سعيد هو ذلك الذي يجد في عتمة الليل سراجا يضيء له الطريق كالمنارة ترسل أضواءها، لتنفذ في سماء البحر والسماء كلاهما قد التف في سواد الليل والسحاب، فتقع السفينة في حيرة ربانها، حتى تتلقى من منارة الشاطئ أضواءها الهادية، فتهتدي إلى طريقها نحو المرفأ الآمن.
وما أكثر ما وقعت الأمم، عبر تاريخها، في حيرة شبيهة بحيرة تلك السفينة التائهة وربانها، قبل أن تهديها المنارة بأضوائها، وقد تختلف مواقع الحيرة في حياة الأمم، لكن أبرزها ظهورا، موقع تجد الأمة نفسها فيه، وقد تنازعتها أقسام الزمن الثلاثة: ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها، يريد كل قسم منها أن يحتكرها لنفسه، وكان الأصل في الحياة السليمة، أن تتناسق تلك الأقسام الثلاثة جميعا، بحيث يأخذ كل قسم منها موضعه الصحيح، كما تتناسق طفولة الإنسان القوي وشبابه، مع مرحلة الرجولة الناضجة، إن أحدا لا يطالب الرجل المعافى أن يظل على طفولته اللاهية، برغم ما يكون في لهو الطفولة من نعمة وبراءة، ولا أن يطالبه بأن يقف عند شبابه الحالم، برغم ما تحمله أحلام الشباب من لذة الأمل، ومع ذلك، فالرجل الناضج القوي المعافى، لا بد له من لحظات يغفو فيها عن حاضره المليء بالنشاط والعمل، ليرتد بذاكرته إلى أيام طفولته، ليرى براءتها اللاهية فيبتسم، كما يحدث أن يعود كاتب بلغ ذروة الأدب، إلى كراسة الإنشاء عندما كان تلميذا صغيرا في أوائل مرحلته الأولى من مدراج التعليم، فيقرأ ليضحك ضحك المشفق العاطف على الطفل الذي كان، والذي خرجت من جلده عبقرية أدبية فيما بعد، ولقد صدق القول الذي يقول: «إن الطفل هو أبو الرجل» بمعنى أنه من البذور التي كانت في حياة الطفل، نشأت جذور، ومن هذه تكون الساق، فالفروع، فالأوراق، فالأزهار والثمار، وعند هذه المرحلة من اكتمال النماء والنضج، تتكون في حياة الإنسان مرحلة اكتماله ونضجه، ليتلوها انحدار إلى ذبول فموت.
وكما يرتد الإنسان من ذروة اكتماله ونضجه، آنا بعد آن، إلى طفولته وذكرياتها، يرجع إلى عهد شبابه، وهنا لن يجد شيئا كبراءة الطفولة ولهوها، بل يجد حيرة بين ممكنات عدة، لا يدري في أي منها يشق طريقه إلى مستقبله؟ وكلنا يعلم من تاريخ حياته كيف وجد نفسه، وهو في مطلع شبابه، أمام بدائل كثيرة، يظن أنه قادر عليها جميعا، ولا يبقى عليه سوى أن يختار منها أحدها، إنه أشبه بمن يجد نفسه في مفترق طرق كثيرة ومتفرعة، كل منها يؤدي - بالطبع - إلى نهاية غير التي تؤدي إليه البدائل الأخرى، وإنه لقادر على السير في هذا الطريق، قدرته على السير في ذاك، ولكن عليه أن يختار لنفسه طريقا؛ لأنه لا يستطيع السير فيها كلها معا في وقت واحد، نعم كلنا يذكر كيف خيل إليه في مطلع شبابه، أنه يستطيع أن يمشي في طريق الشعر ليكون واحدا من فحول الشعراء، أو أن يمشي في طريق العلم ليكون من كبار العلماء، أو أن يمشي في طريق المال، أو في طريق القوة العسكرية، أو في طريق السياسة، لكن الحيرة هي: أي الطرق يختار، وقلما تكون الحيرة منصبة على «القدرة»؛ لأن الشباب يفترض في نفسه القدرة، وكثيرا ما يسرف في افتراضه هذا، حتى ليتحول معه الموقف إلى شطحات الخيال الجامح، إلى أن يصدمه «الواقع» العنيد، فيرده إلى صوابه، وكل ذلك لا ينفي أن يكون شباب المرء بما فيه من ثراء الممكنات، هو الينبوع الذي انبثق منه نضج الرجولة، عندما تتبلور الممكنات الكثيرة في طريق «واقعي» واحد.
هكذا تختلف المراحل في حياة الفرد الواحد، اختلاف التناسق، وليس اختلاف تناقض هدام: طفولة تنبثق منها مراهقة وشباب، ومن الطفولة والشباب تنبثق مرحلة النضج، ثم يبدأ الذبول فالرحيل، لتتعاقب الأجيال، لكن هذا التناسق الحيوي البناء، لا يتحقق في صورته المقبولة إلا في حالة الصحة وسلامة التكوين، أما إذا اضطربت خطوات السير بالمرض أو ضعف النشأة وسوء التنمية البشرية، فهنا قد تجد طفولة تمتد مع صاحبها من مهده إلى لحده، أو تجد مراهقة قد حلت محل النضج، وبهذا الاضطراب تمر الأعوام على غير مألوفها، فكأنها لم تعد أعواما تمضي بصاحبها في مدارج الصعود نحو اكتمال النضج والإبداع، بل انقلبت مراحل الزمن لتصبح وكأنها يوم واحد مكرر، أو ليصبح الزمن وكأنه وعاء بلا قاع يمسك خيرات الحياة ليراكمها فتزداد قوة وهداية.
ومثل هذه الاستقامة أو العوج في تتابع المراحل من حياة الفرد الواحد، قد يتسع ليصيب أمة بأسرها؛ فالأمة السليمة المعافاة، تحيا حياتها كما يحيا الفرد السليم المعافى حياته، فتبدأ مرحلة البساطة، لتنتقل منها آخر الأمر إلى نضج حضاري يوازي نضج الرجولة في قوته، وفي مغامرته نحو أن يقهر الصعاب ليخضعها لسلطانه قبل أن تخضعه، فتتركه بين أيدي الأقوياء هزيلا ذليلا، وإذا شئت مقارنة بين الحالتين، فقارن أربعة قرون في حياة الأمة العربية امتدت بين القرن السابع الميلادي والقرن الحادي عشر، بأربعة قرون أخرى في حياة الأمة ذاتها، امتدت بين القرنين السادس عشر والعشرين، ولا أظنك إلا واجدا في الحالة الأولى إنسانا يصعد درجات أربعا في قوة تتزايد، وفي علم يتزايد، وفي إبداع حضاري يتزايد، كما أني لا أظنك إلا واجدا في الحالة الثانية إنسانا يهبط درجات أربعا، في قوة تتناقص، وفي إبداع علمي يتناقص، وفي قدرة على البناء الحضاري تتناقص، وإني - على قول المتنبي:
أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
فالمعول في الصعود أو في الهبوط هو «الإبداع»؛ فالصاعد «يبدع» لنفسه ما يصعد به، وأما الهابط فتضيع منه القدرة على الإبداع فيهوي إلى الحضيض، على أن الحضيض هنا نوعان: فحضيض منهما يكون فيه الضعف والجهل والفقر، وما إليها من ظواهر الانحلال والتدهور، وحضيض آخر فيه العلم مأخوذا من الآخرين، وفيه الصحة مأخوذة من طب الآخرين، وفيه قوة القتال معتمدة على سلاح صنعه آخرون، وفيه - على الجملة - جوانب حضارية قائمة، لكنها جوانب مشتولة من بساتين الآخرين، وبهذا يكون هذا النوع الثاني من الحضيض، حضيضا ظاهره ثراء وعلم وسلطان، وباطنه عود من الحطب الجاف، علقت عليه الثياب الزاهية.
على هذا النحو كنت بالأمس أتأمل حالة «القلق» التي تجتازها الأمة العربية اليوم، بكل شعوبها ولا نستثني شعبا منها، حتى لقد بادرني زائر لسؤاله: فيم تفكر؟ فلما أجبته قائلا في صدق: كنت أفكر في حالة القلق التي تملأ صدورنا، أسرع من ناحيته إلى اعتراضي فقال: «القلق» يا أخي حالة «طبيعية» في فطرة الإنسان، وإذا سكن القلق في إنسان، كان معناه أن ذلك الإنسان قد مات، وحالة القلق عامة لا تقتصر على فرد دون فرد، ولا على أمة دون أمة أخرى، ففيم حملك للهموم في غير عائد ولا طائل؟ فقلت معلقا: أحسبك يا صديقي قد خلطت بين قلق وقلق؛ فالقلق الفطري الذي هو في صميم الحياة البشرية شيء، والقلق الذي تحدثه الأحداث الطارئة شيء آخر، وأشرح لك الفرق كما أراه، شرحا مختصرا فأقول: إن القلق الحيوي الذي لا يشكو منه أحد، ومصدره تداخل اللحظات الثلاث: الماضية، والحاضرة، والمستقبلة، في كل نبضة من نبضات الوعي؛ وذلك أن الإنسان وهو في لحظته الحاضرة، يرى فيها ما يراه، ويسمع ما يسمعه، تكون اللحظة السابقة لا تزال تجرجر أذيالها لتمضي، أي أن لها بقية من حضور، وكذلك تكون اللحظة القادمة قد أخذت ترسل إلى بؤرة الوعي بشائرها ومقدماتها، فيكون الإنسان عندئذ مشدودا بجزء آخر من وعيه نحو ما مضى، ومشدودا بجزء آخر من وعيه نحو ما هو على وشك الظهور، وأما بقية الانتباه الواعي فتتركز فيما هو ماثل بين يديه، فينتج نوع من الشد والجذب، هو الذي يحدث الشعور الدائم بالقلق، بل إن الحياة العضوية نفسها ليعتريها قلق دائم من هذا القبيل، وهو سر قيام الحياة في الكائن الحي، وانظر إلى حركة التنفس شهيقا وزفيرا، وفي نبضات القلب إذ هي تنبض ثم تستريح لتعود فتنقبض، وفي حالتي الجوع والظمأ، يزولان بالطعام والشراب، ليعودا بعد حين بنداء جديد، ففي جميع هذه الحالات وأشباهها، تستبد بالكائن الحي حالة معينة فيأخذه قلق، فيشبع صاحب تلك الحالة ما قد اعتراه من نقص، فيزول القلق، ثم لا يلبث أن يعود، وهكذا دواليك وتلك هي «الحياة» في صميم صميمها.
لكن هذه الحالات القلقة، وإشباعها، ثم عودتها، وكذلك حالات الوعي المشدود بين «حاضر» مخلوط ببقايا لحظة فاتت - من جهة وبمقدمات لحظة آتية - من جهة أخرى، وما يتولد عن تلك الحالة الطبيعية من قلق، أمر يختلف عن القلق الطارئ علينا بفعل الحوادث والظروف، وهذا النوع الثاني هو ما نشكو منه، ونريد أن نتعقبه إلى بذوره وجذوره، لعلنا نزيل أسبابه فيزول وعندئذ نسترد أنفاسنا، ونسير مع السائرين في ركب الحضارة القائمة، ومشاركين في البناء فلا نكتفي بالأخذ عما ينتجه الآخرون، وإذا ما تحقق لنا ذلك، عدنا إلى سابق عهدنا من ريادة وإبداع.
Page inconnue