قالت زبيدة: «كلا، بل هما في مكان قريب أنا أعرفه، وسيحضران متى شئت.»
فقال الرشيد: «في بغداد؟»
قالت زبيدة: «نعم.»
فتحول الرشيد عنها وصاح وهو لا يزال في القاعة: «مسرور.»
فحضر مسرور أسرع من البرق، فقال له الرشيد وزبيدة واقفة: «هل رأيت شيئا الليلة؟»
فقال مسرور: «كلا يا مولاي؛ لأني أعمى أصم.» وهي علامة تحريضه على الكتمان، ثم أمره أن يأتيه بالبرذون وسار في أثره فأتاه به، فركبه وساقه نحو قصر الخلد، ومسرور يعدو في ركابه وقد مضى هزيع من الليل، فقضى الطريق وهو غارق في بحار الهواجس، وقد نسي نفسه لما جاش في خاطره من أمر العباسة، وأعمل فكرته فيما دهمه من الأمر العظيم، فرأى أن ملكه وسطوته وأمواله أو أي شيء مما حازه من نعيم الدنيا لا يخفف عنه وطأة ذلك المصاب، وحدثته نفسه أن يستقدم أخته في تلك الساعة أو يذهب إليها ويفتك بها، ولكنه خشي الفضيحة، فجعل يصبر نفسه إلى الغد لعله يهتدي إلى سبيل آخر.
الفصل السابع والخمسون
التردد
أما العباسة فقد كانت في غفلة عن كل ذلك، تهتم بإعداد معدات السفر، وعتبة تبذل جهدها في طمأنتها وتطييب خاطرها، وتمنيها بما ترجوه لها من السعادة متى خرجت من بغداد وأقامت في خراسان؛ إذ يكون زوجها صاحب السلطة فيها. وكانت العباسة إذا أعملت فكرتها واستخدمت عقلها رأت أنها تعرض نفسها لخطر عظيم ربما آل إلى سفك الدماء. أما إذا استشارت قلبها وتصورت اجتماعها بحبيبها ولا رقيب عليهما، فيقومان بتربية الولدين في طمأنينة وسلام، فلا يحرمان من حبهما وحنانهما؛ تبرق أسرتها وتنبسط نفسها، ثم يعترضها غضب أخيها إذا علم بصنيعها، فتعود إلى الانقباض. وأخيرا أحست بانفراج كربتها فجأة لخاطر طرق على ذهنها يغنيها عن هذه المخاوف؛ وذلك أن تكتم اسمها وخبرها في خراسان، فتعيش مع زوجها وولديها متنكرة حتى يقضي الله بما يشاء. وكانت هذه الخواطر تخفف من مخاوفها، ولا سيما إذا تذكرت أرجوان خادمها الأمين ؛ لأنه كان من أعظم أسباب تعزيتها.
وبينما هي في تلك الهواجس رأت عتبة تعدو نحوها والبغتة ظاهرة على وجهها، فخفق قلبها وتصاعد الدم إلى محياها. ولم يكن أسرع من وقوع الرعب في ذلك القلب لما تعلمه صاحبته من الأخطار المحدقة بها من كل جانب، ولا سيما في تلك الساعة وهي على ما قدمناه من القلق. فلما رأت عتبة على هذه الصورة صاحت فيها: «ما وراءك؟»
Page inconnue