وعلى ما أبداه بسمارك من احتجاج كثير أنعم عليه الإمبراطور عند اعتزاله بلقب دوك لوينبرغ؛ أي بشرف أراد الإمبراطور فردريك أن يمنحه إياه فوفق في رفضه آنئذ، ولكن المستشار المعتزل استطاع بعد جهد كبير أن يتخلص من منحة مشبها إياها بالمكافأة التي تعطى لذوي الجد من موظفي البريد عند اعتزالهم الخدمة، ويود الإمبراطور أن يعتقد الجمهور كون اعتزال المستشار بسمارك منصبه نشأ عن عوامل صحية ممسكا عن إرسال نص كتاب الاستقالة إلى الصحف مقتصرا على ما وجهه إلى بسمارك من عبارات الشكر لخدمه السابقة، مصيبا نجاحا في أعين الشعب على هذا الوجه في بدء الأمر، ويحاول الإمبراطور في الوقت نفسه أن يحتفظ بهربرت في الخدمة، فيطلب من بسمارك أن يستعمل نفوذه لدى ابنه هذا في الأمر، غير أن بسمارك يجيب عن ذلك على طريقة فالنشتاين بقوله: «إن ابني بلغ سن الرشد.» وبسمارك يسر إلى بعض خلصائه بأن الحافز إلى ذلك هو رغبته في عدم الإذعان للإمبراطور، وبسمارك يقول «ومن يشعر بغرق السفينة لا يدع ولده فيها.»
وتشتد فجيعة هربرت في ذلك الحين، وهربرت لو خلف أباه بعد موته منصبا وكان موضع حظوة لدى الإمبراطور لاستطاع أن يبدو رجلا سياسيا ذا قيمة، والآن على هربرت أن يقاسم أباه نصيبه في الانزواء فينصرف، والآن يود هربرت فعل ذلك لمشابهته أباه في الشعور بالشرف، وهربرت يخبر الإمبراطور في ذلك المساء بما اتخذته روسية من قرار في رفض تجديد المعاهدة، ومن ينعم النظر في فحوى هذا النبأ يجده من إملاء الأب الشائب؛ فقد جاء فيه: «في الأمس علم الكونت شوالوف أن جلالتكم لا تتردد في تسريح الأمير بسمارك، فلم يتمالك القيصر إسكندر أن قرر الامتناع عن تجديد المعاهدة السرية ما دام يرى المناقشة في أمر سري كهذا متعذرة مع مستشار الريخ الجديد.» ويكتب ولهلم في أعلى تلك الرسالة كلمة: «أوافق على تجديد المعاهدة.» كما يكتب في أسفلها كلمة: «لماذا؟» ويأتي هربرت بإيضاح أوفى من ذلك، ويأتي تعليق آخر مع تكرار كلمة «لماذا؟»
ولا شيء كهذا الاستفهام المكرر يدل على عدم معرفة ولهلم درجة ما لاسم بسمارك من النفوذ في أوروبة، والآن يذعر ولهلم، فيرسل من يوقظ شوالوف في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل راجيا أن يقابله في الساعة الثامنة صباحا، وفي هذه المقابلة يوكد ولهلم لشوالوف أنه يود تجديد المعاهدة، وهنالك يفعل شوالوف كل ما يستطيعه تنفيذا لآخر ما رغب فيه بسمارك ونيلا لتفويض من القيصر في تجديد المعاهدة مع تغير الوضع.
وفي تلك الأثناء يقرأ الإمبراطور الصحف فيجد أن جميع الأحزاب وجميع طبقات الأمة تستحسن ما تم؛ «فالأمة هادئة مع وجد، ولكن الأمة تنظر غير وجلة إلى انصراف ذلك الرجل القوي من الوضع الذي عاق به تقدم البلاد الداخلي، وستذكر الأمة يوم 18 من مارس سنة 1890 من الأيام التي يفكر فيها مع السرور»، ولم يعلق مجلس النواب البروسي أي تعليق على البلاغ الرسمي باعتزال بسمارك، ويعم الفرح رجال البلاط وقواد الجيش لانصرافه.
ويروي هوهنلوهه عن أحد الجنرالات أنه «كان من المرح كالرجل الساذج المثلوج
3
الفؤاد الذي لا يستطيع الآن أن يعبر عما في نفسه حرا طليقا، فشعور طرب كهذا كان عاما، وعلى ما كان من شمول نفوذ الأمير كان يمازح الناس حس الضغط وحس التكمش، فأصبحوا من الانتفاخ ما يشابهون به الإسفنج الجاف بعد أن كان مغموسا في الماء.» ولم تتنفس الأمة الصعداء بمثل ذلك منذ قرن، منذ موت فردريك الأكبر.
وفي تلك الأيام لم يعرف أحد في ألمانية تقرير مصير البلاد من قبل ثلاثة رجال، وإن شئت فقل من قبل رجل واحد في الحقيقة، ولما زود القيصر شوالوف بسلطات تامة وجد شوالوف هذا بعد تسريح بسمارك بخمسة أيام تغيرا في الأحوال الروحية، وأراد بسمارك صيانة المعاهدة من دسائس برلين فاقترح بواسطة ابنه أن توقع في سان بطرسبرغ، وأراد هربرت إحضار المعاهدة من بين المحفوظات السرية فلم يجدها لما سبق من نقل هولشتاين إياها من مكانها، ويثور سكرتير الدولة هربرت ويعزر المسجل ثم البارون، ويقول: «كان يمكنكم أن تجتنبوا هذه الغباوة! يظهر أنكم تعدونني رجلا ميتا قبل الأوان!» ويراه هولشتاين رجلا خطرا، وما الذي يحفز هذا البارون كثيرا إلى تهييج جميع الناس ضد روسية؟ «ولا ينتظر خير من المعاهدة، وهي لو أذيعت لعزينا إلى النفاق، ولو نفذت المعاهدة لوقع صيتنا ومقامنا الاجتماعي تحت رحمة روسية، ومن مصلحة روسية أن يشيع أمرها لما يؤدي إليه أقل شك فينا من ابتعاد العالم عنا، ثم يمكن روسية أن تملي علينا صلاتنا في المستقبل، والشرط الأول هو: «أنني أريد الاشتراك مع عميلي السابق ب... ومعه فقط»، والآن أتعرفون ما هو الوضع؟»
والحق أن هذه الإفادات الظرفية غير صادقة، فكما أن بسمارك أطلع الكونت شوالوف على معاهدته الدفاعية الأولى ضد روسية كان مستعدا في كل وقت لإطلاع النمسة على المعاهدة الثانية، وإنما الذي منعه من صنع هذا هو ما أبداه القيصر من رغبة في الكتمان، ومما يتعذر إدراكه على رجل له ما للقزم من طبيعة كهولشتاين وشركائه هو إمكان الجمع بين الشجاعة والحيلة، وهؤلاء الناس الذين لا يزيد ذكاؤهم على ما لدى المتغطرس هم من المتلبسين بالفضيلة والمنتحلين للصراحة، وإذا سألت عن هولشتاين وجدته ذا حقد مقنع وعزة مكلومة، ووجدته يهدف إلى جعل عودة بسمارك إلى السلطان أمرا مستحيلا، وهو الذي ما انفك يحوك الدسائس هو وفالدرسي ضد بسمارك منذ سنين.
وينم خلفاء بسمارك على عجز في المناصب التي تسلموها، فقد كتب ماريشال يقول: «إن رجلا عظيما كبسمارك يمكنه أن يستعين في عمله بأعقد الآلات، ولكن رجلا عاديا مثلي يعجز عن صنع ذلك.» ويجتنب كابريفي سلفه عند مغادرة هذا للقصر، ولما أخذ بسمارك يدعوه إلى العشاء بعد حين لم يلب الدعوة غير مرة قائلا إنه لا يستطيع أن يسمع مثلما سمع عن مولاه في المرة الأولى.
Page inconnue