بهذا تكون «كل» عملية إدراكية، نعم «كل» بلا استثناء، منطوية على قيام أطراف تشابهت، وفي الوصول إلى المعرفة عن طريق التشابه بين الأطراف، تقع لنا فجوة كان حقها أن تثير فينا القلق على صدق تلك المعرفة، لكننا على العكس نشعر بالطمأنينة برغم الفجوة، وهي طمأنينة تمليها فطرة الإنسان عليه إملاء، وكأنما هو وحي داخلي في طبيعة الإنسان، بأن الله سبحانه قد أراد لنا الهداية بما يشبه النور الذي تراه القلوب ولا تراه الأبصار.
وإذا وجدت نفسك - أيها القارئ - على قلق من أن يكون للتشابه كل هذا الثقل في عمليات المعرفة، فهات أي مثل تريد، لموقف فيه معرفة أدركتها، وانظر، فمثلا: قد ترى صديقا لك في الطريق، فتعرف أنه هو فلان، فكيف عرفت ذلك؟ إنك عرفته من مقارنة سريعة أجريتها بين صورة ذلك الصديق كما هي مختزنة في ذاكرتك، وبين صورة الرجل الذي رأيته في الطريق، فوجدت تطابقا، أي أنك وجدت تشابها بين الصورتين، ومن هذا المثل البسيط، تستطيع أن تتصور كيف أنك في كل موقف تتعرف فيه على شيء أو تدرك فيه حقيقة شيء، تلجأ إلى مقارنة تجريها بين قديم عرفته وجديد طرأ عليك وتريد أن تعرفه، وفي مثل هذه المقارنة تكمن علاقة الشبه التي هي محور الإدراك.
ومضت بعد الإمام الغزالي سبعة قرون أو نحوها، وظهر ديكارت ليتناول ما يعرفه بالمراجعة ابتغاء اليقين، وارتكز في ذلك على الركيزة التي استند إليها الغزالي، وهي أن نبدأ من صور أولية في فطرة الإنسان، لنخرج منها نتائجها، وبينما هو سائر على هذا الطريق في خطواته الأولى، وجد أنه إذ هو يستدل يقينا من يقين، تنشأ له تلك الفجوة التي أشرنا إليها، فمثلا إذا قال: إن الخط «أ ب» يساوي الخط «ج د»، لكن هذا الخط يساوي خطا ثالثا هو «ه و»، إذن يكون الخط الأول «أ ب» مساويا للخط الثالث «ه و»، فنشأ له السؤال: كيف تركبه إلى هذا اليقين الرياضي، مع أنك تنتقل من خط إلى خط، وتستغرق عملية الانتقال فترة من الزمن، لا حيلة لك فيها إلا أن تركن إلى ذاكرتك، لتحفظ لك حقيقة الخط الأول ومساواته للخط الثاني، وتحتفظ بها ريثما ينظر في مساواة أخرى بين الخطين الثاني والثالث، ألا يجوز على الذاكرة أن تسهو فتدس شيئا من الخطأ فيما كان قد وكل إليها حفظه، فلم يكن أمام سؤال كهذا من سبيل، سوى التسليم بأن ذلك ممكن من الناحية النظرية، لكن شعورا بالطمأنينة ينبثق من فطرة الإنسان، بأن مثل هذا التضليل من الذاكرة لا يحدث بالفعل، مما يجعلنا نظل على يقيننا بصحة الاستدلال الرياضي، ولماذا لا يحدث ذلك التضليل من الذاكرة؟ كانت الإجابة عند ديكارت هي: أنها رحمة الله بالإنسان، إن صنعت له فطرة تهديه إلى ما هو حق.
إنك لا تجاوز الصواب، إذا قلت إن كثرة غالبة من عمليات الفكر، حتى في أدق العلوم، ومنها العلوم الرياضية بأسرها، تعتمد على ما يسمونه بالعلاقة «المتعدية»، وأبسط مثل نوضح به تلك العلاقة، هو أن نقول: إذا كانت «أ» تساوي «ب» وكانت «ب» تساوي «ج»، إذن تكون «أ» مساوية ل «ج»، فها هنا قد ربطنا بين «أ» و«ج» عن طريق «ب» التي تجعلها حلقة اتصال بين الطرفين، ثم تتعداها، ولو دققت النظر في هذه العملية الاستدلالية، التي تمثل الطريقة التي يعمل بها العقل في معظم عملياته العملية، وجدتها تتضمن تلك الفجوة التي حدثتك عنها، أي أنه لا بد للعقل من قفزة يقفز بها من موقف إلى موقف ثان، لكي تتاح له أن يقفز قفزة أخرى يربط بها الطرف الأول بالطرف الأخير، وهو في قفزاته تلك يكون في فراغ؛ لأنه يبعد مؤقتا عن الموضوع المطروح للتفكير فيه، وكما ذكرنا من قبل، أن العقل خلال هذه الانتقالات، يعتمد في صحة سيره، على أمانة الذاكرة، حين تحفظ له الجزء الأول، ريثما ينتقل إلى الجزء الثاني، فإذا سألنا: كيف يمكن أن يقام بناء العلوم، وفي مقدمتها علوم الرياضة المعروفة بيقين صحتها، أقول: كيف يمكن أن يقام بناء العلم على أساس الثقة في صدق الذاكرة وأمانتها؟ فيكون جواب السؤال، الذي لا جواب سواه، هو أن فطرة الإنسان تدفعه دفعا إلى الطمأنينة، فإذا لم يكن يدري لماذا تدفعه تلك الفطرة إلى الثقة فيما لا يستحق كل هذه الثقة - وأعني «الذاكرة» - أجابه مفكر كالإمام الغزالي، أو فيلسوف مثل ديكارت، بأنه نور يقذفه الله في صدورنا لنهتدي به في تلك اللحظات الحرجة! إبان السير في عمليات التفكير العلمي؛ لأنه بغير تلك الهداية الإلهية، لم يكن لينشأ علم وعلماء.
وإذا تركنا مجال التفكير العلمي، إلى ما سواه من سائر المجالات، التي هي كثيرة ومتنوعة، ولا تكتمل للإنسان حياة بغيرها، مثل «الإرادة» التي بها يختار الإنسان أهدافه التي يسعى إلى تحقيقها، ومثل «الإيمان» بعقيدة دينية، أو «الاعتقاد» في فكرة سياسية أو غير سياسية، وأمثلة أخرى من مجالات أخرى كالفن والأدب وغيرهما، أقول إننا إذا تركنا مجال «العلوم» إلى شتى المجالات الأخرى، التي هي ضرورة في حياة الإنسان، كضرورة العلوم، إن لم تكن أكثر لزوما، وجدنا ما يشبه الفجوات التي وجدناها في التفكير العلمي، والتي قلنا عنها إنها تظل بغير تعليل، إذا لم نعللها بلطف الله بعباده على حد ما قاله ديكارت في هذا الصدد؛ وذلك لأننا في أي مجال من تلك المجالات الأخرى، واجدون حتما ما يدعونا إلى التساؤل قائلين، ما الذي يبرر هذه الفكرة لصاحبها، ولماذا لم يقع على فكرة أخرى؟ فمثلا، خذ مجال «الإرادة» حين نجد الكثرة الغالبة من البشر قد «أرادت» أن تكون «الحرية» هدفها الذي تسعى إليه، فنسأل: لماذا لم تقع إرادة الإنسان على «العبودية» مطلبا؟ فلست أظن أنك واجد لنفسك جوابا مقنعا ، إلا أن تقول إنها فطرة فطر الخالق سبحانه وتعالى الإنسان عليها، تماما كما قلنا عن افتراض الأمانة في الذاكرة عند الانتقالات القصيرة، من المقدمات إلى نتائجها، في التفكير العلمي.
وهكذا يرى الإنسان، في كل خطوة يخطوها بعقله في العلم، أو بوجدانه في العقيدة، أو بإرادته في دنيا الغايات والوسائل، إشارة دالة على أن الله معه، يهديه بما ألهم فطرته، ذلك إذا أحسن الإنسان إصغاءه إلى فطرته وهي في نقائها، لم يفسدها التضليل وخبث النوايا.
طريق القدماء طريقنا ... ولكن
كنت ذات يوم من شهر ديسمبر سنة 1953م، أسير في شوارع نيويورك، ومررت في طريقي بمكتبة فدخلتها، وإذا أول ما يواجهني عند دخولها، قائمة خشبية صغيرة، ذات طوابق أربعة، وكان الرف في كل طابق فيها مربعا، رصت على كل جانب من جوانبه الأربعة مجلة أو مجلتان، وقد وضعت تلك القائمة الخشبية مستقلة بذاتها عند المدخل، وكأنها عالم متوحد بذاته، لا شأن له بما احتوت عليه المكتبة من كتب وغير كتب مما تعرضه المكتبات، فأخذت أدور ببصري حول المجلات، واحدة واحدة، في الرفوف الأربعة جميعا، ومن تلك اللمحة السريعة عرفت لماذا استقلت تلك المجموعة بمكان خاص يعزلها عن المعروضات الأخرى، ويبرز وجودها في الوقت نفسه أمام الزائرين؛ وذلك أنها كانت كلها مجلات أوغلت في تخصصات بعيدة بعدا شديدا عن التيار العام، وكان بينها مجلة جعلت عنوانها: «من أدب الثقافات الأخرى»، فالتقطتها لأرى محتواها، وإذا بعيني تقع أول ما تقع في فهرس الموضوعات على اسم طه حسين، واسم توفيق الحكيم، وأمام كل اسم منهما عنوان الموضوع الذي ترجم عنه من أصله العربي إلى الإنجليزية، فاشتريت المجلة ومضيت في سبيلي، مكتفيا من تلك المكتبة بهذا الغنم الكبير.
وما كدت أستقر في مكمني مع قدوم الليل، حتى جعلت المجلة سميري، وبدأت، طبعا، بقراءة الترجمة الإنجليزية للنصين المنقولين عن طه حسين وتوفيق الحكيم، ولا بد لي هنا أن أشير إلى الفرحة الهادئة التي سرت في كياني وأنا أقرأ، وهي فرحة المزهو بنفسه إذا ما وجد بضاعته تغزو أسواق الآخرين، وكأنما أنا الكاتب الذي ترجم عنه النصان معا، قل إنها فرحة صبيانية إذا شئت، لكنني أقص عليك واقعا بحذافيره، إلا أن الذي استوقف نظري فيما بعد، عندما فرغت من القراءة وأخذت أسترجع انطباعها في نفسي، هو أنني أحسست فيما قرأته مترجما عنا، وكأنه في إنجليزيته كالغريب في غير وطنه، نعم أحسست وكأنما المعاني في المقطوعتين، لم تخلق إلا لتكون في ثوب عربي، وهو شعور يشبه ما كنت أشعر به أحيانا في أوروبا إذا صادفت عربيا يلبس قبعة، فلأمر ما لم أحدده لنفسي حتى الآن، كنت أرى القبعة غريبة على الرأس العربي، وقلما وجدت انسجاما بين الرأس العربي والقبعة، وهكذا أحسست بشيء من الغرابة أو قل من الغرابة أو الإغراب، بين المضمون العربي والثوب الإنجليزي الذي وضعوه فيه، ولم تكن الغرابة من جنس واحد تماما، في طه حسين والحكيم؛ فأما طه حسين فقد رأيت في جلاء كيف أن الإنجليزية قد ناءت بفيض القول على معناه، فكلمات كثيرة كانت لها طلاوتها في العبارة العربية، بدت وكأنها زوائد قليلة المعنى في الترجمة الإنجليزية، وأما في حالة توفيق الحكيم فقد كانت القطعة المترجمة، فيما أذكر عن بيعة الخليفة أبي بكر الصديق تحت السقيفة؛ فالنص العربي الذي يقرؤه أي قارئ عربي مهما خفت موازينه في عالم الثقافة، دون أن يشعر بحاجة إلى شرح وتوضيح، قد تطلب من المترجم الذي نقل النص إلى الإنجليزية، أن يقف عدة مرات في الجملة الواحدة ليشرح في الهامش ماذا يقصد بهذا وبهذا وبذاك، مما ورد في كل جملة على طول النص من أوله إلى آخره؛ ففي حالة طه حسين، لم يكن المضمون، بل ثوبه العربي هو موضع الغرابة على قارئه في سياق الإنجليزية، وأما في حالة توفيق الحكيم فلم تكن الغرابة في نقل النص العربي إلى ما يقابله في اللغة الإنجليزية، بل كانت الحقائق المروية هي التي بعدت عن الطريق العام بالنسبة إلى القارئ الإنجليزي؛ ولذلك احتاجت من المترجم إلى تعليقات شارحة كثيرة، لماذا؟ لأننا ونحن نقرأ عن موقف هام من تاريخنا الإسلامي، نقرأ عن أشياء ألفناها وتعودنا سماعها، حتى ولو لم نكن على علم بتفصيلاتها، ولكن الأجنبي عن تاريخنا يحس غربة شديدة.
سواء أكان موضع الغرابة في ثوب إنجليزي يرتديه أدب أو فكر عربي، من الصنف الذي شعرت به في القطعة المترجمة عن طه حسين، أم كان من الصنف الثاني الذي وجدته في القطعة المنقولة عن الحكيم؛ فقد كان الدرس الذي خرجت به من الحالتين واحدا، وهو أن للعربي مناخه الثقافي المتميز الفريد، لفظا ومضمونا، ولست أقول هذا لأدهش منه أو لأزعم أنه هو الدرس الجديد الذي تعلمته يومئذ، فلكل ثقافة في الدنيا شيء من هذه الخصوصية، التي يألفها أصحابها ولا يألفها الغرباء، وإنما أقول هذا لأشتق منه نتيجة أراها حجة قوية تبين صلتنا بأسلافنا، ألا وهي التشابه الذوقي بين الأحفاد والأجداد، ولعل ذلك التشابه في الذوق الفني والذوق الأدبي أقوى ما يعمل على ربط الثقافة الواحدة عبر عصورها، في تيار واحد، حتى وإن اختلفت مراحله اللاحقة منها عن السابقة، بل لا بد لها أن تختلف، فهناك الذوق المشترك من حيث الأساس، يربط ولدا بوالد. وأسوق لك مثلا بسيطا، غاية في البساطة، هو «المفعول المطلق» في اللغة العربية، كم هو يشبع مسامع العربي، في حين أن اللغات الأخرى لا تعرفه، ومن هنا كانت ترجمته إلى تلك اللغات مستحيلة، واستمع إلى قول القرآن الكريم:
Page inconnue