Sans Limites
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
Genres
شكل 5-7: شكل العظمة اللامية لدى قردة الشمبانزي (أ) يختلف جدا عن الأشكال المتشابهة جدا للعظام اللامية لبشر النياندرتال (ب) والإنسان الحديث (ج)؛ مما يوحي بأن بشر النياندرتال ربما كانوا يتحدثون لغات منطوقة تضاهي لغاتنا.
ذهب بعض العلماء إلى أن اللغة تطورت لأول مرة حين بدأ أشباه البشر تشكيل مجموعات أكبر في حجمها من العدد الصغير من الأفراد المعهود لدى الجماعات الاجتماعية للسعادين والقردة وأشباه البشر الأوائل. وفقا لوجهة النظر هذه، فقد تطورت اللغة - مع تزايد حجم المخ - بحيث يستطيع البشر الناشئون الترابط مع العدد الأكبر من الأفراد الذي أخذ يتكون في المجموعات البشرية الأحدث عهدا. ورغم أن السعادين والقردة تترابط مع أفراد آخرين في المجموعة عن طريق عملية التنظيف الجسدي، فهناك حدود لعدد الأفراد الذين يستطيع الواحد منهم العناية بنظافتهم؛ من ثم فاللغة تجعل من الممكن زيادة هذا العدد زيادة بالغة.
13
موسيقى ما قبل التاريخ
الأغنيات التي يشدو بها البشر لا تشبه الأغنيات التي تصدر عن آلاف الأنواع من الطيور أو القليل من الثدييات، مثل الجيبون والحيتان، التي تغني أثناء حياتها اليومية. «أغاني» تلك الحيوانات لا تختلف إلا بقدر ضئيل من فرد لآخر أو مجموعة لأخرى داخل كل نوع؛ مما يشير إلى أنها فطرية بدرجة كبيرة ومبرمجة مسبقا بالوراثة الجينية.
أما أغنيات البشر فهي تتنوع كثيرا من جماعة بشرية لأخرى، ومن فرد لآخر؛ لذا يبدو أن الغناء، مثل اللغة، واحد من تلك السلوكيات التي رغم تميز الطبيعة البشرية بها لا بد أن تلقن مثل اللغة. والموسيقى التي يأتي بها البشر باستخدام تقنية صنع آلات موسيقية هي واحدة من تلك السلوكيات التي ينفرد بها نوعنا تماما.
لم يتمكن اختصاصيو علم الحفريات قط من تحديد الوقت الذي بدأ فيه بشر ما قبل التاريخ عزف الموسيقى لأول مرة، لكن من الوارد أن تكون قدرة البشر على الغناء قد تطورت أولا، ثم اخترعوا تقنية الآلات الموسيقية لاحقا. وإذا كان الغناء بدأ مع استخدام اللغة فقد يكون بدأ منذ 300 ألف عام. وإذا كان بشر النياندرتال قد أصبح لديهم لغة منطوقة بحلول وقت استقرارهم في أوروبا ما قبل التاريخ منذ أكثر من 100 ألف عام، وهو الأمر الذي يبدو مرجحا جدا، فقد يكون الغناء قديما بالدرجة نفسها على الأقل.
أقدم الآلات الموسيقية التي عثر عليها حتى الآن هي بقايا العديد من «المزامير» الصغيرة يتراوح طولها بين خمس وتسع بوصات، صنعها منذ نحو 35 ألف عام بشر حديثون تشريحيا كانوا ينتمون إلى الثقافة الأورينياسية. صنع الأورينياسيون أغلب هذه الآلات بنقر ثقوب للأصابع في عظام مجوفة من أجنحة البجع والعقبان، وقد استخرج العديد من هذه المزامير الأورينياسية من مواقع كهوف العصور الحجرية القديمة الواقعة في وديان الأنهار في جنوب غرب ألمانيا. حين أعيد بناء أحد هذه المزامير المصنوعة من عظام الطيور، استطاع الباحثون استخدامها في إصدار النغمات الموسيقية سي ودو وري وفا .
بعض المزامير الأورينياسية التي عثر عليها في هذه المواقع كانت مصنوعة من العاج، وكان هذا يتطلب عملية تصنيع معقدة، حيث كان يشق قطاع من ناب الماموس العاجي إلى نصفين، ويجوف كل نصف بامتداد طوله، وتحفر فتحات الأصابع في مواقع محددة، ثم يلصق النصفان معا حتى يصير مغلقا بإحكام بحيث لا ينفذ الهواء. الوقت والعناية والمهارة اللازمة لصنع هذه الآلات الدقيقة من العظام والعاج لا تدع مجالا كبيرا للشك في أن الموسيقى - وحرفة صناعة الآلات الموسيقية - كانت تعد بالفعل جزءا مهما من الحياة منذ عشرات آلاف السنوات.
ربما كانت أغنيات ورقصات الحضارة الأورينياسية والكرافيتية والسولوترية والمجدلينية تؤدي في حياة عصور ما قبل التاريخ الغرض نفسه الذي تؤديه في الحياة الحديثة الآن: وسيلة للتنفيس العاطفي، وطريقة لخلق مشاعر الصحبة والانتماء بين أعضاء الجماعة الاجتماعية، وطريقة للتعبير عن الهوية الثقافية للفرد. ليس من قبيل المصادفة أن كل الدول القومية الحديثة لديها نشيد وطني يغنيه أفرادها معا للتعبير عن تكاتفهم كمواطنين في ثقافاتهم القومية، ولدعم هويتهم المشتركة بصفتهم أعضاء في هذه الجماعات البشرية الضخمة.
Page inconnue