Nasser et la gauche égyptienne
عبد الناصر واليسار المصري
Genres
وأخيرا، فقد استخدم الأستاذ جلاب بعض العبارات البلاغية التي لا تصمد أمام أي تفكير نقدي، حين تساءل: إذا كانت التجربة الناصرية قد خربت نفس الإنسان المصري فكيف حقق الإنسان العبور في 6 أكتوبر؟ إنك تعلم ولا شك، يا أخ فيليب، أن هناك من يقولون إن الإنسان المخرب داخليا، هو الذي هزم في 5 يونيو، وأنه لم ينتصر في أكتوبر إلا لأن التخريب بدأ يزول عن نفسه. وقد لا يكون هذا التعليل بدوره صحيحا كل الصحة، وقد يكون الانتصار راجعا إلى أسباب أعمق من هذا بكثير، ولكن المهم أن من السهل الرد على كلامك بأن «الإنسان» في الحالة الأولى لم يكن هو «الإنسان» في الحالة الثانية.
أما مقال أو حوار الأستاذ نجيب محفوظ فقط أثار عنوانه دهشتي؛ إذ كان العنوان هو «نجيب محفوظ يرد على فؤاد زكريا»، على حين أن أي قارئ يدرك فورا أن العنوان المطابق لكلامه هو «نجيب محفوظ» يتفق مع فؤاد زكريا.
لأنه كان بالفعل متفقا معي في الجزء الأكبر مما قال، وعلى أية حال فالذنب في هذا ذنب «كاتب العناوين» في روز اليوسف أما نقطة الخلاف الوحيدة بينه وبيني، فكانت ما يسمى ب «رشوة الشيوعيين في العهد الناصري» وهو موضوع سأناقشه فيما بعد بالتفصيل.
على أن أغرب الردود جميعها كان رد الأستاذ أبو سيف يوسف. ونظرا إلى أن هذا الرد ينتمي كله تقريبا إلى باب المناقشات التفصيلية ولا يكاد يتضمن مبادئ عامة، فسوف أناقشه الآن بشيء من التفصيل ، حتى أعود إليه فيما بعد.
أراد الأستاذ أبو سيف يوسف، الذي اتسمت بعض أجزاء مقاله بعدوانية شديدة لا أدري لها سببا، أن يواجه مقالاتي الأخيرة بكتابات سابقة لي؛ لكي يجعل «فؤاد زكريا يرد على نفسه»، ولا شك أنه بذل جهدا خارقا في قراءة كل ما كتبت في مجلة «الفكر المعاصر» وهو أكثر بكثير من أربعين مقالا ودراسة؛ لكي يجد فيها ما يتناقض مع موقفي الأخير، ومن المؤكد أنه ظل طوال قراءته يشعر بخيبة أمل شديدة؛ لأن مواقفي كانت دائما متسقة مع نفسها، بدليل أنه لم يتوصل في النهاية إلا إلى تقديم مقالين فقط، وعلى هذين المقالين بنى كل آماله في كشف تناقضي المزعوم.
والشيء المؤلم حقا أن هذين المقالين كانا قد ظهرا بعد موت جمال عبد الناصر مباشرة، فهما مقالان كتبا في فترة الرثاء والتأبين، فهل يصح أن يحاسب أحد على ما يقوله في كلمة تأبين؟ ألا يتبع الجميع في مثل هذه الظروف قاعدة «اذكروا محاسن موتاكم»؟ وهل من الأمانة العلمية، بل والأخلاقية، أن تختار هذه المناسبة بالذات؟ وهل يمكن أن يكتب تاريخ أية تجربة في الحكم، أو يحكم على أي زعيم، من خلال كلمات الرثاء التي تقال بعد الوفاة مباشرة؟ ألا تذكر كلمات الرثاء الرائعة التي قالها عن ستالين في عام 1952م نفس أولئك الذين أدانوه في عام 1956م؟
هذا من حيث المبدأ العام، ولكنني مع هذا كله أستطيع أن أقول بثقة واطمئنان إنني، حتى في هذه الحالة، لم أبتذل فكري، ولم أخالف ما أومن به، رغم أن أحدا لا يملك أن يلومني في تلك الظروف لو كنت قد فعلت.
فقد استشهد الأستاذ أبو سيف بمقالين؛ أحدهما ظهر في عدد أكتوبر 1970م بعنوان «الكل في واحد»، والثاني ظهر في الشهر التالي بعنوان: «كلمة عن المستقبل». ولنترك المقال الأول مؤقتا ونتحدث عن المقال الثاني.
ففي هذا المقال، وبرغم كل الظروف التي أحاطت به، قلت (وأنا أكتفي هنا بالعبارات التي استشهد بها الأستاذ أبو سيف نفسه) أنه رغم كل محاولات تشويه الاشتراكية، فإن الجميع أصبحوا ينادون ولو بأطراف اللسان عند البعض، بالشعارات الاشتراكية، وعبارة «ولو بأطراف اللسان» تعبر بوضوح عن تحفظ شديد، وفيها معنى لا يمكن أن يخفى عن القارئ الذكي، فضلا عن أن استخدام تعبير «الشعارات الاشتراكية» يتمشى تماما مع ما أقوله الآن، في عام 1975م من أننا لم نشهد من الاشتراكية في التجربة الناصرية إلا شعاراتها.
وفي موضع آخر قلت: «أما اليوم فإن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية هي السياسة الرسمية للدولة.» وعبارة السياسة الرسمية تتضمن تفرقة بين ما يعلن على المستوى الرسمي وما يتم على مستوى التطبيق الفعلي، فأنا لم أقل إن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية تحققتا بالفعل، بل قلت إنها أصبحت سياسة رسمية، ومعلنة، وهذا في ذاته يعد تقدما بالقياس إلى ما سبق، ولكن المشكلة الكبرى، والمعضلة التي لم تحلها التجربة الناصرية، هي كيف تتحول السياسة المعلنة رسميا إلى واقع فعلي.
Page inconnue