فأجابها صوت تعرفه حق المعرفة: ذهب الجنود ينفرونها، وعما قليل ترينها يا صاحبة السمو إذ تهبط من سفح الجبل وهي تعوي وتخور وتزأر.
وامتد نظرها إلى سفح جبل ست، وصدق الضابط في قوله فما لبثت أن رأت فصائل من الغزلان والأرانب والأيل تنحدر في مشياتها المختلفة جاهلة بما تخبئه لها المقادير. وتحفز الأمراء على ظهور الجياد، ثم انطلق كل إلى هدفه وابتدأت المعركة، وكانت همة الصائدين موجهة إلى مطاردة الوحوش وتوجيهها إلى مضيق التلين، حيث تنتظرها الشبكة فاغرة فاها.
وكان الأمير رعخعوف أمهر الصائدين قاطبة. وقد تبدت للعيان خفته ورشاقته، وكامل تسلطه على جواده، وحسن توجيهه له، وبراعته في محاورة الوحش وحصاره وسوقه أمامه إلى غايته المنشودة ... فلم يكن يفشل طراده ولا يخيب تصويبه، فأنهك كلابه تعبا في طلاب ضحاياه العديدة.
وأظهر الأمير أبوور كذلك مهارة نادرة المثال، فأثار الإعجاب بسرعة انقضاضه، ودقة إصابته الأهداف، وخفة حركاته، وكان فارسا لا يشق له غبار.
ومضى الأمراء في لهوهم العنيف، والوقت ينطوي خلسة ساعة بعد ساعة، وكاد الصيد ينتهي في سرور لا مزيد عليه، لولا وقوع حادث كدر الصفو وأفزع القلوب ... إذ كان الأمير رعخعوف يطارد غزالا نافرا تحت سفح الجبل، وإنه ليمر - في عدوه - بربوة عالية، إذ اعترض سبيله وراءها أسد هائل الهيكل كاشر الأنياب، فصرخ جند كثيرون يحذرون مولاهم، ولم يكن الأمير متأهبا لمثل هذا اللقاء الخطر المفاجئ، ولكنه كان ثابت القلب صلب العزيمة، فوضع يده على رمحه يريد أن يستله من قرابه، ولكن الأسد لم يمهله فوثب وثبة عظيمة، وضرب الجواد بيده الجبارة على وجهه، وكان يريد فارس الجواد بنفسه فلم يبلغ إليه، وسرعان ما ثقلت أقدام الجواد، وخارت قواه وترنح كالثمل، وأوشك على السقوط. وكان الأسد ينكمش استعدادا لوثبة أشد من الأولى ... وتتابعت الحوادث سراعا فتمكن الأمير من إشهار رمحه وصوبه نحو الأسد المتوثب وقذفه بقوة، وفي تلك اللحظة سقط الجواد فاقدا الحياة من أثر ضربة الأسد، فأخطأ الرمح مرماه ونجا منه الأسد، ووقع الأمير الجليل على ظهره فغدا تحت رحمة الأسد الكاسر، أعزل من كل سلاح.
وفي تلك الأثناء كان الأمراء والجند والضباط يطلقون لجيادهم العنان نحو الأمير المهدد، كل يود لو يفتديه بروحه، وكان ددف يطير بجواده في الهواء طيرا، فكان يطوي المسافة التي تفصله عن الأمير طيا سريعا، وقد سبق الجميع إليه، وصادف وصوله وثوب الأسد وثبته القاضية، فلم يضع لبه، وسل رمحه الطويل وأمسكه بيديه، ووثب من ظهر جواده المنطلق كالسهم شاهرا رمحه، فسقط كشهاب ناري على الأسد الغاضب، وانغرس رمحه في فم الوحش، ونفذ منه إلى الأرض الرملية، وصاحبه معلق به لا تدعه يداه. ولحق به الأمراء والجند فأحاطوا بالأمير، وأطلقوا سهامهم على الأسد المحتضر فقضوا عليه. وحضرت الأميرة مري سي عنخ على ظهر جوادها، وكانت مرتاعة مذعورة يكسو وجهها الجميل لباس الخوف والرعب، فلما رأت شقيقها واقفا معافى سليما ترجلت عن جوادها، وهرعت إليه وعانقته، وهي تقول بامتنان صادر من أعماق قلبها: حمدا للرب الرحيم بتاح.
وأقبل الأمراء على ولي العهد يهنئونه بالنجاة، وصلوا جميعا للرب بتاح شكرا وامتنانا.
وكان الأمير رعخعوف ينظر إلى جواده القتيل بأسف ظاهر، وسار إلى جثة الأسد الذي كاد يورده حتفه فرآها والسهام تغشاها كشعر القنفذ، ثم نظر إلى الفارس الواقف إلى جانبها كالتمثال الجميل، وسرعان ما تذكره وعرف فيه البطل الذي اختاره بنفسه ليكون بين ضباط حرسه الخاص. فكأن الآلهة اختارته بيده لهذه الساعة العصيبة. وأحس الأمير نحوه بإعجاب وامتنان، فاقترب منه ووضع يده على كتفه وقال: أيها الضابط الباسل، لقد أنقذت حياتي من الموت المحقق، وسأجزيك عن بطولتك العديمة المثال بما أنت أهله من الخير.
وتقدم الأمير أبوور من ددف، وكانت تهز نفسه النبيلة أعمال البسالة، فشد على يده بحرارة وقال: أيها الجندي الشجاع، لقد أديت للوطن والملك خدمة فوق منال التقدير.
ثم عادوا جميعا إلى المعسكر، يخيم عليهم صمت ثقيل، ويشتت نفوسهم الذهول الذي يعقب النجاة من خطر داهم، وفي أثناء الطريق قال أحد رجال حاشية الأمير أبوور له: لم ترض الآلهة أن تفجع قلب الملك الكبير الذي يحبس ذاته العالية في حجرة التابوت الموحشة، يكتب للشعب الذي يحبه رسالة النجاة من الشر والأمراض. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!
Page inconnue