بلى، وقد مضت بضع وعشرون سنة أخرى منذ احتملت هي إلى بلاد العرب، فهل يذكرها اليوم أحد من أهلها؟ ... وإنها لتملك اليوم حريتها، ولكنها لا تحاول أن تعود ولا تريد؛ فقد انقطع ما بينها وبين الماضي فلا تمت إليه بسبب، إنها اليوم امرأة عربية مسلمة، تمت إلى هذه الجماعة التي تعيش بينها بأسباب كثيرة، وتربطها إلى ما حولها - ومن حولها - عواطف شتى، أما تلك التي احتملت من بلادها منذ بضع وعشرين سنة فكانت فتاة لا عربية ولا مسلمة ولا أما ...
ذلك هو شعورها منذ سنين، فما بالها ما تزال - حينا بعد حين - تفيء إلى ركن من دارها فتفض ختم حقيبتها، فتنثر ما فيها من مخلفات ذلك الماضي تتملاه وتشمه وتمسح به عينيها، ثم تبكي ما شاءت؟ ...
وما بالها ما تزال كلما سمعت ناعيا ينعى حبيبا إلى أهله رفرفت بجناح، وجاوزت المكان والزمان إلى حيث كانت تعيش في بلد بعيد بين إخوتها وأخواتها، تريد أن تحصيهم عدا وتتصفحهم فردا فردا؟
وما بالها ما تزال تستطلع طلع كل قادم من سفر، وكل عائد من غزاة، وكل مبحر في صائفة؟
وما بالها - مع ذلك - قد طابت نفسا بخروج ولدها لحرب الروم؟
ما بالها قد شحذت له أمضى سيوف أبيه حدا، وأومضها صفحة؟
وما بالها قد رضيت له نوار زوجا يمهرها رأس بطريق من بطارقة الروم؟
ثم ما بالها قد دفعت إليه - حين مسيره - تلك التميمة التي كانت قلادة صدرها صبية، ليحرزها فتحرزه ... وتلك الجوهرة التي كانت زينة مفرقها طفلة، ليذكرها بها وتذكره؟ ...
أبوعي دفعت إليه ذينك الأثرين، أم دفعتهما بلا وعي ولا إرادة؟
وكيف تحرز مسلما تميمة رومي لا يؤمن بدين محمد؟
Page inconnue