142

Bismarck

بسمارك: حياة مكافح

Genres

وإذا عدوت أولئك الخصوم الأمراء بدمهم وجدت لبسمارك خصوما عن عاطفة وعن أسباب ذهنية، ويصنفهم بسمارك بعد زمن إلى صنف أول وثان وثالث.

وإذا عدوت رون وحده لم تجد بسمارك منسجما مع أحد، ولا تقرب ثقة وثيقة بين بسمارك وأي واحد من الوزراء والقواد ورجال البلاط وزعماء الأحزاب، ولا ينتسب بسمارك إلى أي حزب كان في الحقيقة، ويرى بسمارك في جريدة كروززايتنغ ولويس غرلاخ تطرفا شديدا، ويراه شيب الأحرار متطرفا، وتراه يحارب الشمال جهرا، وبسمارك لا يبدي صداقة فحولة لغير الجندي الحمس رون، فلا يكدر هذه الصداقة أي اختلاف في الرأي حول الأمور الذهنية، وبسمارك لم يمنح رون إجازة ستة أشهر سوى مرة واحدة غير مرتاح لها فيقول : «لا غنية لي عن الاعتماد على درايتكم السياسية؛ وذلك لأنني لا أعلم أحدا أكل ملحا مع المعلم أكثر مما أكلتم.»

ويستدعي بسمارك صديق حنة الموسيقي كودل لما بينهما من ثقة متبادلة، وتمضي بضعة أسابيع فيتصادما؛ فقد أوصى كودل بسمارك كتابة بأن يستند إلى الرأي العام في المسألة الدانيماركية، وقد أخبره بعزمه على الاستقالة والرجوع إلى الموسيقى عن ود عند عدم موافقته على ذلك، ويستدعيه بسمارك في اليوم التالي، ويقول له «بصوت مكبوت، ولكنه صوت ثائر كما هو ظاهر»: «ما هو السبب في كتابتك هذا الكتاب إلي؟ إذا كنت تظن أنك تؤثر بذلك فيما أقرر قلت لك إن ذلك لا يناسب سنك، أيجوز لك - وأنت الذي عرفني جيدا ومنذ زمن - أن تذهب إلى أنني أركب هذا المركب الصعب عن طيش، وكمرءوس، من غير أن أتزود بالذرائع التي أسوغ بها سلوكي أمام الله؟ إنني لا أصبر على ذلك، ولم يخالط النوم جفني منذ ليلتين، ولا أرى ما يبعث على استقالتك، وإنما أردت أن أدلك على عمق الجرح في صدري!» ويطلب كودل العفو ويسترد كتابه، ويقول بسمارك: «والآن سوي كل شيء، وإذا حدث أن كان لديك ما تختلف به عني مرة أخرى فلا تكتب إلي ذلك، وإنما كلمني في ذلك.»

ذلك هو أمر بسمارك الوحيد، ذلك هو أمر بسمارك تجاه ذلك الذي كان على وئام معه منذ خمس عشرة سنة، والذي عرف زوج بسمارك منذ أكثر من هذه المدة، والذي هو تابع لبسمارك في الساعة الحاضرة فينصحه بأدب لينسجم مع الصوت العام حول المسألة، فيسلبه ذلك ما لم تقدر شتائم الصحافة عليه من الرقاد، وأنت يا بروتوس؟ وعلى ما كان من رتق ما بينهما من فتق لم تعد صلة أحدهما بالآخر إلى ما كانت عليه، وما كان لكودل أن ينال من الحرمة لديه ما ناله شلوزر، وما كان كودل غير ظهير موهوب وموسيقي لوذعي، وما كان كودل عاملا يعتمد عليه القطب السياسي بسمارك.

وتجد وزارة الخارجية في مجموعها معارضة لرئيسها ، «ولكن هذا لا يزعجني» وهو؛ لما أبصر من سعي سفرائه في الخارج ضده اتخذ خطة دفاعية في ميدان جديد، ويطمع أوزدوم في فلورنسة وغولتز في باريس أن ينالا منصبه فيكتبان إلى الملك ضد سياسته رأسا، بيد أن الملك وفي لوزيره، ولا يود الملك أن يخون وزيره على غرار أخيه فردريك ولهلم في حال مماثلة، فهو يسلم إليه تلك الكتب ليجيب عنها، وبسمارك مع ما كان من إرساله منذ ثمانية أعوام رسائل خاصة إلى الملك وإلى غرلاخ ضد سياسة رئيسه لا تراه الآن متسامحا في ذلك بعد أن غدا رئيسا للوزارة، وبسمارك العبقري لما كان من وقوفه فوق الأخلاق لم يسلم بتماثل الأسلوبين، أسلوبه وأسلوب أوزدوم وغولتز، فحظر على سفرائه ما أباحه لنفسه أيام كان سفيرا، ولنا في الوجه الذي حرم به بسمارك ذلك في كتاب أرسله إلى غولتز على الخصوص - وبسمارك هو الذي نصبه سفيرا بباريس - مثال ساطع على الطريقة الفريدة التي يمزج بها بين اللهجة الرسمية واللهجة الودية؛ فقد جاء في ذلك الكتاب الذي خطه بيده:

لا أحد ينتظر تقارير تنطوي على صدى لرأي الوزارة فقط، ولكن تقاريركم ليست من النوع المعروف، بل هي من المعروضات الوزارية التي تشير على الملك بسياسة معاكسة، وتصادم أفكار كتلك قد يسفر عن ضرر لا ضرورة له، وهو لا خير فيه على كل حال؛ وذلك لما يؤدي إليه من التردد وعدم الاستقرار. وعندي أن كل سياسة هي أفضل من السياسة المذبذبة، وأقدر ما لديكم من بعد نظر في السياسة، ولا أعدني غبيا في الوقت نفسه، وأراني مستعدا لسماع قولكم إن هذا يخادع نفسه، ومن المحتمل أنكم تقدرون لي وطنيتي وقوة عارضتي إذا ما أخبرتكم أنني أعالج منذ أسبوعين ما ورد في تقريركم من المسائل.

ولكن كيف أفضي إليكم بمكنون فؤادي وأنتم تعربون بشيء من الصراحة عن عزمكم على مكافحة الوزارة الحاضرة ومناهضة سياستها وإسقاطها، إذا كنتم على ذلك من القادرين؟ ولا مناص لي وزيرا من أن أكاشف سفير باريس بكل كلمة من سياستي في جميع صلاتي به، ما لم توجب مصالح الدولة عكس ذلك، وما يكون عرضة له كل من هو في وضعي، وذلك في صلاته بالوزراء والمستشارين والبلاط والمؤثرات السرية والمجالس والصحافة والقصور الأجنبية، من الاحتكاك والدعك فمما لا يجوز زيادته بلغم النظام في دائرتي بالمنافسة بين الوزراء والسفراء. ومن النادر أن أكتب ليلة عيد الميلاد مطولا إلى سواكم على حين أرى جميع الموظفين في الإجازة، وأرغب عن كتابة ما يعدل ربع هذه الرسالة إلى غيركم، وأصنع ذلك تجاهكم؛ لأنني لا أود أن أجيبكم رسميا وبطريق المكاتب سائرا على منوال الأسلوب الذي تشتمل عليه تقاريركم، وإذا كنتم تريدون إسقاط الوزارة فما عليكم إلا أن تفعلوا ذلك هنا في المجلس وفي الصحافة وعلى رأس المعارضة، لا بطريق منصبكم الحاضر. وفي تلك الحال أهتدي بمثلكم الخاص القائل إن الفصل للوطنية عند الخلاف بين الوطنية والصداقة، وثقوا بأن وطنيتي بلغت من المتانة والنقاوة ما لا تقاس الصداقة بجانبه، مع بقاء هذه الصداقة قلبية.

ومن شأن ذلك الكتاب أن يفحم المرسل إليه، ووجه الاستعلاء فيه هو زيادة الغيظ المشروع بمقادير محكمة من الاحترام والتهديد تبلغ درجة صدم قلب صديق، وعلى ما كان من عدم استعماله عبارة دامعة تراه قد ترك منافسه غولتز يبصر ما ينتظره من حياة صعبة إذا ما أراد إسقاطه، وبسمارك لما يعرف من منزلة غولتز لدى الملك قد ذر السكر على دواء الرفض فجعل غولتز لا يرى في ذلك الكتاب عن زهو غير ثناء رئيسه عليه وإعجابه به، ولم ننقل غير ربع ذلك الكتاب الذي هو من الأوابد، وهو على جانب كبير من الذوق الفني فيجدر إنعام النظر فيه كثيرا كما ينظر إلى تمثال كلاسي،

1

ونرى أن كتابا كهذا يكفي وحده للدلالة على علو كعب كاتبه في الدبلمية.

Page inconnue