وجلس الأمين وصاحباه في انتظار المغنيات، فإذا هم يسمعون ضرب العود على نغم مطرب وصوت رخيم، ثم ظهرت مغنية صفراء ليست من الجمال في شيء؛ لأنهم لم يكونوا يعلمون الجواري البيض الغناء بعد، ومشت وهي تضرب ضربا مسكرا وتغني بصوت رخيم، حتى أقبلت وفي أثرها أربع جوار يحملن العيدان يرقصن على توقيعها. فما سمع الأمين الغناء حتى صاح: «إلى بصاحب الشراب.» فجاء رجل هو رئيس السقاة فأخذ يدير أمر الساقين، وأرسل بعض الغلمان إلى الأمين بقدح دفعه إليه فشربه، وأمر للفضل وجعفر فسقاهما، فتناولا القدحين ولم يشربا، وإنما تظاهرا بالشرب مسايرة للأمين. أما الجواري فجلسن على مقعد من الوسائد معد لهن في أحد جوانب المصطبة، وبعد أن دارت الكئوس وطرب الأمين قال: «أين الحسن بن هانئ؟ أين أبو نواس؟»
فقال رئيس الخصيان: «إنه في دار الضيافة يا مولاي.»
فقال: «إلي به الآن.»
فذهب لاستدعائه فأرجعه الأمين قائلا: «احذر أن يدخل علي بغير ثياب المنادمة.»
فأشار مطيعا بانحناء الرأس وخرج، وما لبث أن عاد وهو يقول: «إن أبا نواس بالباب.»
فقال وقد أخذته هزة الطرب: «يدخل.»
فدخل أبو نواس، وكان جميل الصورة. وبالرغم من أنه جاوز الأربعين من عمره، فقد كان الجمال لا يزال ظاهرا في محياه، وغلبت عليه ملامح الأهوازيين؛ لأن أمه منهم، وأرخى لحيته. وكانت خفيفة وقد وخطها الشيب قليلا، وكان أزرق العينين تتجلى فيهما الدعابة والذكاء معا. وعلى رأسه بدل القلنسوة أو العمامة قبعة (طاقية) حمراء اللون، وقد تزمل بثوب من ثياب المنادمة شديد الصفرة يتضوع الزعفران منه. فلما أقبل صاح الأمين به: «أهلا بشاعرنا. إن هذا المجلس لا يحلو بلا شاعر، والشعراء زينة مجالس الغناء.»
فانحنى أبو نواس ووقف، فأشار إليه أن يجلس بجانب الجواري المغنيات، وأشار إلى أحد الغلمان فقدم له وسادة جلس عليها. فتذكر الفضل أبا العتاهية، وأن هذا وقته - وكان قد أسر إليه أمرا حينما فارقه وخشي أن يكون قد نسيه - فأخذ يفكر فيه وهو يتشاغل بما يراه ويسمعه من أسباب اللهو، ويظهر التهيب في مجلس ولي العهد وفي نفسه أمور دفعه إليها جاره جعفر بن الهادي. واغتنم جعفر فرصة انشغال الأمين بسماع الغناء وسأل الفضل عن الجواري اللواتي ابتاعهن ومتى يصلن، فأجابه بضم أنامله جميعا - وهي شارة الانتظار - كأنه يقول: «إنهن يصلن قريبا.» ثم التفت إلى أبي نواس وقال له: «ألا تلقي من أقوالك شيئا يغنينه فيطرب ولي العهد؟»
فلما سمع الأمين قوله قال وقد لعبت الخمر برأسه: «لا، لا يقول شيئا قبل أن يشرب رطلا.» وأشار إلى الساقي فملأ رطلا ودفعه إلى أبي نواس فتناوله وشربه دفعة واحدة، ورده إلى الساقي وأشار برأسه أن: «هات أيضا.»
الفصل السابع والعشرون
Page inconnue