فلما سمعته العباسة يهددها بقتل الولدين اقشعر بدنها، ووقف شعرها، ونهضت رغم إرادتها وصاحت بصوت مختنق: «تقتلهما؟ ما ذنبهما؟ إنها طفلان بريئان، إنهما ملكان كريمان لا يعرفان حلالا ولا حراما. بالله ألا أشفقت عليهما؟» ثم ضمت يدها إلى صدرها وقالت: «ولدي! آه! يا أمير المؤمنين، رفقا بذينك الطفلين.» قالت ذلك وصوتها يتقطع وتكاد تشرق بدموعها.
فلما رآها الرشيد تبكي على هذه الصورة تحركت فيه عاطفة الأخوة، وهو والد يسهل عليه تصور عطف الوالدين، وربما جال في خاطره وهو يجادلها ويدافعها أن يلتمس لها عذرا، أو يغضي عن عملها، ولكن ما سبق إلى ذهنه مما لحقه من العار بسببها كان يعترض حنانه. وكان الرشيد من أكثر الناس غيرة على العرض، وأشدهم رغبة في صيانته، وقد يغتفر كل ذنب غير التعرض لدولته أو عرضه. وهو يعد عمل جعفر تعرضا للأمرين معا. وقد توهم أن وزيره إنما استولد العباسة ليكون في أولاده دم هاشمي يساعده على طلب السلطة وهي يومئذ لا مطمع فيها لغير القرشيين. فكان الرشيد وهو يسمع استعطاف أخته ويرى عذرها يغالب عواطفه، ولا سيما حين سمعها تدافع عن الولدين، وهو يعلم براءتهما كما تعلم هي، ولكنه يرى بقاءهما عثرة له أو حجة عليه. فلما طلبت استبقاءهما وهي تبكي لم يلتفت إلى بكائها، بل أجابها مختصرا: «أقتلهما لأخفي هذه الخيانة من الوجود.»
فعادت العباسة إلى التذلل رفقا بالولدين، فقالت وهي تبكي وتشهق: «أشفق يا أخي. نعم يا أخي؛ فإنك أخي. تذكر الرحم. وإذا كنت لا تزال تعد عملنا خيانة، فاقتلنا كلينا وأبق ذينك الولدين؛ فإنهما بريئان.»
فقال الرشيد: «إنما يقتلان بذنبكما، ولا يمحو هذا الذنب غير القتل.»
فلما رأت العباسة أن الاستعطاف لا يجدي نفعا، عادت أنفتها وعزة نفسها، ومسحت دموعها، ونظرت إلى الرشيد نظرة حادة كادت تخترق صدره لولا إصراره على الغضب، وقالت: «ألا تزال تعد عملنا ذنبا ونحن إنما أطعنا به أمر الله؟»
قال الرشيد: «لا تحاولي محالا؛ فقد عصيتما أمير المؤمنين فارتكبتما خيانة لا صبر لي على احتمالها.» ووقف كأنه يهم بالخروج، فاستوقفته العباسة وقالت: «لقد أحرجتني يا هارون حتى ألجأتني إلى التصريح بما لم تتعود سماعه مني ولا من امرأة سواي. كيف تحرم علينا أمرا أحللته لنفسك؟»
فانتهرها الرشيد ويده على قبضة خنجره قائلا: «بمثل هذا الخطاب تخاطبينني يا وقحة، وتقولين إني أرتكب مثل جريمتكما؟»
فقالت العباسة: «نعم، أقول لك ذلك ولا أخاف لائما؛ فإن ما تحاسبنا عليه زواج شرعي عقدته أنت بيدك، ولا تحاسب نفسك، ولا أنا أحاسبك على مثله، ولكني أذكرك بمن في قصرك من الجواري والسراري، فإنهن كثيرات، ولا ترى بأسا في التمتع بهن والشرع ينهاك عنهن؛ فكيف تنهاني عن زواج رجل شرعي. أليس ذلك من الظلم؟ تتهادون الجواري بالعشرات والمئات بلا حرج ولا بأس، حتى إن نساءكم يهدينكم منهن ما يطيب لكم. هذه زوجك أم جعفر قد أهدتك عشر جوار من أجمل النساء!
1
وقد فعلت ذلك وهي لا ترى فيه حطة ولا ذنبا لها ولا لك، ولكنكما تريان ذنبا لمثلي أن تتزوج من رجل عقدت له عليها عقدا شرعيا، وإذا استعطفتك غضبت وهددتها بالقتل، وهددت زوجها بالقتل أيضا، ولا ترضى مع ذلك إلا بقتل طفلين لا ذنب لهما، ولا تقبل فيهما شفاعة من والدتهما الحزينة التي رضيت أن تقتلها وتبقيهما.»
Page inconnue