والمكسوب ما أفاده الإنسان بالتجربة والعمر، والأدب والنظر، وهو الذي ندب الله - عز وجل - إليه فقال: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} وجعل من أعطاه العقل الغريزي فأهمله، وترك شحذه بالأدب والتفكير والتمييز والتدبر، كالأنعام، وعرفنا أن مصيرهم [عز من قائل] فقال: {ولقد ذرانا لجهنم كثيرا # من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}، إلا أن العقل الموهوب أصل والمكسوب فرع، والأشياء بأصولها، فإذا صح الأصل صح الفرع، وإذا فسد فسد، وقد شبه بعض القدماء العقل الغريزي بالبدن، وشبه المكتسب بالغذاء، فكما أن الغذاء لا يستحيل إلا بالأبدان المحيلة له، ولا ينفع إلا بحصوله فيها، فكذلك العقل المستفاد بالأدب لا يتم إلا بالعقل الغريزي، فكما أن البدن إذا عدم الغذاء لم يكن له بقاء، فكذلك العقل الغريزي إذا عدم الأدب، فإذا صح العقل الموهوب كان بمنزلة البدن الصحيح الذي يستمرئ الغذاء، وينتفع به، وإذا فسد كان بمنزلة البدن المريض الذي لا يشتهي الغذاء، وإن حمل إليه منه ما لا يدعوه طبعه إليه كان زائدا في مرضه، واستحال الداء الذي هو غالب، ولذلك، قيل: إن الأدب يذهب عن العقل السكر ويزيد الأحمق سكرا، وقال الله عز وجل: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد} فأحمد الناس (عند الله عز وجل) وعند الحكماء أصحهم عقلا، وأكثرهم علما وأدبا، وقد قال الله عز وجل: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون}. وقال: {هل يستوي الذين # يعلمون والذين لا يعلمون} وقال: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} وأخبر بعاقبة من أهمل نفسه وضيع عقله {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} فمن لم يتفكر قلبه، وينظر بعقله لم ينتفع بهذا الجوهر الشريف الذي وهبه الله عز وجل له، وإلى التفكر ندب الله عباده، وبالاعتبار أمرهم فقال {أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض} وقال: {أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض} وقال: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة} وقال: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} وقال: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} وروي: فكرة ساعة خبر من عبادة سنة، وروي عن الصادق - عليه السلام - في كلام له: ولكل شيء دليل، ودليل العقل الفكر، ودليل الفكر الصمت؛ [فبالفكر] والاعتبار، يتقي الزلل والعثار، وبالتجارب تعرف العواقب، وتدفع النوائب؛ فإذا تفكر الإنسان وقدر ونظر واعتبر وقاس ما يدله عليه فكره بما جربه هو ومن قبله تبين له ما يريد أن يتبينه، وظهر له معناه وحقيقته" وقد ذكر الله - عز وجل - البيان فمدحه، وامتدح بأنه علمه عباده # فقال: {الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان}، وجعل كتابه تبيانا لكل شيء [وجعله قرآنا]، وجعل رسله مبينين لخلصه فقال: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} وقال: {الر تلك آيات الكتاب المبين} وقال: {أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين}.
ذكر وجوه البيان
البيان على أربعة أوجه. فمنه بيان الأشياء بذواتها، وإن لم تبن بلغاتها؛ ومنه البيان الذي يحصل في القلب عند إعمال الفكر واللب، ومنه البيان باللسان [ومنه البيان بالكتاب] الذي يبلغ من بعد وغاب.
فالأشياء تتبين للناظر المتوسط، والعاقل المتبين بذواتها، وبعجيب تركيب الله فيها، وآثار صنعته في ظاهرها، كما قال تعالى: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين}، وقال: {ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون}، ولذلك قال بعضهم: قل للأرض من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك، فإن أجابتك حوارا، وإلا أجابتك اعتبارا، فهي وإن كانت صامتة في أنفسها، فهي ناطقة بظواهر أحوالها، وعلى هذا النحو استنطقت العرب الربع، وخاطبت الطلل، ونطقت عنه بالجواب، على سبيل الاستعارة في الخطاب؛ وقال الله عز وجل في هذا المعنى:
Page 56