجتماعية
وهي مدينة يقوم عمرانها على «مجتمع ناضح» على خلاف المدن العامرة التي يقوم عمرانها على كثرة السكان، بغير اختلاف يذكر في كيانها الاجتماعي أو تركيب الطوائف التي تتألف منها المجتمعات السياسية.
Page inconnue