28
وكانت منف تنتظر أنباء القتال في هدوء المطمئن، للثقة العظيمة التي توليها جيشها، والاستهانة البالغة التي تشعر بها نحو قبائل البدو الناهبة، ولكن قلوبا كبيرة كانت تخفق خفقان المشفق، ويخلق لها الحنان الأوهام ويصور لها المخاوف، منها قلب عاهل النيل العظيم الذي تحول على الكبر إلى الحكمة، ومضى يكتب بمداد قلبه رسالته الخالدة إلى شعبه الحبيب، ومنها قلب زايا الذي أضناه الألم وعذبه الخوف وأرقه السهاد، وقلب آخر لم يعرف من قبل معنى الألم ولا ذاق طعم الخوف، وهو قلب الأميرة مري سي عنخ التي وهبتها الآلهة أبهى ما لديها من حسن وهيأت على الأرض لها أمتع ما فيها من الترف والنعيم، وسخرت لحبها أعظم قلوب البشر طرا، وأزلت لها قوى الطبيعة فلا يقرصها برد الشتاء، ولا يلفحها حر الصيف، ولا تهب عليها ريح الجنوب، ولا ينفذ إليها مطر الشمال، فما زالت تمرح وتلعب حتى مس قلبها الحب كما تمس أنامل الطفل الطليق ألسنة اللهيب، فاكتوت بناره وفتحت صدرها لعذابه وهوانه ...
ولم تخف حالها على وصيفاتها، وعلى وصيفتها ناي على وجه الخصوص، وقد قالت لها يوما وهي ترقبها بعين الريبة والإشفاق: أتتنهد مولاتي؟ فما يفعل من لا تحنو عليه الآلهة والفراعين؟ أتجثين ضارعة متوسلة؟ فمن الذي نتوسل به ونضرع إليه؟ أتخفضين عينيك يا مولاتي؟ فلمن خلقت الكبرياء؟
ولكن حلم الأميرة لم يتسع لمداعبات وصيفتها، فكانت تؤثر في تلك الأيام الشديدة الخلوة إلى نفسها، وكانت تود لو تستطيع أن تحافظ على قولها لحبيبها: إنها لن تغادر القصر حتى تسمع أبواق العودة الظافرة، ولكنها وجدت حنينا إلى زيارة قصر شقيقها ولي العهد؛ لتلقي تحية قلبية على المكان الذي كان يلقاها ددف فيه كلما ذهبت لزيارة أخيها.
وكان ولي العهد يستقبلها ويتحدث إليها، ولم يخف عنها عاطفة كانت تجهلها فيه وهي تململه من سياسة الملك، حتى قال لها مرة بلهجة الغضب: إن والدنا يهرم سريعا.
فنظرت إليه نظرة إنكار، فاستطرد يقول: حقا إنه ما يزال يحافظ على سلامة بنيته وحدة ذهنه، ولكن قلبه يشيخ ويهرم، ألا ترين أنه يولي ظهره سياسة الحكم، ويميل بقلبه وعقله إلى التأمل والرحمة، ويصرف وقته الثمين في الكتابة؟
أين هذا من واجب الحاكم القوي؟
فقالت له الأميرة بامتعاض: الرحمة كالقوة من فضائل الحاكم الكامل.
فقال بسخرية: لم يلهمني والدي هذه الحكمة يا مري سي عنخ، ولكنه ضرب لي الأمثال الخالدة بآثار القوة الخلاقة لجلائل الأعمال، فسخر أمة لبناء الهرم وزحزحة الجبال وترويض الصخور العاتية، وكان يزأر كالأسد الهصور فتخر القلوب فرقا ورعبا وتأتيه النفوس طوعا أو كرها، فيقتل من يشاء ويغفر لمن يشاء، ذلك هو والدي الذي أفتقده ولا أجده، ولا أرى سوى ذلك الشيخ الذي يمضي الليل إلا قليله في حجرة التابوت يفكر ويملي، ذلك الشيخ الذي ينفر من الحرب، ويشفق على الجنود كأنهم خلقوا لغير القتال.
فقالت مري سي عنخ: لا تتكلم عن فرعون بهذه اللهجة أيها الأمير، لقد خدم والدنا الوطن يوما بقوته، وسيخدمه أضعافا بحكمته.
Page inconnue