وفن الكتابة عنده كغيره من مزاولات الحياة وضروب الأعمال وسائر الفنون؛ فكرة تتجمع من البحث في الغرض المقصود منها، ثم نظرية يتأدى إليها من ذلك التفكير، ثم تطبيق يصححه بالتجربة والمراقبة وتقدير التقدم فيه بمقياس من مقاييس الواقع المحسوس.
ومن الحوار التالي نتبين مذهبه في الفكرة النظرية عن الكتابة وعن التطبيق العلمي الناجح لتلك الفكرة النظرية.
قال: «كيف نحكم على جودة الكتابة؟ أو ما هي الصفات التي ينبغي أن تتوافر للكتابة كي تعد من الكتابات الجيدة التامة في نوعها؟
والجواب أن الكتابة تكون جيدة إذا جنحت إلى إفادة القارئ بزيادة قسطه من الفضيلة والمعرفة، وبغير نظر إلى نية الكاتب ينبغي أن يكون المنهج محكما يستطرد - على انتظام - من الأمور المعلومة إلى الأمور المجهولة في تحديد وتوضيح وبغير لبس ولا اختلاط، وينبغي أن تكون الكلمات المستخدمة أقواها تعبيرا عن معانيها على شريطة أن تكون كذلك أشيعها وأدناها إلى الأفهام، ولا ينبغي أن يقال في كلمتين ما يمكن أن يقال في كلمة، ولا حاجة إلى المترادفات إلا نادرا، وعلى أن يكون وقعها في جملته سائغا في الأسماع، ونوجز فنقول: إنها ينبغي أن تكون سلسة واضحة موجزة؛ لأن الصفات التي تناقض هذه الصفات لا تروق. وننظر إلى المسألة من ناحية أخرى فنقول: إن الرجل السيئ قد يكتب المعنى السيئ كتابة جيدة، وإنه إذا ساءت نيته قد يستخدم أصلح الأساليب والبراهين على حسب القراء للوصول إلى بغيته، وعلى هذا الاعتبار نقول: إن أجود ما يكتب هو أجود ما يصيب به الكاتب مرماه.»
فالكتابة الناجحة هي الكتابة الجيدة في تقدير فرنكلين، ومقياس النجاح هو «التطبيق العملي» لفكرة مقررة ووجهة مرسومة، وهذا هو فرنكلين كله مرة أخرى يتمثل في صناعة القلم وفي كل صناعة.
ويصادفنا في تراجم فرنكلين رأي متفق عليه بين الواقعيين العمليين والنظريين المثاليين، وهو هذه الغاية الواقعية العملية التي يرتادها في كل مطلب يعنيه، وربما لمسنا في كلام الواقعيين العمليين شيئا من الإعجاب في التنويه بهذه الصفة، وربما لمسنا من الجانب الآخر شيئا من الغضاضة في تصريح النظريين المثاليين بها أو تلميحهم إليها، ولكنهم لا يختلفون في وصفه بهذه الصفة واعتبارها إحدى صفاته البارزة، بل كبرى صفاته العقلية والنفسية بين سائر الصفات.
على أننا نرى أن النزعة الواقعية والنزعة المثالية فيه تتقاربان، أو أنهما على الأقل لا تتنافران ولا تتعارضان؛ فإنه يستقصي العمل إلى غاية مداه ولا يستطيع أن يدخر جهدا من جهوده يتسع أمامه المجال لبلوغ الكمال الواجب في عمل من الأعمال.
وقد نجح في الكتابة الصحفية وقرر مكانته فيها وأصبح في مجالها علما فردا لا يدانيه أحد من معاصريه، وكان هذا النجاح خليقا أن يقنع غيره بالوقوف عنده والاكتفاء به في صناعة الصحافة وصناعة الطباعة، ولكنه لم يقنع به ولم يقف عنده، ولم يدع شيئا يقدر عليه في هذه الصناعة، إلا حاول أن يبلغ منه ما يعينه على الاستقلال والكفاية، حتى سبك الحروف للمطبعة، ولم يكن في بلاده يومئذ سباكون للحروف.
وديدنه في هذه الخطة هو ديدنه في كل مطلب، فإنه يفكر في الشروط التي ينبغي أن تتوافر للصحفي ثم يأخذ نفسه بتحصيلها وتوفيرها ولا تثنيه عقبة ترصد له في طريقها، مما ينثني أمامه النظريون المثاليون ولا يتجشمه كل عامل من المجتهدين الواقعيين، وعلى هذه الخطة أخذ نفسه بالاطلاع على المعلومات الفلكية الضرورية لإصدار التقويم، وفهم أن الإلمام باللغات مزية واجبة للصحفي الذي يريد أن يتقن عمله بين زملائه، وبخاصة في ذلك الزمن الذي تعددت فيه لغات النازلين بالولايات الأمريكية، ولم تنتشر فيه لغة واحدة للكتابة والكلام كما حدث بعد حرب الاستقلال، فتعلم من الأسبانية والإيطالية والألمانية ما يكفيه، وتوسع بعض التوسع في اللغة الفرنسية، وجرى في تعلم اليونانية واللاتينية على مذهبه في التعليم المدرسي متوسطا بين الإهمال والإلزام، فهو لا يهملها ولا يرى أن تفرضا على الطالب فرضا إن لم يكن يشعر بالحاجة إليهما في مطالبه الثقافية، وأحق منها بالفرض في البرامج لغات الأحياء أو اللغات الحية الشائعة بين أمم الحضارة، وبين أبناء وطنه على التخصيص.
ومما يدخل في هذه الخطة العملية المثالية أنه يجتنب تبديد الجهود ويأبى الإسراف بطبعه فيما يبتغيه من الكماليات أو الضروريات، وهو لا يجور بذلك على حق الكماليات؛ لأنه كذلك لا يسرف ولا يبدد الجهد في طلب الضروريات.
Page inconnue