Nasser et la gauche égyptienne
عبد الناصر واليسار المصري
Genres
قارن هذه الحالات المخففة التي كانت أقصى ما استطاع مكرم عبيد أن يجمعه (والتي بالغ في بعضها دون شك)، بما حدث بعد ذلك من استثناءات ومن استغلال نفوذ، وستجد في ضوء هذه المقارنة أن الكتاب الأسود قد أصبح ناصع البياض.
ولكن الأخطر من حالات الانحراف ذاتها، هو رد فعل الناس إزاءها: فبقدر ما استنكروها، وهي قليلة ومخففة، ومتعلقة بأشخاص في قمة الحكم، أصبحوا بعد ذلك يقبلونها بوصفها شيئا عاديا، ومألوفا على الرغم من تكاثرها وتكاثفها الشديد، وعلى الرغم من أن كثيرا من مرتكبيها كانوا نكرات بلا وزن، هذا الإحساس المتبلد، الذي لم يعد يستنكر الظلم، أو يسعى إلى محاربته، هو أخطر آفة تصيب الأمة، وهو الخطر الحقيقي في مستقبلها.
ولكي تبرر التجربة الناصرية أمثال هذه الانحرافات التي لم يكن هناك مفر من أن تتسرب أنباؤها من آن لآخر، أطلقت شعار «من لا يعمل لا يخطئ» وكان المقصود من الشعار أن هناك عملا وجهدا وبناء متصلا، وأن من الطبيعي وسط هذا العمل المستمر أن تحدث أخطاء، وأننا كنا نستطيع أن نتجنب الخطأ بألا نعمل ولا نبذل جهدا، ولكن من الأفضل، بطبيعة الحال، أن يعمل المرء ويخطئ بدلا من ألا يعمل ولا يخطئ وبقدر ما كان الشعار براقا، وانخدع به الكثيرون، فإني أعده واحدا من أخطر الشعارات التي أضرت بحياتنا وقيمنا ومعاييرنا الأخلاقية.
ذلك لأن الشعار يرتكب مغالطة كبرى في كلمة «الخطأ» إذ إن نوع الخطأ الذي يمكن أن يجعل لهذا الشعار معنى مقبولا بالمقاييس الخلقية السليمة، هو ذلك الخطأ غير المقصود، الذي يرتكبه المرء رغما عنه من فرط ما يبذله من جهد، أما الخطأ الذي كان هذا الشعار يهدف إلى تبريره والدفاع عنه، فكان خطأ مقصودا ومتعمدا، ارتكب بروية وتفكير وعن سبق إصرار وترصد، يرمي إلى إكساب مرتكبه مغانم لا يستحقها، من قوت شعب فقير مطحون.
مثل هذا الخطأ ليس من النوع الذي لا بد أن يقع فيه المرء في زحام العمل، بل إن من يخلص حقيقة في عمله هو أبعد الناس عن ارتكابه. إنه بالاختصار، ليس خطأ، بل جريمة وسرقة. ومن يعمل من أجل بلاده يستحيل أن يرتكب أمثال هذه الموبقات. ويكفي، لكي ندلل عن خطورة هذا الشعار، أن نترجمه إلى معناه الحقيقي، فيصبح «من لا يعمل لا يسرق»، «من لا يعمل لا يأكل قوت الشعب» والحق أن مجرد التفكير في إطلاق هذا الشعار هو في ذاته عمل يدل على استعداد كامل للانحراف، ومن عجائب الدنيا أن يطلق شعار كهذا في عهد اشتراكي، وأن يبتلعه اليساريون ويسكتوا عنه.
الوجه السلبي والوجه الإيجابي
إن للنظم التقدمية مؤشرات معروفة تدل - دون حاجة إلى مجهود - على أنها حققت أهدافها أو سارت في طريق تحقيقها بجدية ومن هذه المؤشرات القضاء على الأمية، وانخفاض معدلات الانحراف بأنواعه، ونهوض التعليم، وارتفاع مستوى الصحة العامة. وأخشى أن أقول إننا لو طبقنا هذه المعايير على التجربة الناصرية لكان من الصعب أن ندرجها ضمن النظم التقدمية. فالأمية قد ظلت نسبتها على ما هي عليه، مع أن البلاد الاشتراكية - بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة - اتخذت من محو الأمية هدفا من أوائل أهدافها، وتمكنت فعلا من تحقيقه دون جهد كبير. وإنا جميعا لنعلم، ويعلم اليساريون بوجه خاص، أن اقتراحات كثيرة قد قدمت في هذا الصدد، تستهدف الإفادة من تجارب المجتمعات الأخرى في محو الأمية، مع مراعاة ظروفنا المحلية. وأن الكثيرين قد رددوا إلى حد الإملال أن القضاء على هذه الوصمة واجب مقدس على الدولة، وعلى التنظيم السياسي بوجه خاص غير أن الاتحاد الاشتراكي ظل خارج الموضوع كله، وكأن الأمر لا يعنيه من قريب أو بعيد؛ لأنه كان بطبيعة الحال مشغولا بما هو «أهم».
أما التعليم فإن التوسع الكمي الهائل فيه - وهو عنصر إيجابي بلا شك - قد اقترن بتدهور كيفي رهيب أصبح يشكل بالفعل خطرا على مستقبل هذه الأمة. وأما الانحرافات، فإنا لم نسمع مثلا أن إدمان المخدرات قد توقف، أو تضاءلت نسبته بل على العكس من ذلك ازداد استفحالا برغم تشديد العقوبات. وبقدر ما أعلم فإن قيام نظام اشتراكي حقيقي في أي مجتمع يؤدي إلى اختفاء ظاهرة إدمان المخدرات، أو تناقص معدلها إلى حد ملحوظ؛ لأن الإدمان هروب من واقع قاس وبحث عن الأمان وسط ضباب الأوهام، والمجتمع الاشتراكي يقدم لأفراده واقعا أفضل، ويكفل لهم الأمان وزوال الهموم المرتبطة بوسائل العيش.
ولست أود أن أتحدث عن تدهور الصحة العامة، وعجز الفقير عن أن يجد العلاج ومهزلة الوحدات المجمعة، فتلك كلها أوجاع يعرفها الجميع، وتعاني منها الأغلبية الساحقة.
هذه كلها سلبيات لم يخترعها أحد، ولا يوجد فيها أدنى نصيب للمبالغة، وإنما هي تعبير صريح عن واقع موضوعي ... ولا جدال في أن من حق المدافعين عن التجربة الناصرية أن يؤكدوا أن صورة الواقع الموضوعي لا تكتمل إلا إذا أضيفت إليها الإيجابيات، ولكن مثلما يتهم هؤلاء المدافعون خصومهم بأنهم لا يكشفون إلا عن وجه واحد للصورة؛ هو الوجه السلبي، فإن خصومهم يتهمونهم - عن حق - بأنهم لا يكشفون بدورهم إلا عن الوجه الإيجابي لتلك الصورة، متغافلين تماما عن وجهها السلبي الذي يشكل حقيقة لا جدال فيها.
Page inconnue