لقد استطاعت مصر، عبر الحضارات المختلفة التي جاءتها من خارج حدودها، بعد أن أكملت شوطها الإبداعي في الحضارة المصرية القديمة، أقول إنها استطاعت أن تهضم الحضارات الجديدة هضما، مكنها من الإبداع فيها، ومن التفوق حتى على أصحاب الحضارة الوافدة إليها، وكان السر في ذلك هو إيمانها بما قد تلقته، ولعل ما ساعدها على ذلك الإبداع والتفوق أن جوهر الحضارات الجديدة كان ذا صلة بجوهر الحضارة المصرية القديمة، في كونه دينيا أخلاقيا، لكنها حين تلقت حضارة هذا العصر، وجدت أساسها شيئا آخر هو «العلم» بمعنى جديد لكلمة «علم»، ولم يكن عسيرا على المصري المتحضر بكل ما قد تحضر به، أن يهيئ نفسه لهذا الجديد الوافد، مادة ومنهجا، لكنه - وا أسفاه - قد ضيع على نفسه الريادة التي ألفها وعرف بها فيما مضى، بأن استمع إلى من جعلوه يقصر نفسه على «حفظ» العلوم الجديدة، مع الحذر حتى لا ينتقل معه منهج تلك العلوم، كلما انتقل من أماكن عمله العلمي، إلى حيث الحياة اليومية في صورها المختلفة، إذا أرادوا له هناك أن يخلع عن عقله منهج العقل، كما قد خلع عن جسده ثياب العمل.
وللحرية شيطانها
الخيط رفيع بين الحرية والتمرد، فهو في دقته يشبه الفرق بين الحرم والحرام، ومن هنا جاءت سهولة الخلط بين الصفتين، فهي حركة يسيرة تتحرك بها قدم، تبدي ملائكة الحرية في أعين الناس وكأنهم من مردة الشياطين: أو تبدي مردة الشياطين في أعين الناس وكأنهم الملائكة بين البشر، قد رفعوا لحرية الإنسان لواءها، فلا عجب أن فصلت اللغة بحرف واحد بين «الحرم» في طهره وقداسته، و«الحرام» في لعنته ونجاسته، إنه خيط رفيع ذلك الذي يفرق بين المرغوب فيه والمرهوب الجناب؛ كالخيط الرفيع الذي فرق بين بكاء الحمامة وغنائها، حتى لقد وقف أبو العلاء على مسمع منها، يتساءل في حيرة:
أبكت تلك الحمامة أم غنت؟
حتى النور والظل اللذان تراهما من بعيد: فكأنك ترى ضدا بجوار ضده يتمايزان، لكن اقترب من الفاصل بينهما، تجده خليطا بين ظل ونور، فلا تدري أين يفترقان.
ولو لم يختلف الأمر بين ملائكة الإنسانية وشياطينها، لما صعب على القضاة في أثينا القديمة؛ إذ هم يحاكمون سقراط على ما أساء به - في زعمهم - إلى شباب المجتمع الأثيني، فقد أخذتهم حيرة، أيضعون تلك المنارة البشرية مع جماعة الملائكة لنورانيته أم يحشرونه في زمرة الشياطين لتمرده على أعراف المدينة وتقاليدها؟ ولو لم يكن الخيط رفيعا بين الضدين لما اختلط الأمر على القضاة الذين حاكموا جان دارك، فلقد شيطنوها فأحرقوها، ثم جاء التاريخ بعدئذ ليقوم ما قد انحرفوا به من ضلال، ولولا اختلاط الأمر على الناس في التفرقة بين الضدين لما حوكم أحمد بن حنبل محاكمة لقي فيها من التعذيب ما يشيب له الولدان. والأمثلة على مدار التاريخ لا تقع تحت حصر.
ولم يكن خطأ المخطئين حين رفعوا بعض شياطين البشر إلى صف الملائكة، وهبطوا ببعض الملائكة البشر إلى حضيض البشر، راجعا إلى طبائع الأشياء بقدر ما كان صادرا عن خبث في طبيعتهم، بحيث تملكهم الهوى، فلم يروا الحق إلا فيما يحقق لهم هواهم، على أن عصور التاريخ بعد ذلك، تختلف عصرا عن عصر؛ فعصر تكون فيه تلك الحيرة التي تخلط الحق بالباطل أمثلة فردية متناثرة، لا تغير كثيرا من الصفة الغالية؛ كأن تكون قلة قليلة من الناس هي التي تجعل من الحق باطلا، وأما بالنسبة إلى الكثرة الغالبة فالحق حق والباطل باطل، يتميزان حتى ولو كان الذي يفصل بينهما خيط رفيع، وعصر آخر تكون فيه القلة القليلة هي التي تحق الحق وتدعم الباطل في وضوح لا ينقص منه شيئا أن يكون ما بينهما خيط رفيع، وأما كثرة الناس الغالبة، فهي عند التفرقة بين ملائكة البشر وشياطينهم، في تخبط وضلال.
وكثيرون هم أولئك الذين يراقبون عصرنا، ويراجعونه، ويحاكمونه أمام ضمائرهم، فيرونه عصرا أعتم حتى ليتعذر على أهله أن يتبينوا الخيط الأبيض من الخيط الأسود، لقد اضطربت الأمور في عصرنا اضطرابا، بات عسيرا معه أن ترى الفرق بين صواب وخطأ، فإذا بحثت عنه كنت كمن يبحث في غرفة مظلمة عن قطة سوداء، ولماذا اضطرب إلى هذا الحد البعيد الخطير؟ كان مرجع ذلك إلى أن عصرنا هذا كتب عليه أن يكون مرحلة انتقال بين حضارتين: حضارة تشققت جدرانها في الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، ثم انهارت تلك الجدران في الحرب العالمية الثانية (1939-1945م)، فأسدل ستار على مشهد كان، ليرفع على مشهد آخر في طريق التكوين، وذلك هو المشهد التاريخي الذي نحن ممثلوه، إن كل شيء في سبيله إلى أن ينسج نسجا جديدا، بعد أن اهترأ نسجه القديم: لم يعد الطفل هو الطفل الذي كان، ولا الشاب هو الشاب، ولا المرأة هي المرأة، لم تعد النظم الاقتصادية، والنظم التعليمية، ونظم الحكم هي النظم التي كانت، فكل شيء في حالة تحول كما تتحول الدودة إلى شرنقة، والشرنقة إلى خيوط الحرير، وهذا هو عصرنا، ومن ثم جاءت صعوبة التحديد بين خطأ وصواب؛ لأنك لا تكاد تفرغ من حكمك على الدودة بأنها دودة حتى تتحول بين يديك إلى شرنقة، وهكذا تحكم على الضياء بأنه ضياء؛ لأنك قد تغمض الطرف عنه لتنتبه بعد لحظة، فإذا الضياء قد لفه ظلام، أو تحكم على الظلمة بأنها كذلك، فلا تلبث أن تراها وقد صارت إلى ضياء.
في هذا العصر المضطربة أحكامه، اختلط على الناس أين الحرية وحدودها، وأين أضدادها من أصفاد وأغلال، وقد يخيل إلينا أن الفواصل بين الحرية وأضدادها واضحة في بعض الحالات، كما هي الحال - مثلا - في مجال السياسة بين حاكم ومحكوم، أو في مجال التجارة بين حركة تنساب بلا قيود، وأخرى تقيدها قوانين، لكن تلك الفواصل شديدة الغموض - يقينا - في حالات أخرى، ومنها حرية العلم إذا ما خيل لأولياء الأمر أنها قد أخرجت نتائج تتعارض مع ما قد جرى في حياة الناس مجرى العقائد، ها هنا قد تأخذ الحيرة برقاب العلماء، فهم - من جهة - حريصون على ألا يتقيد العلم إلا بقيود نفسه، فله مناهج تقيد خطاه حتى لا تنحرف عن سواء سبيله هو، ولكنهم في الوقت نفسه - شأنهم شأن سائر عباد الله - حريصون على أن تسلم لهم عقيدتهم فلا تشوبها شائبة من شك وانحلال، وفي حيرة كهذه يكون من حق العلماء أن يتساءلوا: أين المفر؟ فلا يكون لمثل هذا التساؤل - فيما يبدو - إلا واحدة من اثنتين: فإما عقيدة تصمد على حساب العلم ، وإما علم تطلق له حرية البحث والوصول إلى نتائجه حتى ولو جاء ذلك على حساب العقيدة، وربما كان في «فاوست» وقصته مع الشيطان «ممفستوفولس» ما يصور هذا التضاد المزعوم بين الطرفين؛ فقد كان فاوست محبا للبحث العلمي في حقائق الطبيعة، وكان في مستطاع ممفستوفولس أن يمده بالعون في هذا السبيل، لكنه اشترط لعونه هذا أن يدوم عددا من السنين، ظنه فاوست عددا كبيرا بطيئا ما يزول، حتى إذا ما بلغت الفترة الموعودة ختامها، أماته الشيطان على غير إيمان، وإن الرواية لتروى عند من يروونها - رواها «جوتة» ورواها «مارلو» الإنجليزي في عصر النهضة - أقول إن الرواية تروى عن فزع فاوست، حين رأى أنه قد باع إيمانه من أجل علم ما ترتعش له أبدان القارئين.
ولكن من حقنا أن نسأله: أصحيح أنه إما علم وإما دين؟ وعن سؤال كهذا، كان أبو العلاء المعري قد أجاب في بيتين من الشعر، بما معناه: نعم، إما هذا وإما ذاك ولا جمع بين الطرفين، على أنه جعل المقابلة بين العقل والدين والحاصل واحدا أن تتحدث عن العقل أو عن العلم؛ إذ الأول هو وسيلة الثاني، ففي بيتي الشعر اللذين أشرت إليهما، قال المعري ما معناه: إن أهل الأرض هم أحد رجلين، فإما أن يكون الإنسان ذا عقل وعندئذ يتحتم أن يكون بغير دين (على أساس أن الدين يبنى على إيمان بالقلب)، وإما أن يكون ذا دين فيتحتم أن يكون بغير عقل، وهو موقف من المعري لا يسايره فيه كاتب هذه السطور؛ إذ يرى هذا الكاتب أن أبا العلاء قد خلط بين أمرين، هما «الإنسان» في مجموع تكوينه إنسانا، و«اللحظات» المتفرقة التي تتعاقب عليها حياة الإنسان، فبينما هو صحيح - في رأي هذا الكاتب - أن «اللحظة» الزمنية التي يكون الإنسان المقيم منشغلا فيها بعملية عقلية في علم من العلوم؛ كأن يستدل بمعادلة رياضية من معادلة أخرى أو يجري تحليلات كيماوية في معمله، هي لحظة محايدة بالنسبة للعقائد على اختلافها؛ لأننا قد نتصور مثل ذلك العالم الرياضي، أو هذا العالم الكيماوي على أية عقيدة كائنة ما كانت ، دون أن يتأثر عمله العلمي في لحظته تلك، ثم تأتي في حياته لحظة أخرى يذكر فيها الله سبحانه وتعالى، عابدا إياه على طريقة دينه في عبادة الله، وعندئذ لا يكون علمه ذا شأن، ومجموع اللحظات بنوعيها هو «الإنسان»، إذن فليس صحيحا أن «الإنسان» إما ذا عقل علمي وإما ذا دين، بل الصحيح هو أن في الإنسان الواحد يلتقي الدين والعلم، ولا ينفي ذلك أن يكون لكل جانب منهما لحظاته.
Page inconnue