أولها قدرة الإنسان على إدراك «الواقع» إدراكا يمكنه من إقامة أحكامه على أساسه، وهي صفة لا تتحقق لطفل ولا لمراهق، لا عن ضعف في الطفل وخلل في المراهق، كلا فنحن نفترض فيهما غاية الصحة والعافية والسواء، لكنها «الفطرة» وأحكامها، فللطفل طبيعة الطفولة، وللمراهق طبيعة المراهقة، وكلتا المرحلتين فيها حدة الخيال التي قد يختلط عندها واقع بأوهام، على اختلاف الصورة التي يأتي عليها ذلك الخلط، بين الطفولة والمراهقة، ويترتب على ذلك في كلتا المرحلتين - بصورتين مختلفتين - عجز في تقدير ما يستطيعه أحدهم وما لا يستطيعه، فقد يمد الطفل ذراعيه ليمسك بالقمر ، وقد يخيل للمراهق أنه يستطيع إذا أراد أن يزحزح الجبل، وبلوغ «الرشد» هو الدخول في مرحلة ثالثة تتحدد فيها معالم الأشياء في عالم الواقع، كما تتضح شيئا فشيئا للشباب الراشد حدود قدراته.
وثانية صفات «النضج العقلي» هي القدرة على استخلاص المعاني «المجردة» من ذلك الواقع الذي عرفناه، فمن الواضح أن «الواقع» لا يكون إلا في أشياء مجسمة أو مشخصة أو محددة فيجسده في مكان، أو حادثة في لحظة معينة من زمان أو أن يجتمع لها حدودية المكان والزمان معا، هكذا يكون «الواقع» فيتلقى الناضج ذلك الواقع بمحدوديته، وإذا كان ذلك الناضج ذا قدرة عقلية أقوى، استخلص مما قد صادفه من وقائع أفكارا نظرية كما يستخلص العلماء - مثلا - قوانين العلم لظاهرة من ظواهر الطبيعة شهدوها وحللوها، وربما كذلك أجروا عليها تجارب معملية إذا كانت مما يخضع لمثل تلك التجارب وكثيرة جدا هي الأفكار «المجردة» التي يستخلصها الإنسان من واقع الكائنات والمعاملات، وماذا تكون الأفكار المحورية الكبرى التي نقيمها في حياتنا كالمشاعل من أمثال حرية، ديمقراطية، عدالة ... إلخ، إذا لم تكن مجردات استخلصناها من خبرة الحياة في نعيمها وشقائها، ومن الذي يستخلصها لنا؟ إنهم هم من بلغوا سن «النضج العقلي» ما لم يبلغه عامة الناس، إلا أن هذه العامة لا تلبث أن ترى بعقلها إذا نضج تلك الأفكار عند ذكرها، وإني لأرجو الكاتب الفاضل أن يقارن بين خيال الطفل حين يتصور العصا جوادا، وخيال المراهق عندما يتصور أنه مستطيع أن يقهر العدو بقنابل من الكلمات، أن يقارن ذلك بالفكرة المجردة في مرحلة النضج العقلي؛ إذ تكون في هذه الحالة بمثابة خريطة نظرية مستمدة مما قد وقع بالفعل في دنيا الواقع، لتصلح بعد ذلك وسيلة هداية فيما لم يقع بعد، ولكنه محتمل الوقوع، فذلك هو جانب من أهم الجوانب في حالة «النضج العقلي»، ولو كان هذا المقام يتسع للشرح المفصل، لاستخرجنا من صفة «التفكير المجرد» كوامنها المهمة، وكوامنها كثيرة، فمنها القدرة على إقامة «العلوم النظرية» كلها، ولست أعني بهذا الاسم ما قد درجنا عليه خطأ، من إطلاق اسم «العلوم النظرية» على الدراسات الأدبية التي ليس لها تطبيق على الواقع، بل نعني العلوم التي قوامها «نظريات» علمية؛ كالفيزياء والكيمياء وعلوم النبات والحيوان وغيرها وغيرها، وليعلم القارئ أن العلم يبدأ بمرحلة «التاريخ الطبيعي»، أي أنه يبدأ وصفا لما هو واقع ثم ينتقل إلى المرحلة الأعلى، وهي أن يكون «علما نظريا»، أي أن يجاوز مرحلة «الوصف» للواقع إلى مرحلة يصاغ فيها قانون نظري يغلب أن يصاغ صيغة رياضية، ولا أترك هذه المناسبة دون أن أذكر الكاتب الفاضل، بأن حضارة المصريين القدماء قد عرفت الأشياء معرفة «الوصف» والممارسة، وإن حضارة اليونان وإن تكن قد انتقلت إلى مرحلة «النظرية»، إلا أنها قد اقتصرت في ذلك على مجال الفكر الرياضي، ولم تستطع تحقيقه في العلوم الطبيعية بالصورة التي تحقق بها في العصر الحديث، وأعني الصورة الرياضية للقانون الطبيعي، كما نرى - مثلا - في قانون الجاذبية وغيره؛ فقد كان اليونان إذا ما صاغوا فكرا نظريا عن الطبيعة صاغوه في عبارات من حضارة المصريين وحضارة اليونان، نعم كان قد بلغ حدا من النضج، لكن عملية النضج بالنسبة إلى العقل الإنساني مستمرة والصعود دون أن يكون لها حد يحتم عليها الوقوف عنده.
وثالثة الصفات التي تتسم بها حالة «النضج العقلي» تقدير النسب الصحيحة بين الأشياء من حيث كمياتها وقيمتها بالقياس إلى غيرها حتى لا يصغر الكبير في أعيننا ولا يكبر الصغير، ولست بحاجة إلى التدليل على أهمية هذا الجانب في الإنسان الناضج عقلا، لكثرة ما نراه حولنا من فقدان القدرة على ضبط هذا التناسب حتى لترتفع التوافه أحيانا على حساب ما هو أهم وأخطر، إنه تناسب لا يستطيع ضبطه طفل ولا مراهق، كما لا تستطيع ضبطه شعوب في حالتها المبكرة من مراحل النمو، وقديما صور أفلاطون صورة تقرب لنا مثل هذا الضبط في النسب، فبعد أن أوضح أن طبيعة الإنسان مؤلفة من غرائز شهوانية، ومن عواطف، ومن عقل، رسم العلاقة بين هذه الجوانب الثلاثة في هيئة عربة يجرها جوادان جموحان، ومهمة السائق أن يمسك بلجام الجوادين حتى تنضبط خطواتهما في انسجام يضمن للعربة مسيرا ثابتا مستقيما؛ فأما السائق فهو «العقل » وأما الجوادان فهما العواطف والشهوات، وهكذا يكون العقل في ضبطه للأهواء على اختلافها، حتى لا يضل بها الإنسان في متاهات لا تحقق له الأهداف البعيدة والقريبة لحياته، وإن القدرة على تحديد تلك الأهداف تحديدا واضحا لهو بدوره صفة من أهم ما يمتاز به العقل الناضج.
ورابعة الصفات التي يتحقق بها نضج العقل الإنساني قدرة على تحليل الأفكار، وخصوصا ما هو مؤثر وفعال منها في حياة الإنسان تحليلا لا يراد به فقط أن يكون الإنسان على علم تفصيلي بمعنى الفكرة المعينة، التي يستخدمها نبراسا لحياته ودستورا يسلك على أساسه، بل يراد بها كذلك ألا تقع في ذلك الخطأ الخطير الذي يميل بصاحبه إلى الحكم على موقف معين بأحد ضدين، فإما هو ذلك الضد منهما وإما هو الضد الآخر، متجاهلا درجات الطيف التي تملأ الفجوة بين الضدين، فلا وسط عند أصحاب هذا التفكير «المتطرف»، أي التفكير الذي لا يرى إلا أن يكون الأمر إما على هذا الطرف من التضاد وإما على ذلك الطرف، أقول إنه لا وسط عند هؤلاء بين جمال وقبح، بين صواب وخطأ، بين كريم وبخيل، بين عالم وجاهل، بين صديق وعدو، بين غني وفقير ... وهكذا في حين أن كل هذه الأضداد تمثل الأطراف القصوى التي قد لا تكون لها وجود في الواقع؛ لأنها أقرب إلى المثل العليا، التي يسار إليها ولكن لا يوصل لها، وكل ما في مستطاع البشر هو أن يتجه في سيره نحو الأمثل عن الطرفين، وعلى أساس هذه التدرجات الوسطى، يكون الحكم العقلي الناضج، وهل يفوتنا هنا أن نذكر ذلك المثل الرائع الذي قدمه للناس واصل بن عطاء، حين ألقى على الحلقة الدراسية التي تحلقت في المسجد حول إمامها البصري، وكان واصل بن عطاء أحد الحاضرين، وكان السؤال الذي طرح عليهم هو سؤال عن الحكم على من كانوا سببا في إراقة دماء المسلمين في موقعة الخلاف بين علي كرم الله وجهه ومعاوية، أيحكم عليهم بالإيمان أم بالكفر، فأجاب واصل بن عطاء بما معناه أن الحكم إنما يكون وسطا بين الطرفين، أو - بعبارة واصل بن عطاء - أن الحكم الصحيح في هذه الحالة «يقع في منزلة بين المنزلتين»، فمن شارك في سفك الدماء في تلك المعركة، لا هو مؤمن كل الإيمان، ولا هو كافر كل الكفر، بل هو «مسلم عاص»، ومثل هذا التنبه للدرجات الوسطى بين الأضداد علامة على النضج العقلي.
ترى هل أوضحت شيئا من المعنى المقصود بتلك الكلمات الخمس، التي أوردتها في السياق الذي أسلفت ذكره؟ أرجو ذلك، ومني للكاتب الفاضل تحية وتقدير.
عن العقل ونضجه «2»
كان «أرثر كيستلر» قبيل وفاته منذ بضع سنوات، قد شغل نفسه بالأحداث الغريبة التي تقع لكل إنسان في حياته ولا يدري كيف يفسر حدوثها؛ لأنها تأتي وكأنها مدبرة بفعل فاعل، إلا أنه لا فاعل هناك يستطيع من وقع له الحادث أن يرد إليه حدوثه، والناس بعد ذلك صنفان: صنف منهما يلجأ في تفسير ما حدث إلى فعل «المصادفات»، وصنف آخر يبحث لغرائب الحوادث عن فاعل خفي يرى نتائج فعله ولا يراه، فماذا يفسر أن يخطر ببالك شخص معين لم تكن قد رأيته ولا سمعت منه أو عنه لمدة ربما طالت عشرات السنين، ثم يفاجئك بمكالمة هاتفية أو بخطاب تجده في صندوق البريد، أو ترى اسمه مذكورا في الصحف؟ وبماذا تفسر أن تحاول تذكر شيء كنت حفظته، كبيت من الشعر أو قول معين قاله قائل عظيم أو غير ذلك، لكن الذاكرة لا تسعفك مهما أجهدتها، ثم يحدث أن تنصرف عن ذلك كله، إلى موضوع آخر تطالع عنه ما تطالع، وإذا بالشيء الذي أخفقت الذاكرة في أن تقدمه إليك وارد أمام عينيك في الصفحة التي تطالعها.
وكثيرة جدا هي هذه الحوادث الغريبة، مما حدا بأرثر كيستلر - وكان في طليعة الطليعة من رجال الفكر في عصرنا هذا - أن يتجه إلى أمثال تلك الغرائب في حياتنا بكل جهده، وأذكر في هذا الصدد أنه أعلن في الصحف الإنجليزية عن رغبته في أن يرسل إليه كل من صادفته في حياته أحداث كهذه - أن يرسل إليه تفصيلاتها فجاءته الرسائل تملأ الزكائب (كما قرأت ما كتبه هو نفسه يومئذ عن ذلك)، ولست أعلم إن كان قد استطاع أن يجد ما يقوله على سبيل التعليل لتلك الغرائب، تعليلا يقرب من دقة العلم، أم أن المنية أسرعت إليه فبقيت الرسائل في زكائبها؛ وذلك لأني قرأت عن وفاته بعد ذلك بقليل، ومع ذلك فلم يكن الأمر متروكا لاجتهادات المفكرين، بل إننا لنعلم أن علماء النفس قد تناولوا الموضوع تناولا علميا، وجعلوه فرعا جديدا من فروع علم النفس، وأقيمت له كراسي الأستاذية في الجامعات، ربما لا يزيد على أصابع يد واحدة في إنجلترا والولايات المتحدة مجتمعين، ويشهد كاتب هذه السطور عن نفسه بأن أمثال تلك الغرائب كثيرا ما تقع له متفاوتة في درجة غرابتها، لكنه في جميع الحالات يحيلها إلى فعل «المصادفات»، إلا أنه في كل حالة منها يشعر بشيء من القلق الداخلي؛ إذ يشعر بأن إحالة التفسير إلى «المصادفات»، قد يكون فيه شيء من التناقض؛ لأنه إذا صلحت المصادفة أن تكون تعليلا معقولا، إذن فالمصادفة لم تعد مصادفة، وفي ذلك ما فيه من تناقض واضح، ومع ذلك فهو - أعني كاتب هذه السطور - سرعان ما يترك الأمر ليمضي دون أن يقف عنده وقفة يستحقها، ولقد شاءت لي هذه «المصادفات» المحيرة أن أكون ذات يوم بعيد، عضوا في لجنة امتحان الماجستير لرسالة علمية تقدم بها صديقي الأستاذ محمود أمين العالم، ولعلها أهم وأشمل وأدق ما صادفته مكتوبا عن المصادفة.
والذي دعاني إلى كتابة ما كتبته في الأسطر السابقة، هو ما رأيته ماثلا بين يدي من خطوط تلاقت، وكان الظن أنها أبعد ما تكون عن أن تتلاقى، فتلك الرسالة التي جاءتني تسأل عما قصدت إليه، عندما قلت في سياق حديث عن العقل وعن كون الإسلام آخر الرسالات السماوية، إن العقل الإنساني كان قد نضج بحيث تهيأ لقبول مبادئ لم يستطع الإنسان في ظروف سابقة أن يتمثلها «أما وقد نضج العقل الإنساني»، فقد حض القرآن الكريم الإنسان على إعمال عقله، ومن ثم فهو قادر - إذا اجتهد - على الاهتداء بعقله إلى حل المشكلات التي تستحدث في حياته، ولا يكون منصوصا عليها بحكم معين في الكتاب الكريم أو السنة الشريفة، وأجبت عن سؤال صاحب الرسالة بما أجبت به في الحديث السابق، لكني شعرت أن بقية من الإجابة ما زالت باقية في نفسي تريد الخروج، فأخذت أفكر لها في طريق تلتمسه لتجد نفسها مسطورة على ورق، وهنا حانت من البصر التفاتة إلى سطح مكتبي لأرى كتابا حديث الظهور عنوانه «عبد الرزاق السنهوري، أوراقه الشخصية»، إعداد الدكتورة نادية السنهوري، والدكتور توفيق الشاوي، فانفتح أمامي فجأة أفق فسيح، وقبل أن أدير غلاف الكتاب عادت بي الذاكرة إلى أول يوم من أوائل سنة 1947م؛ إذ كنت في لندن وسمعت أن وفدا جاء من مصر ليكون مع وفود الأقطار العربية في لقاء سياسي عن فلسطين مع وزير خارجية بريطانيا عندئذ وهو «أرنست بيفن»، وكان الوفد المصري برئاسة الدكتور عبد الرزاق السنهوري وكان الأستاذ أحمد أمين أحد أعضائه، فذهبت إلى حيث تقيم الوفود لأسلم على المرحوم الأستاذ أحمد أمين، وهناك وجدته جالسا في غرفة استقبال خاصة مع المرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الذي لم أكن قط رأيته قبل ذاك وجها لوجه، وإن كنت بالطبع قد عرفت عنه مما يكتب ويقال كثيرا وأكثر من الكثير؛ لأنه رجل ملأ الأسماع بأطيب ما يقال عن رجل بلغ الذروة في ميدان تخصصه نظرا وتطبيقا، ولكن «ليس راء كمن سمع»؛ فلقاء الرجل لقاء مباشرا يعطيك ما لا يعطيه سماعك عنه، قدمني إليه الأستاذ أحمد أمين، ولم يستغرق اللقاء بعض الساعة حتى انطبعت في نفسي عنه صورة قوية، همست لنفسي عنها آنئذ قائلا: «إن هذا الرجل عقل تجسد في إنسان.» وهي عبارة تصدق كذلك على الأستاذ أحمد أمين، فلا عجب أن رأيتهما معا.
وعدت إلى الكتاب الذي بين يدي «عبد الرزاق السنهوري: أوراقه الشخصية»، فقرأت أول ما قرأت مقدمتين كتبت إحداهما د . نادية السنهوري، وكتب الأخرى د. توفيق الشاوي؛ فأما المقدمة الأولى فتقطر حنانا وحنينا من ابنة تنشر أوراقا لأبيها ، وأما المقدمة الثانية ففيها تحليل وإيضاح عرفت مما ورد فيها، أن الدكتور السنهوري لم يكتب هذه الأوراق للنشر، وإنما كتبها لنفسه ليسجل فيها ما ينبض به قلبه، وما يجول بخاطره من خواطر وآراء ومخططات، ليرجع إليها هو حتى يستضيء بها في حياته، ويسير على هديها ويلتزم بها، إنها حديث مع نفسه هو لا مع الناس؛ لذلك فهي تمتاز بأنها أقرب للصدق؛ لأن الإنسان لا يكذب على نفسه عادة، وقد وصفها السنهوري نفسه بأنها مذكرات شخصية.
Page inconnue