Sans Limites
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
Genres
5 (رغم أن ما يفصل تيمور عن ساحل أستراليا اليوم هو ثلاثمائة ميل من البحار المفتوحة، فإن مستوى سطح البحر خلال العصور الجليدية كان أدنى منه حاليا بثلاثمائة قدم، كما كانت مساحات كبيرة من الجروف القارية على جانبي مضيق تيمور مكشوفة؛ لذا كانت المسافة بين أستراليا وتيمور منذ ستين ألف عام خمسين ميلا من المياه المفتوحة تقريبا). ويعطينا هذا دليلا قاطعا على أن الناس لم يكونوا يصنعون المراكب فقط، وإنما يبحرون أيضا لأيام في عرض البحر منذ عشرات آلاف الأعوام.
في عام 1998م، أجرى اختصاصي علم الحفريات البشرية، روبرت جي بيدناريك، تجربة أعطى فيها توجيهاته ببناء طوف كبير من الخيزران على جزيرة روتي قبالة ساحل تيمور الجنوبي الغربي. كان طوف بيدناريك مصنوعا بالكامل من مواد محلية كانت متوفرة لبشر العصر الحجري القديم. وقد زود بأشرعة منسوجة من ألياف النخيل، واستخدمت في بنائه بالكامل أدوات حجرية من النوع الذي كان يشيع استخدامه منذ ستة آلاف عام. وأبحر بيدناريك هو وطاقم من خمسة أفراد بنجاح بهذا المركب من تيمور إلى أستراليا، وهم يقتاتون بصفة أساسية على السمك الذي كانوا يصطادونه من البحر مستعينين بنسخ مقلدة من حراب العصر الحجري القديم المصنوعة من العظام.
6
إلا أنه يكاد يكون من المستحيل أن نعثر على دليل على الملاحة يعود إلى أوقات العصر الحجري القديم؛ هذا لأن مستويات سطح البحر خلال العصور الجليدية كانت أدنى كثيرا عما هي عليه الآن، كما أن السواحل القديمة للعصر الحجري القديم العلوي - ومعها كل الأدلة على استيطان البشر التي كانت تحتوي عليها - تقبع حاليا تحت ثلاثمائة قدم من مياه البحر.
حتى وإن كان من الممكن تحديد المكان الذي عاش فيه بشر ما قبل التاريخ بالتحديد في هذه السواحل المغمورة الآن، فقد محا تأثير البحر على مدار عشرات آلاف السنين معسكراتهم القديمة منذ زمن طويل، وكذلك بقايا أي قوارب أو أطواف ربما كانوا يستخدمونها، لكن ثمة أدلة مادية من بلاد الرافدين العتيقة تثبت أن سفن الإبحار كانت تصنع من الغاب وتجوب المياه المفتوحة قبل سبعة آلاف عام؛ أي قبل بداية أول حضارة مدنية بكثير.
في عام 2001م، اكتشف فريق من علماء الآثار البريطانيين والكويتيين اثنين وعشرين لوحا من القار قرب سواحل الخليج الفارسي، حيث يصب نهر الفرات في البحر. القار هو مادة سوداء دبقة، تسمى أيضا أسفلت، موجودة في الرواسب الطبيعية في أنحاء الهلال الخصيب، وكانت تستخدم على نطاق واسع خلال العصور القديمة كمادة جلفطة عازلة للماء من أجل كل من حاويات المياه وهياكل قوارب الغاب. وعند التحقق من تاريخ تكون قوالب القار تأكد أنها تكونت ما بين عام 5500 وعام 5300 قبل الميلاد. وهذا كان قبل بدء الحضارة المدنية في بلاد الرافدين بنحو ألفي عام.
وحيث إن القار المخلوط بزيت سمكي وشعب مرجانية مكسرة قد نقل لأكثر من ستين ميلا من المكان الذي تكون فيه، وما زال يحمل آثار الحبال والأسلاك وحزم الغاب التي كانت تستخدم في هذا الوقت في صنع القوارب، فلا يوجد شك أنه كان يستخدم في جلفطة القوارب البحرية، بل في الواقع ما زالت بعض ألواح القار هذه تحمل بقايا البرنقيل الذي كان متشبثا بها؛ مما يثبت أنها بقيت فترة طويلة في البحر.
ولم يكن المصريون متأخرين كثيرا عن الركب في هذا الصدد؛ فقد بقي منذ عام 7000 قبل الميلاد مراكب صغيرة مصنوعة من حزم الغاب المربوطة بالحبال كانت تستخدم في مياه النيل الهادئة نسبيا، كما أثبتت لاحقا قوارب أكبر حجما من الغاب قدرة مدهشة على الإبحار في مياه البحار المفتوحة الأكثر غدرا. وفي عام 1970م، أشرف المغامر النرويجي، ثور هيردال، على بناء نسخة مطابقة لقارب مصري قديم من الغاب، وأبحر به لستة آلاف ميل عبر المحيط الأطلنطي من ساحل المغرب في شمال أفريقيا لجزيرة باربادوس في البحر الكاريبي. ومنذ ذلك الوقت قامت رحلات كثيرة في قوارب من الغاب شبيهة بتلك التي كانت تستخدم في مصر القديمة، للتدليل على أن المصريين والسومريين كانوا سيستطيعون الذهاب في رحلات بحرية طويلة في قوارب مماثلة من الغاب.
بحلول عام 3500 قبل الميلاد، قبيل فجر الحضارات الأولى، كان فن صناعة السفن قد تطور تطورا كبيرا؛ فقد كان كل من المصريين والسومريين قد تجاوزوا المراكب البدائية المصنوعة من الغاب، وكانوا يصنعون قوارب بحرية من ألواح الأخشاب التي كانت «تدرز» معا بأشرطة من الألياف المنسوجة (فالمسامير الحديدية التي استخدمت في النهاية في بناء القوارب لم تبتكر إلا بعد ثلاثة آلاف سنة أخرى). وكانت قوارب الألواح الخشبية هذه تصنع بحيث تفك، وتحمل على ظهور الدواب، وتنقل لمسافات طويلة، ويعاد تركيبها على الشاطئ، حتى إن المصريين كانوا يدأبون على نقل قواربهم لمسافة 125 ميلا عبر صحراء سيناء إلى سواحل البحر الأحمر، حيث كانت تدرز معا، وتجلفط بالقار، وتبحر مئات الأميال إلى سواحل أفريقيا والهند في حملات تجارية.
وبحلول عام 1500 قبل الميلاد كان المصريون الذين صاروا متحضرين آنذاك يبنون صنادل نهرية عملاقة - بلغ بعضها 230 قدما طولا، وثمانين قدما عرضا، وعشرين قدما عمقا - يستطيع كل منها حمل أكثر من ألف طن من الشحنات. وقد استخدم هذا النوع من الصنادل الضخمة في نقل «تمثالي ممنون»، وهما تمثالا الفرعون أمنحتب الثالث، اللذان يزن كل منهما نحو 320 طنا، واللذان نحتا بالقرب من المكان الذي تقع فيه القاهرة في العصر الحالي، ونقلا لمسافة تربو عن أربعمائة ميل في النيل إلى مدينة طيبة القديمة، حيث يقفان الآن.
Page inconnue