قال: «سننزلك وراءه بالقرب من الجسر.»
قال: «حسنا.» وعاد إلى التفكير في تدبير ما ينبغي أن يقوله لفنحاس؛ صاحب دار الرقيق، إذا لقيه، وأخذ يعد نفسه للمسير على قدميه المسافة الباقية - وما هي بقليلة - وود لو أن هذا الجسر مفتوح مثل الجسر السفلي ليتم سفره بالسفينة، فأصلح عمامته، وشد منطقته فوق القباء، وتزمل بالعباءة، حتى إذا دنت السفينة من الشاطئ الغربي ألقوا له خشبة يعبر عليها، وهو يثني على الربان لحسن وفادته، وذهنه لا يزال عالقا بما شاهده هناك. ولكن سروره بما كان يأمل فيه من الكسب أنساه كل شيء.
الفصل الرابع
عتبة
فلما وطئ الشاطئ سار مهرولا نحو الشمال حتى قطع شارع باب خراسان، ودخل في شارع دار الرقيق، فرأى الحوانيت قد أغلق معظمها، والأزقة لا تزال مزدحمة بعابري السبيل، فحدثته نفسه أن يكتري حمارا يركبه، ولكن غلب عليه البخل فظل ماشيا وهو يطيل خطواته حتى أقبل على دار فنحاس، وهي قصر كبير؛ لأن الرجل كان من أهل اليسار والثروة بما كان يكتسبه من تجارة الرقيق، وكان أكثر بيعه للخلفاء أو لأولادهم، فإذا وقف على جارية جميلة أو غلام جميل أنفذ بعض السماسرة إلى دار الخليفة أو الأمير أو غيرهما يسعون في ترويج تلك السلع. وكثيرا ما يكون الوسيط بالسمسرة بعض المقربين من بطانة الخليفة، أو ولي العهد ممن يحبون الكسب من هذا السبيل، وخاصة الشعراء والمغنين. ولم تكن هذه أول مرة اكتسب أبو العتاهية فيها مالا بالسمسرة.
فلما أطل أبو العتاهية على قصر فنحاس انتبه لنفسه وقد مضى هزيع من الليل، فخشي أن يكون الرجل قد ذهب إلى الفراش؛ لأنه قلما يطيل السهر؛ إذ لم يكن مغرما بالسماع أو مجالس الشراب، وإنما همه أن يروج سلعته بين أهل اللهو، ويسره أن يبالغوا في الترف والقصف لتزداد أرباحه، فكانت عادته أن يتناول عشاءه عند الغروب، فإذا حان وقت العشاء ذهب إلى فراشه.
وكان أبو العتاهية يعلم ذلك، ولكنه كان يأمل أن يكون فنحاس ساهرا تلك الليلة، فلما أطل على القصر رأى فيه الأنوار على غير المعتاد فانشرح صدره، وعد ذلك من أسباب توفيقه، فتحول من شارع دار الرقيق نحو اليسار في طريق يؤدي إلى القصر، فلما دخل الزقاق المؤدي إلى بابه رأى عند الباب أشباحا، وسمع عن بعد لغطا، فأصاخ وتفرس فرأى دابتين ترجل عنهما شخصان معهما غلامان، فدهش لما علم أنهم الرفاق الذين شاهدهم في السفينة، وتبادر إلى ذهنه حينئذ أن الغلامين من الرقيق جيء بهما للبيع، ولكن الرجل لم يكن يبدو أنه من النخاسين أو التجار، وإنما كان مظهره يوحي بأنه من البدو.
فتباطأ أبو العتاهية وانزوى في مستتر بحيث يرى ويسمع ولا يعلم به أحد، فرأى الرجل الشيخ بعد أن ترجل عن البغلة وهو يحمل الغلام على كتفه، أمسك بحلقة الباب ودقها دقا عنيفا، ووقف ينتظر الجواب، فابتدرته المرأة قائلة: «هل تظنهم في انتظارنا؟»
فأجابها الرجل: «لا بد من ذلك. ألا ترين الأنوار في القصر؟ لا بد أن تكون مولاتنا في انتظارنا هنا على أحر من الجمر؛ لأننا أبطأنا عليها.»
فلما سمع أبو العتاهية كلامهما، لم يجد فيه لغة أهل مكة ولا المدينة، بل هو أقرب إلى لغة أهل بغداد المولدين، فزادت رغبته في معرفة سر هذا الأمر، وما لبث أن رأى خوخة الباب قد فتحت وأطل منها رأس امرأة بيدها مصباح قد وقع نوره على وجهها، وظهرت ملامحها ظهورا تاما، فشاهد وجها مشرقا، وعينين سوداوين، وحاجبين مقوسين، ومبسما لطيفا، وشعرا قد ضفر ببساطة. وكان مظهرها يدل على أنها من الجواري البيض، وأنها في نحو الأربعين من عمرها ولا يزال الجمال ظاهرا في عينيها. ولما وقع بصره عليها خفق قلبه؛ لأنه تذكر وجها يعرفه ويحبه، وكان قد تعلق بصاحبته منذ بضع عشرة سنة، وقد منعت عنه وبقيت لذلك حرقة في قلبه، فأخذ يتفرس في المرأة ليتحقق من ظنه، فإذا هي تقول بلهفة: «جئتم؟ الحمد لله. لقد أبطأت علينا يا رياش.»
Page inconnue