ووضع الساحر أولا في كفة الميزان؛ حيث تلي عليه إصحاح من أسفار موسى، ثم وضع الكتاب في الكفة الأخرى التي كانت مهبطة على الأرض وأرسلت على الأثر. فما كان أعظم دهشة الناظرين حين أبصروا اللحم والعظام تهبط والكتاب العظيم يعلو ويرتفع ويرجحها اللحم والعظام بكثير، وتكررت التجربة مع الآخرين فكانت أثقالهم كذلك أعظم من أثقال كتب موسى والأنبياء.
وانتهت هذه التجربة ولم يكتف بها الجمع، بل أرادوا أن يتمموها بتجربة الإغراق في الماء. فتقدم الجمع في موكب وقور إلى البركة حيث جرد المدعون والمتهمون من ثيابهم إلا ما يسترهم، وقذف بهم في النهر مقيدين بالحبال وفي وسط كل منهم حبل يمسك به بعض الواقفين على الحافة، وكان المتهم نحيفا هزيلا فلم يرسب لأول وهلة وبعد لأي ما غاص في جوف الماء، وجعل الآخرون يسبحون خفافا على وجه الماء. وقفز ملاح على الحافة فوق ظهر الرجل المتهم يظن أنه يهبط به إلى قعر البركة، ولكن الرجل المقيد عاد إلى الظهور قبل الآخر بهنيهة وجيزة.
ولما أخبرت المرأة المدعية أنها لم تغطس في الماء، وأنها ستعاد إليه، عادت وطفت مرة أخرى خفيفة كما كانت في المرة الأولى! فراحت تقول: إن المتهم قد سحرها وطفف وزنها، وإنها تريد أن تعيد التجربة كرة أخرى، بل مائة مرة حتى ترغم الشيطان على الخروج منها.
أما المتهم فقد رأى أنه يطفو على الماء فتزعزعت ثقته ببراءته وصاح: لئن كنت ساحرا ليكونن ذلك على غير علم مني.
وكان ذوو المسكة من العقل بين المتفرجين قد آمنوا أنه ما من أحد يلقى في الماء مكتوفا إلا طفا على وجهه ما لم يكن عظاما في جلد ولا شيء! وأنه يظل كذلك حتى يذهب نفسه وتمتلئ رئتاه بالماء. إلا أن الرأي السائد بينهم كان يميل إلى الظن بأن فضول الكساء على أجساد النساء تساعدهن على العوم، فلا بد من تجربة أخرى وهن عاريات في الموعد المقبل من مواعيد الصيف.
خاتمة
قليل من القراء من يعلم أنني دخلت مدرسة «الصنائع» ببولاق لدراسة الكهربا والتلغراف، وأقل منهم من يعلم الصلة بين اتجاهي إلى هذه الوجهة، وبين اسمين من كبار المخترعين الذين بدءوا حياتهم بالعمل في الصحافة والكهربا؛ هما فرنكلين وأديسون.
ولست أذكر على التحقيق متى سمعت لأول مرة باسم فرنكلين واسم أديسون، ولكنني أذكر جيدا أنني لم أعرفها من كتاب أو من دراسة علمية، وإنما سمعت بهما من موظف في التلغراف شديد الإعجاب بهما، على أثر حادث من حوادث المصادفات، تناولته الصحف بالتعليق السياسي في ذلك الحين، ولم تعره شيئا من الاهتمام من الناحية العلمية.
كان ذلك الحادث، على ما أذكر الآن، سقوط صاعقة على بناء مجلس الوزراء، وكنت لا أزال يومئذ في بلدتي أسوان لم أبرح مدرستها الابتدائية، ودار الحديث عن الصاعقة وعن التعليقات السياسية عليها، وتحدث الموظف بالتلغراف من جيراننا عن رجل يسمى فرنكلين، ورجل يسمى أديسون؛ كلاهما عامل صغير بدأ حياته بالعمل اليدوي في الصحافة، ثم اخترع باجتهاده أكبر المخترعات في الكهربا، ثم جرى - في شيء من اللغط المبهم - ذكر عمود الصواعق وذكر الفنغراف، وفضل العاملين الصغيرين في كل من هذين الاختراعين.
وقام بذهني أن أصنع مثل هذا الصنيع يوما من الأيام، فلم أزل حتى دخلت مدرسة «الصنائع» في نحو الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمري، وشعرت يومئذ كأنني أفسر حلما قديما كاد يذهب بين الوعي والنسيان، وكاد فرنكلين إذن يتوجه بحياتي وجهة غير وجهتها، يوم كان اسم فرنكلين يحضرني مقرونا بالكهربا ولا يحضرني منه شيء من سيرته الطويلة في الكتابة والتفكير والسياسة.
Page inconnue