Les bâtisseurs de l'Islam : Mohammed et ses successeurs
بناة الإسلام: محمد وخلفاؤه
Genres
الإهداء
مقدمة
1 - هيا يا نفسي إلى «الحجاز»!
2 - في مكة المكرمة
3 - على عرفات
4 - العودة إلى مكة
5 - في الطريق إلى يثرب
6 - فتح الإسلام وتشريعه
7 - خلافة أبي بكر
8 - خلافة أمير المؤمنين عمر
Page inconnue
9 - في مقابر البقيع
10 - خلافة عثمان بن عفان
11 - خلافة علي
12 - المملكة العربية السعودية
13 - العودة إلى الوطن
14 - في العمرة
خاتمة
الإهداء
مقدمة
1 - هيا يا نفسي إلى «الحجاز»!
Page inconnue
2 - في مكة المكرمة
3 - على عرفات
4 - العودة إلى مكة
5 - في الطريق إلى يثرب
6 - فتح الإسلام وتشريعه
7 - خلافة أبي بكر
8 - خلافة أمير المؤمنين عمر
9 - في مقابر البقيع
10 - خلافة عثمان بن عفان
11 - خلافة علي
Page inconnue
12 - المملكة العربية السعودية
13 - العودة إلى الوطن
14 - في العمرة
خاتمة
بناة الإسلام
بناة الإسلام
محمد وخلفاؤه
تأليف
إمام شافعي أبو شنب
الإهداء
Page inconnue
إلى حضرة صاحب الجلالة الملك «فاروق الأول»، حفظه الله
مولاي
أنعم الخلاق الأعظم على ذات جلالتكم الميمونة الطالع، فأضفى عليها رداء المهابة والتقى والصلاح، تتجلى كلها ناصعة وضاءة في جبين طلعتكم المتلألئ بسناء الشباب الناضر الباهر.
وزاد نعماءه على شخصكم السامي، يا صاحب الجلالة، فجعل مكارم الأخلاق تتمثل في مكارم أخلاقكم، فكنتم حقا المثل الأعلى لمكارم الأخلاق.
مولاي
ولما كانت فريضة الحج من أهم قواعد الإسلام الخمس، وبأدائها تتطهر النفس، وتصبو إلى المثل العليا للفضائل، فقد خصصت الجانب الأكبر من هذا المؤلف المتواضع بهذه الفريضة، وشرح مناسكها، وبيان العبر والعظات والحكم المنطوية عليها، فضلا عما قصدت إليه من تدوين سيرة نشأة الإسلام، وجهاد مبلغ رسالة الله، فيعرف حجيج «بيت الله الحرام» وهم في الأرض المقدسة، مهبط خير الأديان، ومنبت أشرف المرسلين؛ أقول: ليعرف الحجيج أن هذا الدين قد تأسس بناؤه على مكارم الأخلاق، وأن الرسول «محمدا»
صلى الله عليه وسلم
وصفه ربه خير وصف في كتابه الكريم، فقال وهو أصدق القائلين:
وإنك لعلى خلق عظيم .
مولاي
Page inconnue
وليس أحب لدى شخص خادمكم الأمين - وكتابه يحض على التمسك بمكارم الأخلاق - من أن أرفع كتابي باليمين، هدية إلى جلالتكم التي يتمثل في ذاتها السامية المثل الأعلى لمكارم الأخلاق.
خادمكم الأمين
إمام شافعي أبو شنب
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على محمد، المصطفى لنشر الهدى وإعلاء كلمة الدين، وعلى آله الأكرمين، وصحبه الصديقين أجمعين، أما بعد:
فقد كشفت هذه الحرب - التي لم يسبق في تاريخ البشر مثيل لها - حقائق هي في معناها الصحيح آيات بينات، وعظات بليغات، ولعل أولى هذه الحقائق والعظات، وأجدرها بالعناية والتسجيل والالتفات؛ هي مصرع فرنسا! هذه الأمة التي بلغت من المدنية منتهاها، ومن الحضارة أعلى ذراها، فإذا بها يغير عليها المغير، فتقع صرعى لا حول لها ولا قوة.
سقوط الأخلاق هو سر التدهور
ولم يفت على بعض الزعماء الوطنيين معرفة سر هذا السقوط، فقد أذاع الماريشال «بيتان» على أثر الهزيمة والتسليم نداء وجهه إلى الشعب الفرنسي، ولكن بعد فوات الأوان.
ولم يكتم الماريشال «بيتان» في ندائه أن سقوط أمته يرجع إلى انحلال الأخلاق فيها؛ فقد عمها الترف، وسادتها الشهوات، وتحكم في نفوس أبنائها وبناتها حب اللهو والعبث:
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا
Page inconnue
الآية الشريفة.
وإذن، فلا عجب إذا كانت الأمم التي تذهب الفضائل عنها، وتتمرغ في حمأة الرذائل، مصيرها السقوط والتدهور.
عظمة الأمم بعظمة الأخلاق
ولا يمكن أن يكتب البقاء والسلطان لأية مدنية من المدنيات إلا إذا كانت قائمة على أسس الأخلاق التي هي أهم ركن من أركان صروح الأمم، ولا يمكن أن تزدهر حضارة من الحضارات إلا إذا تمشت مع تعاليم الدين ومبادئه. والأمم التي تتناسى تعاليم دينها وتهمل الاستمساك بمبادئه، وتقتل في مجموعها روح الرجولة؛ لا شك في أن مصيرها الضعف، إن لم يكن الفناء.
لذلك دأبت - وما زلت أدأب - في تنبيه قومي من المصريين، ثم إخواننا الشرقيين، إلى ضرورة الاستمساك بمبادئ الدين وتعاليمه، وأهمها العمل على نشر الأخلاق الكريمة؛ مبعث الفضائل جميعها.
وما رحلاتي السنوية إلى البلاد المقدسة في مواسم الحج، ووصفها، والكتابة عنها، ونشرها في كتب متعاقبة، إلا عملا أحاول به أن أعطي لمواطني الكرام أقوى الأدلة وأقطع البراهين على أن عظمة الأمم بعظمة الأخلاق.
وماذا عسى في البلاد المقدسة «بلاد الحجاز» غير رمال وصحراوات؟!
فكيف إذن نشأت في تلك الرمال والصحراوات أمة دانت لها رقاب سائر الأمم؟ وخرجت منها مبادئ ما زالت وستظل أبدا عقيدة مئات الملايين من البشر؟
حقا إن الأمة العربية الضاربة في صحراوات الحجاز ما كانت لتسود العالم إلا بفضل تعاليم دين هو الدين الإسلامي ومبادئه القويمة؛ فقد جاء خير شريعة لتنظيم هذا الكون.
رحلة الحجاز
Page inconnue
وإن رحلة الحجاز لا تكلف المرء إلا القليل من المال والوقت، فعلى القادرين من مواطني وإخواننا الشرقيين أن يزوروا مكة في موسم الحج ليروا رؤيا العين كيف أن تلك الرمال، وتلك الصحاري، أنشأت أمة بزت في حضارتها سائر الحضارات، وشعت على العالم من دينها نور العلوم والفنون، ووضعت أمام أنظار الأمم، من بعد، أنموذجا هو المثل الأعلى لمكارم الأخلاق.
ويقينا، إن زيارة بلاد الحجاز سيكون لها شأن في إلباس أصحابها لباس التقوى، فيعودون إلى ديارهم بأرواح مطهرة، وقد انطوت نفوسهم على الطهر والصلاح. •••
وإذا كان الذي يتوجه إلى الله في الصلاة، أو ذاك الذي يزور ضريح أحد الأولياء الصالحين، يشعر براحة تسري في جميع جوانحه، ويحس بروحه محلقة في آفاق هنيئة مجهولة منه، فما بالنا بمن يرى البيت العتيق ويطوف به، ويصلي في مقام إبراهيم، ويسعى بين الصفا والمروة، ويقف على عرفة، ويرجم الشيطان في منى! نقول: فما بالنا بمن يؤدي فريضة الحج كاملة!
إنه ولا ريب يدرك من طبيعة البلاد سر سيادة الأمة العربية التي ما جاءت إلا عن طريق تعاليم دين لحمته وسداه إصلاح حال الأخلاق، فهي القادرة وحدها على تكوين أمم قوية الجانب، مهيبة السلطان. •••
ففي سبيل تحقيق الغاية الشريفة التي أسعى للوصول إليها، وهي الحث على الاستمساك بمكارم الأخلاق، أطلع على مواطني وإخواني الشرقيين بهذا الكتاب، والله المستعان.
وإنه تعالى ولي التوفيق.
إمام
الباب الأول
هيا يا نفسي إلى «الحجاز»!
جمال بلاد الحجاز
Page inconnue
في أبدع أيام الشباب وسنواته اليانعة إيناع الورود، في نحو العشرين من العمر الباسم الضاحك، كنت في القطار المسافر من «تريستا»، وكانت وجهتي «فيينا» للدرس والتحصيل في جامعتها المشهورة، وكنت لم أغب من قبل عن محيط مصر، فلم تألف عيناي من مناظر الطبيعة ومشاهدها الجميلة إلا مناظر الريف، وهي مناظر وديان سندسية الثرى والرقعة، فوقها سماء صافية زرقاء فاقعة الزرقة، ذات أفق ممتد طويل.
ولكن ما كاد القطار يعبر بي الحدود الإيطالية النمساوية عند «فيللاخ» و«فيلدن» حتى انتابت نفسي نشوة من الانشراح والجذل، ثم لم أشعر إلا وأنا أهتف من الأعماق قائلا: «يا إلهي!»
حقا لقد كان المنظر الذي شاهدته عيناي منظرا أخاذا للقلوب، مبهجا للأرواح.
كان منظر بساط أخضر فاقع الخضرة، في سعة بسط سليمان، يباهيه ويتيه عليه صنو مثله، ولكن في لون أخضر قاتم الخضرة، يمتد في وسط التلال التي لا يكاد يدركها الطرف، وأكواخ متناثرة تناثر النجوم، ذات سقف حمراء داكنة الحمرة، وتنتشر تلك الأكواخ بين حقول نبتت فيها أزهار جل من افتن في صنعها، ومن به عليها من شكول هي أبدع الألوان.
وإذن، فكيف لا يأخذ ذلك المنظر بمجامع الألباب؟! •••
وها أنا ذا بين رمال الصحراء، وسمائها ذات السراب، وقد مضت ساعتان ونصف ساعة منذ خروجي من جدة في طريقي إلى مكة لأول مرة زرت فيها الأراضي المقدسة، أراضي الحجاز، وقد وقع نظري على أول مبنى من مباني مكة، هو في أمثاله شبيه بالملايين، ولكن ماذا عسى أن أقول في وصف تأثيره في نفسي، فإني لأشعر بالعجز عن الوصف حتى إذا قلت إنه بلغ إلى أعمق مما بلغه منظر «فيللاخ» و«فيلدن».
وهل هناك أشد تأثيرا في النفس من رؤية ألوف من البشر لا تستر عورات أبدانهم إلا غلالات بيضاء، وهم يطوفون حول «البيت الحرام» وقد تساوى الغني والفقير، واستوى الكبير والصغير، وتحلت نفوسهم بالتواضع والخشوع، فترى المرأة المترفة التي عاشت بين العطور والزهور لا ترى غضاضة في أن تسجد على الأرض التي يطؤها الملايين، وترى الرجل ملكا إن شئت أو أميرا يمشي وهو يطوف وإلى جانبه عامة الناس.
رحلات ورحلات
وفي جميع الرحلات التي أمضيت أوقاتها في البلاد الأوروبية كان يتملكني - كما يتملك الغريبين عن أوطانهم - شعور واحد لا يتغير، وإحساس لا يتحول، هو شعور الوحشة في الغربة، والبعد عن الأوطان، ومفارقة الأهل والصحب والخلان.
ولقد كانت تلك الرحلات متباينة الأغراض، مختلفة المقاصد والغايات؛ فمنها ما كان في طلب العلم، وكثير غيرها للاصطياف، وأخيرا وخيرها: رحلاتي إلى الحجاز.
Page inconnue
ومع كون أسفاري ورحلاتي وتنقلاتي في البلاد الأوروبية كان منها ما هو للمتعة والنزهة، وكنت على يقين - حين قيامي بها - من متعتها وبهجتها، فقد كانت تلك المتعة أو هاتيك البهجة، تضؤل في عيني إزاء شعوري بالوحشة وألم الاغتراب، وبعدي - بل حتى تفكيري في أني بعيد - عن الأهل والوطن العزيز.
وماذا عسى أن أقول في ذلك الشعور نحو الأهل والوطن والحنين إليهما، وشعور الإعزاز والإيثار بل التقديس لهما، هذا الشعور المتأصل في النفوس؟
كان ذلك شعوري في جميع رحلاتي إلى أوروبا، على عكس شعوري في رحلات الحجاز، فإني حين أقبل على زيارة الأراضي المقدسة أشعر بالغبطة والسرور، فلماذا إذن هذا التناقض في الشعور؟
لقد تساءلت عن السر في ذلك، فاهتديت إلى شيء واحد، لا يمكن إلا أن يكون هو السر بعينه.
غذاء الروح وغذاء النفس
وإنه ليحلو لي دائما أن أكشف عن هذا السر، ذلك أني حين كنت أقصد إلى الغرب، إنما أشخص إلى عواصمه ومدنه لأغذي النفس وأمتعها باللذائذ.
ولكن حين أقصد إلى الحجاز، أشعر بأني قاصد لأغذي روحي، وشتان بين غذاء الروح وغذاء النفس.
وهكذا استطعت أن أهتدي إلى السر فيما رأيته وشعرت به من التلهف على زيارة الحجاز، ومن الفرح والغبطة والابتهاج التي كانت وما زالت تتملكني حين أعتزم السفر إلى بلاد الحجاز.
لا بد من الحج
إذا صدقت نية المرء في تولية وجهه شطر الخير، وبخاصة إذا كان مقبلا على أداء فريضة فيها مرضاة الله، فإن كل صعب يلاقيه لا بد أن يهون، وكل عقبة - مهما تكن كأداء - لا بد أن تذلل، وكل مشكلة - مهما تتعقد - لا بد أن تحل، فلا يخامره شك، ولا يداخله خوف، أو ينتابه يأس من قضاء حاجته.
Page inconnue
نويت الحج، وصدقت نيتي، وصح عزمي، فما كان ليثنيني عنه إلا سبق الأجل.
كانت هي الحجة الثالثة، ومع ذلك فقد كنت في لهفة على تأدية فريضتها أشد مما كنت عليه في الحجتين الأوليين، وفي اعتقادي أن من حج مرة يتعطش إلى المزيد، بل إن أحب أمانيه إلى نفسه ألا يفارق الأراضي المقدسة على الإطلاق.
أولى العقبات
ولقد كنت في المرتين اللتين أديت فيهما هذه الفريضة اعتدت السفر إلى الأقطار الحجازية بجواز سفر عادي؛ فلم أكن أعبأ بمواعيد سفر الحجاج وعودتهم؛ لأني أريد دائما أن أنعم بالمكث في الأراضي المقدسة أطول مدة من تلك التي يقضيها الحجاج عادة. وقد كان سفري بهذا الجواز العادي في السنتين الماضيتين أمرا ميسورا، ولكن كم كانت دهشتي عظيمة حين واجهتني عقبة لم أكن أتوقعها، فلقد كانت أولى العقبات؛ إذ رفض أولو الشأن الترخيص لي بالحج بجواز سفري العادي، وأبوا إلا أن أستصدر جواز سفر خاصا بالحج، شأني كشأن سائر الحجيج، ولم أدر السبب في ذلك، وليس هنا مجال القول في بيانه، ولكن ما يهمني أن أسجله هنا هو أن هذه العقبة قد ذللت من أيسر طريق.
ذلك أن وظيفتي الصحفية أجازت لي أن أتمتع بامتياز السفر بجواز عادي، وكفى الله المؤمنين القتال.
العقبة الكأداء
وانصرفت إلى تدبير أمور السفر، وإعداد العدة له، ولم أحسب أي حسابات لعقبات أخرى، وأي عقبة أو عقبات تقف في طريقي وقد ذللت في اعتقادي أكبر عقبة، ألا وهي السفر بالجواز العادي؟!
ولكن حدث حين قصدت إلى مكتب شركة البريد الفرعونية لقطع تذكرة على إحدى الباخرتين الخاصتين بنقل الحجاج، أن أبلغني مدير المكتب أن من المستحيل عليه أن «يصرف» لي تذكرة للسفر؛ لأن الأماكن بالباخرتين تشغل بمعرفة إدارة الحج بوزارة الداخلية، وأنه لا يمكن أن يسمح بسفر حجاج بجوازات عادية، بينما لا تجد الوزارة أماكن تتسع للحجاج ذوي جوازات الحج.
ضاقت الدنيا في وجهي، فقد عز علي أن أحرم من الحج، وأن تقف مشكلة ضيق الأماكن على ظهر الباخرة عقبة تحول دون بلوغي أعز أمنية عندي.
وأخذت أتردد على إدارة الحج بوزارة الداخلية كل يوم، صباح مساء؛ إذ لم يكن باقيا على موعد الحج إلا أيام معدودات، حتى علمت أن هناك باخرة هندية قادمة إلى السويس، هي الباخرة «روزماري»، فإذا وصلت في موعدها استطاع كل الحجاج أن يسافروا، وألا يتخلف عن السفر منهم أحد.
Page inconnue
ومرت الساعات كأنها دهر طويل، وما أشد وطأة الانتظار على النفس القلقة، فما بالنا بالنفس المتلهفة على زيارة الحجاز وتأدية فريضة الحج!
وما كادت الساعة تشرف على السادسة حتى سارعت إلى إدارة الحج وقلبي شديد الخفقان، وطال مكثي، ومكث المئات من الحجاج المنتظرين، فاستعنت بالصلاة على قلق النفس، وما كدت أنتهي من صلاتي حتى جاءت البشرى بوصول «الطائف» إلى السويس، فضلا عن الباخرة الهندية التي تولت نقل إخواننا الحجاج من فلسطين.
هنا طارت نفسي فرحا، وهتفت من أعماق قلبي: «الحمد لله.»
على ظهر الباخرة
كانت «الطائف» تسير مسرعة في بحر هادئ صاف وطقس بديع، وكنا ونحن شديدو التلهف على الوصول إلى الحجاز، نخالها تسير خببا. وكنا لا نسمع في هذا الهدوء والسكون سوى ترتيل القرآن الكريم والأدعية، فكانت الباخرة في جميع أركانها وجنباتها وغرفها كأنها محراب للصلاة وعبادة الخالق العظيم، الغفور الرحيم. كان الحجيج أجمعون في طريق التوبة وسبيل المغفرة، جاهدين لتطهير أرواحهم مما علق بها في هذه الدنيا، دنيا الشهوات والأدران، والشرور والغرور، وكان شعارهم: «لبيك اللهم لبيك» إلى آخر التلبية.
وحين أشرفت «الطائف» على رابغ هيأت نفسي للإحرام بنية العمرة،
1
فقصصت من شعري وأظافري تجنبا لما عساه يسقط من الشعر في أثناء الإحرام بالعمرة، ثم اغتسلت وقلت بعد أن أتممت ذلك: «نويت الإحرام بالعمرة، فاللهم يسرها لي. لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.» ثم صليت ركعتين بنية العمرة.
والعمرة تقليد ديني حكيم، لا بد منها لدخول المرء إلى «مكة المكرمة»، البلد الذي به البيت العتيق، والذي به أول مسجد:
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا
Page inconnue
الآية الشريفة.
ومن الأدب الواجب على المخلوق حيال الخالق أن يمثل أمامه جل وعلا بلباس الفطرة الأولى، فلا زخرف ولا زينة، ولا أي مظهر من مظاهر الترف والرفاهية، خشوعا من النفس، وإقرارا بالعجز، واعترافا بعظمة الخلاق العظيم.
وكان الحجاج يغدون ويروحون على ظهر الباخرة مرددين التلبية: «لبيك اللهم لبيك ...» وهم بلباس الإحرام الذي هو إزار أبيض غير مخيط يستر العورة إلى مشط الرجل، وآخر يلتحفونه كغطاء القسم الأعلى من أجسامهم، مع بقاء الرأس عاريا، وانتعال نعال تظهر منها أصابع الرجلين والكعبان.
وعلى المحرم أن يحذر حك الجسم بقوة؛ منعا لتساقط الشعر، فإن كل شعرة تسقط عمدا توجب على المرء التصدق بما يقرب من أقتي بر. •••
ومرت الباخرة بميناء ينبع، ولم يعد لوصولنا إلى جدة إلا ليلتنا، وكانت آخر ليلة قضيناها بالباخرة من ليالي رحلة جميلة، شعرنا على قصرها بأنها طويلة الأمد؛ لتعجلنا ورغبتنا الملحة في سرعة السفر. وقد تمنيت لو أن كل الرحلات التي تعرض لي في حياتي تكون كلها رحلات لاستجمام الروح، وتطهير النفس، وانتشاء القلب بزيارة أقدس البقاع التي انبثق منها نور الهدى، وشع منها أبهر ضوء لأعظم مدنية لحمتها الفضائل وسداها الخير لبني الإنسان جميعا.
حاول النوم أن يغالب أجفاني، فلم يستطع إلا ساعة وبضع ساعة، صحوت بعدها على صوت المؤذن يؤذن لصلاة الفجر.
فنهضت منشرح الصدر، جذلان، فرحا؛ فقد قاربنا «جدة».
الوصول إلى جدة
صلينا الفجر وحمدنا الله تعالى، ولم أحاول النوم بعد فريضته؛ إذ حلقت نفسي في ذلك الفضاء المترامي، وذلك الكون اللانهائي، وغبت في تفكير عميق، مسبحة روحي باسم المبدع القدير المتعال.
كانت نسمات الصباح تثلج صدري، وكانت رؤية مصارعة الليل مع النهار في آخر جولة من جولات الصراع، من أبدع آيات خلق الله عز وجل، إنه لمنظر يتكرر في دورات الأرض اليومية، فإذا بالنهار يطلع، وإذا بالليل يغيب، ثم إذا بجيوش الليل تفوز ، وإذا بجحافل النهار أمامها تنهزم، فهما في صراع دائم، فبينما تتم لأحدهما الغلبة على الآخر؛ إذ بالنصر يؤاتي المغلوب، فلمن عسى يكون النصر في النهاية؟
Page inconnue
سبحان من ليس له نهاية، ويأمر بالنهاية، ويشاهد نهاية كل شيء. فاللهم الطف بنا في النهاية.
أجل، إن في الليل راحة، وفي النهار شقوة، ولا معنى للراحة إلا بالتعب، ولا سبيل لاستكمال الكون إلا بتبادل الليل والنهار، هذه سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا. •••
انبثق نور الشمس في سبائك ذهبية رائعة، انتشرت في الأفق فزادته بضوئه البراق وزرقة السماء اللازوردية الرقراقة جمالا وأي جمال!
جمال إلهي يعجز أبلغ البلغاء وأفصح الفصحاء عن وصفه وتصويره، وظهر قرص الشمس أمام ناظري، وقد أورث الدنيا الحركة والنشاط والحياة، فقلت: سبحان ربي القدير الخالق. هذا هو قرص الشمس يتراءى أمام العيون، فماذا عسى يخفي وراءه؟ إنه ليخفي جانبا مجهولا من ذلك العالم المترامي، لا يقاس به العالم المعروف المشاهد.
هذا هو قرص الشمس الذي يبدو أمام الأبصار صغير الحجم، فإذا الأرض ببحارها ومحيطاتها وجبالها ووهادها وسهولها، وكل ما فيها من كائنات، قطعة منه، أراد الله أن تهوي حيث هي معلقة، تحيط بها أفلاك ونجوم ذات أبراج، فإذا ولى النهار الأدبار، وظهرت آية الليل، رأينا النجوم وقد انتثر عقدها في السماء، يسير بعضها شرقا، والآخر غربا، والبعض شمالا، والآخر جنوبا. وقد تبدو نجمة نخالها كأنها ستسقط على الأرض، فإذا بها تندفع إلى الفضاء اللانهائي المتلألئ، لا ندري منتهاها. وهكذا تسير النجوم في غدو ورواح بسرعة مئات الأميال في الدقيقة، بل في الثانية، ولم نجد نجما ارتطم بآخر على كثرة ما نشهد من نجوم لا تحصى ولا تعد.
وقد نقف أمام جهاز اخترعه فكر أحد الآدميين فنعجب به لدقة أدواته، وكثرتها، وحسن تنسيقها، وانتظام حركتها، ومع ذلك فقد تقضي عليه حركة تماس في بعض أسلاكه، فيذهب هذا الجهاز بددا. •••
أي عظمة وأي قدرة للخالق العظيم مبدع الكون الذي لم نسمع ولم نعرف - على بعد مئات الألوف من السنين منذ خلقه - أنه احتاج إلى إصلاح أو إلى تعديل أو إلى تغيير في أجزائه، أو تبديل، أو تزييت، أو تشحيم!
أين أولئك الملحدون الذين عميت بصائرهم عن الحقائق الإلهية التي لا ينكرها إلا المكابرون، أولئك الذين يتشدقون بأن هذا الملك العظيم خلق بالتفاعل! فليرونا أين هذا التفاعل في هذا الكون المترامي الأطراف الذي لا بد له من خالق، سبحانه!
بل أين التفاعل في أنفسهم، في خلق الإنسان وحواسه؟
أين التفاعل في غريزة الحسد، أو غريزة الطمع أو البخل؟
Page inconnue
وأين التفاعل في غريزة الكرم؟ وأين التفاعل في غريزة الشجاعة؟ وأين التفاعل في غريزة الجبن والخور؟ أين التفاعل في هذه الغرائز الإنسانية المتناقضة المتباينة في جسم البشر؟
وإذا كان لكل جهاز صانع، ولكل اختراع مخترع، فكيف لا يكون لهذا الكون خالق؟!
ألا أيها الملحدون، موتوا بجهلكم وضلالكم المبين. •••
أفقت من هذا التفكير في عظمة الكون وقدرة الخالق، على نسمات زكية لم آلفها إلا في بلاد الحجاز، فعلمت أننا صرنا على أبواب جدة. كانت نسمات ذات أريج طاهر ينعش الروح، ويغذي الجسم، نسمات تهب من الأرض الطاهرة على حجيج «بيت الله» وقد قاربوا الأماكن التي بها قطعة من الجنة.
وكانت الساعة حوالي العاشرة من الصباح حين وصلت «الطائف» ميناء جدة، فتصاعدت الأصوات بتكبير الله وحمد الله، فقد وصل ضيوف الله في أمن الله وحمايته.
ونزل الحجيج في قوارب، ومعهم أمتعتهم «الثقيلة» منها و«الخفيفة»، ويا لحسن من اقتصر منها على الضروريات! فقد فاز بخفة الحركة وسرعة الانتقال والارتحال، أما من ثقلت أمتعته فقد كان في حيرة وارتباك، لا يدري كيف يحمل نفسه، أو يحمل أثقالا من أمتعته لا تغني شيئا في الحجاز الذي يتوفر فيه كل شيء.
ووصل زورقي إلى الشاطئ، وما كدت أضع قدمي على أرض جدة حتى سبح فكري مرة أخرى متسائلا: أهذه هي البلاد التي نشأت فيها أمة هداها بدين الله رجل واحد، وقادها في طريق المجد والعظمة أربعة رجال، هم خلفاؤه الراشدون! لقد عجبت كيف استطاعت هذه الأمة العربية القليلة البسيطة التكوين، الفقيرة في بلادها ومواردها أن تنشر مدنية هي خير المدنيات وأعظمها، وأن تزيل من الوجود إمبراطوريتين عظيمتين، هما: الفارسية والرومانية؟ بل وتمد فتوحاتها إلى أقصى أوروبا الغربية، فتحكم وتسود.
وها نحن أولاء المسلمين نعد بالملايين في هذا العالم، لم نستطع بعد أولئك الخلفاء الأربعة، وبضعة خلفاء يعدون على أصابع اليد الواحدة أن نفعل شيئا، بل إننا تدهورنا وسقطنا من حالق، وصار تراثنا المباهاة بما فعل الأجداد منا، وقد قال أولئك الأجداد:
إن الفتى من يقول ها أنا ذا
ليس الفتى من يقول كان أبي
Page inconnue
أجل، لقد صرنا - ونحن مئات الملايين - نعيش عالة على الغرب، أسرى مدنية زائفة تميت الهمم، متباعدين عن تعاليم ديننا الذي أحيا العرب من عدم، وأهداهم من ضلال، وأغناهم من فقر، ورفعهم من ضعة، وأنشأ لهم مدنية قديمة سامية سادوا بها جميع الأمم.
ورجعت إلى نفسي أدعو الله أن يهدينا إلى الاستمساك بديننا حتى نحيي مجد الإسلام وعظمة المسلمين. •••
إن جدة بلد يصح أن تكون مرآة تعكس لزائرها صورة بلدان العصور القديمة العربية؛ فدورها عتيقة البناء، عتيقة الطراز، لا تجد في نوافذها لوحا من الزجاج، فترى بدلا من زجاج النوافذ حصيرا يطوى وينشر في حالة توقي البرد القارص أو الحر اللافح، هي بلد تصورها لك كتب العرب التاريخية والأدبية القديمة! غير أن بها جهة تمت إلى العصر الحديث، ففيها شارع رئيسي فخم شيدت على جانبيه الدور و«الفيلات» العصرية التي لا تجدها إلا في المدن الأوروبية والشرقية المتمدنة، وهو شارع طويل عريض، مرصوف بالمكدام، آهل بدور المفوضيات والقنصليات والبيوتات التجارية والمالية والشركات المختلفة.
إنك لتعجب: كيف جمعت جدة بين القديم المتناهي في القدم وبين الحديث العصري - «آخر مودة» - في فن العمارة والبناء!
والجواب على هذا السؤال هين يسير.
ذلك أن الحكومة العربية السعودية تعمل جاهدة لإدخال كل إصلاح على بلاد الحجاز، بل بلاد شبه الجزيرة العربية جمعاء، وهو الإصلاح الذي لا يستنكره الشرع، ولا يتنافر مع تعاليم الدين ويتفق مع روح العصر الحاضر.
لا تجد في جدة شيئا وسطا بين القديم والحديث، والسبب في ذلك يرجع إلى أن الحكومات المتعاقبة التي سبقت حكومة جلالة الملك عبد العزيز آل سعود لم تكن تفكر في أي إصلاح على البلاد الحجازية يقتضيه التمشي مع روح العصر الذي تعيش فيه! فلا عجب إذن إذا وجدت مظهر جدة اليوم كالرداء العتيق رقعه صاحبه برقعات جديدة قشيبة بهية الرواء.
لست أريد أن أمر بجدة دون أن أذكر لك أن فيها أسواقا تجارية تحوي جميع البضائع والسلع، وكلها رخيص متين متقن الصنع. •••
لم أنس قبل مغادرة جدة أن أمر بدار وكيل مطوفي السابق، ذلك الشيخ الكهل القديم الذي يحاكي قدم «جدة»، والذي لا جديد فيه، ولا في ردائه أو غطاء رأسه أو طراز نعله، الذي لا جديد فيه على الإطلاق إلا منظاره الذي استعاره كرها من حاجات العصر الحديث بدافع الحاجة إلى تقوية ناظريه، وفي اعتقادي أنه لو كان في استطاعته أن يبدله بشيء قديم، ونعني أن يستغني عنه بشيء أصيل من حضارة عصره هو، لا عصرنا نحن، لفعل وايم الله!
وبالسؤال عنه من زملائه، علمت أن الشيخ قد توفي إلى رحمة الله، فحزنت لهذا النبأ، ويحق للإنسان أن يحزن، فالرجل يمت إلى عصر غير هذا العصر، عصر كانت الرجولة فيه أكثر مما نرى. وقلت: رحمه الله، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ثم قرأت الفاتحة على روحه.
Page inconnue
إلى مكة المكرمة
قضيت في فندق جدة ليلة مريحة، بنومة هانئة لذيذة، حقا، إن الراحة لا تعرف إلا بعد العناء. فأسفار البحر - مهما تبلغ فيها حال غرف البواخر من الرفاهية - تجعل الجسم في حالة يحتاج فيها إلى راحة أكثر.
وما كاد الصبح يتنفس حتى كان جميع نزلاء الفندق أيقاظا، على استعداد لمواصلة السفر إلى مكة المكرمة، عظمها الله، وكانت معي أسرة مصرية كريمة سألتني مرافقتها في غضون السفر، فرأيت أن أنتهز هذه الفرصة، وأصحب هذه الأسرة، لا لأنها كانت في حاجة إلى خدمات قد أؤديها لها، ولكني أردت أن أدرس الحالة النفسية والروحية التي قد تبدو على أعضائها، وبخاصة لأنهم من طبقة قد عاشت على الرفاهية، وكان بينها سيدة، فضلا عن علمها وثقافتها، فقد ألفت الأسفار إلى ممالك أوروبا، وشاهدت في خلال سفرها أجمل مناظر الطبيعة التي وهبها الخالق لتلك النواحي من الأرض، وكذلك كان معنا شاب مثقف أحرز دكتوراه التجارة العليا من جامعة ليون. وسيكونون وهم مقبلون على مكة المكرمة في صحراء قاحلة جرداء، ليس فيها إلا رمال مترامية لا حد لها أمام العيون والأبصار، في حالة روحية أريد بها أن أعرف أحاسيس أمثال هؤلاء، وما تكون عليه نفوسهم وهم داخلون إلى مكة المكرمة.
ركبنا السيارة، بينا كنت أتلو بعض الآيات القرآنية الشريفة، وخير دعاء كان يتلوه الرسول، عليه أفضل الصلاة والسلام، ألا وهو:
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
كانت السيدة التي ذكرت، والشاب الذي وصفت، وهما يتطلعان إلى جو الصحراء ورمال الصحراء ونواحي الصحراء المترامية، كانا مأخوذين مبهوتين، وكانت الأدعية التي يتلوها الحجيج، والأناشيد التي ينشدونها مديحا في الرسول
صلى الله عليه وسلم
أو في فضيلة حج «بيت الله»؛ كانت هذه وتلك، وهي صادرة عن قلوب عشرات الألوف ما بين مترجل، وممتط دابة، وراكب سيارة، وهم زرافات زرافات؛ نقول كانت الأدعية والأناشيد، ثم زغاريد الفلاحات المتناهية في السذاجة والبساطة، مؤثرة في نفسي السيدة والشاب، زيادة إلى تأثرهما الروحي لشعورهما أنهما عن قريب يدخلان مكة. كانت تبدو على وجه السيدة بعض تشنجات عصبية، تفاعلت مع ملامحها فإذا بمآقيها تدران دمعا قطرات تلو قطرات، وكان الشاب كذلك يردد تكبير اسم الله: «الله أكبر! الله أكبر!» يقولها وأصابع يده تلعب، ولست أدري أكان يحصي بها التكبير، أم أنها حركة عصبية نشأت عن تأثره الروحي والنفسي، وأكبر ظني أن التعليل الثاني هو الأصوب. •••
بينا كان هذا الشعور الروحي العظيم يملك علينا أنفسنا جميعا، ويغمر قلوبنا، ويفيض على صدورنا، كانت الأصوات العالية؛ أصوات الحجيج، أمامنا وخلفنا وحوالينا، يمينا ويسارا، وهم في قوافل غفيرة، ترتفع بالتلبية، وبتكبير اسم الله الواحد المعبود . وكنا بين فترة وأخرى نسمع زغاريد الفلاحات، كما نسمع الأناشيد والأدعية الدينية، إلى جانب ما كنا نسمعه من التلبية والتكبير، كان شعور الجميع واحدا وإن تباين التعبير! كانوا كلهم متوجهين بقلوبهم وأرواحهم إلى الله جل وعز شأنه، كانوا جميعا يطلبون المغفرة، وينشدون التوبة:
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين .
Page inconnue
في الحديبية
وحانت مني التفاتة إلى الطريق، فإذا بي أرى بعض المطاعم والمقاهي العربية المتواضعة منتشرة هنا وهناك، فعلمت أننا قد وصلنا الشميسي، وهي محطة صغيرة من محطات أربع في الطريق بين جدة ومكة، وكان يطلق على الشميسي اسم الحديبية، وهي البلدة التي منع قريش النبي
صلى الله عليه وسلم
عندها من دخول «مكة» للحج، وقد كان في استطاعته - والله ناصره ومؤيده في جميع خطواته - أن يتغلب على قريش ويدخلها عنوة وعلى الرغم منهم، ولكنه أراد أن يسن
صلى الله عليه وسلم
سنة التفاهم والمفاوضات الودية في حل النزاع قبل أن يحكم السيف؛ ولذلك عاد - عليه الصلاة والسلام - من الحديبية، ولم تبطل عمرته؛ إذ حملت الريح شعره وشعر صحابته الأجلاء وألقته في الحرم، وقد وفد الرسول
صلى الله عليه وسلم
عثمان بن عفان رضي الله عنه للمفاوضة مع قريش، وانتهى النزاع حتى كان فتح «مكة» لانتقاض قريش على العهود والمواثيق.
ووصلنا إلى الأعلام، وهي الحد الفاصل بين الأرض الحرام والأرض الأخرى.
والأرض الحرام أرض مقدسة، يشعر فيها المرء بالأمن والسلام حال دخوله إليها، كما يشعر بالطمأنينة تفيض على جميع مشاعره، والراحة تغمر نفسه. وليس عند الأعلام حواجز تفصل ما بين الأرض الحرام والأرض الأخرى، ولكنك تشعر بشعور الطمأنينة والأمن والراحة لأول خطوة تخطوها في الأرض الحرام، فتعلم حينئذ أنك بلغتها وأنك فيها، وأنه إلهام من الله. وإنه لشعور روحي إلهي يملأ قلبك حين تدب على هذه الأرض الطاهرة.
Page inconnue
وما كدت أخطو خطوة، أو على الأصح: ما كادت السيارة تخطو خطوة بعد الأعلام حتى رددت الدعاء التالي، وهو خير دعاء يتلى بين الأرض الحرام والأرض الأخرى: «اللهم هذا حرمك، فحرم لحمي ودمي وشعري وبشري على النار، وآمني من عذابك يوم تبعث عبادك، واجعلني من أوليائك وأهل طاعتك.»
الباب الثاني
في مكة المكرمة
دخلنا مكة المكرمة مع التلبية والتكبير، وبشعور فياض جل أن يوصف، ثم ما كدت أتطلع إلى مبنى البيت العتيق في خشوع حتى رددت هذا الدعاء التالي: «لا إله إلا الله، والله أكبر، اللهم أنت السلام، ومنك السلام، ودارك دار السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إن هذا بيتك عظمته وكرمته وشرفته، اللهم زده تعظيما وزده تشريفا وتكريما، وزده مهابة، وزد من حجه برا وكرامة، اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وأدخلني جنتك، وأعذني من الشيطان الرجيم.»
واقتربت من «البيت الحرام» فإذا بي أشعر بدموعي تنهمر انهمارا، وبقلبي يخفق خفقات، وأسمع لفؤادي وجيبا، ولكن مع راحة وطمأنينة هي بلسم النفس والروح، وصرت على بعد من المسجد، فأخذت أدعو الدعاء التالي، وهو: «الحمد لله، والسلام على عباده الذين اصطفى، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، وعلى إبراهيم خليلك، وعلى جميع أنبيائك ورسلك.»
ثم لم أشعر إلا وقد اندفعت اندفاعا إلى الداخل على الرغم من شدة ازدحام الحجيج، وما كدت أدخل من باب السلام حتى تلوت الدعاء التالي، وهو: «بسم الله، وبالله، ومن الله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله
صلى الله عليه وسلم .»
كان الزحام في الكعبة الشريفة على أشده، فإن الحجيج الذين كانت تقلهم «الطائف» و«تالودي» وكان عددهم نحو الثلاثمائة والألف، قد وصلوا إلى مكة وقصدوا «البيت الحرام» للقيام بفريضة طواف القدوم، على أنه مع الزحام وعظم عدد الطائفين وجدت الطريق أمامي ممهدا، وكانت كل حركاتي ومشاعري متجهة جميعا إلى رب هذا البيت، وقد رفعت يدي وقلت: «اللهم إني أسألك في مقام إبراهيم في أول مناسكي أن تقبل توبتي، وأن تتجاوز عن خطيئتي، وتضع عني وزري، الحمد لله الذي بلغني بيته الحرام الذي جعله مثابة للناس وأمنا، وجعله مباركا وهدى للعالمين، اللهم إني عبدك، والبلد بلدك، والحرم حرمك، والبيت بيتك، جئتك أطلب رحمتك، وأسألك مسألة المضطر الخائف من عقوبتك، الراجي لرحمتك، الطالب مرضاتك.»
وقصدت إلى الحجر الأسود، وأشرت إليه بعود صغير في يدي، ثم قبلت العود، وقلت: «الله أكبر، الله أكبر، اللهم أمانتي أديتها، وميثاقي وفيته، اشهد لي بالموافاة.»
ثم بدأت الطواف، وهو صلاة أباح الله فيها الكلام، فعلى المرء أن يكون طاهرا كما لو كان مقبلا على الصلاة.
Page inconnue
بدأت الطواف قائلا: «اللهم إني نويت طواف بيتك المعظم سبعة أشواط طواف العمرة، فيسره لي وتقبله مني.» ثم دعوت: «بسم الله، والله أكبر، اللهم إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة نبيك محمد
صلى الله عليه وسلم .» فلما بلغت مقام إبراهيم عليه السلام استأنفت الدعاء قائلا: «اللهم إن بيتك عظيم، ووجهك كريم، وأنت أرحم الراحمين، فأعذني من النار ومن أهوالها، وحرم لحمي ودمي عليها، وآمني من كروب يوم القيامة، واكفني مئونة الدنيا والآخرة، واحفظني من الوسواس الخناس.»
ولما بلغت الركن العراقي قلت: «اللهم أعوذ بك من الشرك والشك والكفر، والنفاق والشقاق وسوء الأخلاق، وسوء المنظر في الأهل والمال والولد، اللهم اسقني بكأس محمد
صلى الله عليه وسلم
شربة لا أظمأ بعدها أبدا.»
فلما بلغت الركن الشامي دعوت: «اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا.» فلما بلغت الركن اليماني دعوت: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر ومن الفقر، وعذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من الخزي في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.»
فلما بلغت الحجر الأسود دعوت: «اللهم اغفر لي برحمتك، وأعوذ برب هذا الحجر من الدين والفقر، وضيق الصدر، وعذاب القبر.» وأشرت إلى الحجر كما فعلت في الشوط الأول، ثم قبلت العود الذي في يدي لعدم استطاعتي تقبيل الحجر لكثرة الازدحام حوله، ومن ثم كبرت ثلاثا، وعدت إلى الطواف، وكررت الأدعية السابقة حتى أتممت طواف السبعة الأشواط.
ومن الناس من يعتقد أن لكل شوط من الأشواط السبعة دعاء خاصا، وهذا خطأ، وفضلا عن ذلك فإن خير الأدعية ما كان فطريا دون تنسيق، فيدعو المرء بما في نفسه وبما في ضميره دون أن يتقيد بدعاء ما.
ولما انتهيت من طوافي صليت ركعتين في مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام، ثم انتقلت إلى حجر إسماعيل، فصليت مثلهما، وخرجت من باب الصفا، ورقيت درجاته ناويا السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، قائلا: «اللهم إني نويت السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، فيسره لي وتقبله مني.» ثم رددت الآية الشريفة التالية وهي:
إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ، ثم دعوت: «الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله على ما هدانا، الحمد لله بمحامده كلها على جميع نعمه كلها، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.»
Page inconnue