Sans Limites
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
Genres
أحدثت تقنية المسكن والملبس تحولا في البشرية بمنحها نوعا من الحرية لم يتمتع به نوع حيواني آخر. فإذا لم تكن هناك كهوف لتوفير ملاذ من أمطار المناطق المدارية المنهمرة أو شمس الصحراوات المحرقة، كان أشباه البشر يستطيعون بناء ملاجئ من الزرع الموجود في بيئاتهم وجلود الحيوانات التي كانوا يصطادونها. وإذا كانت فصول الشتاء باردة في المناطق الشمالية المتجمدة، فإنهم كانوا يستطيعون تغطية أجسامهم بالفراء والجلود والتجمع بالقرب من دفء نيران مخيماتهم. وإذا كانت فصول الصيف حارة، فإنهم كانوا يستطيعون خلع ملابسهم، وتمنحهم رطوبة غددهم العرقية المتعددة شعورا بالبرودة.
هكذا سرعان ما انتشر الإنسان الحديث تشريحيا بدماغه الكبير وذكائه المنقطع النظير في أنحاء كل قارات العالم وأهل كل البيئات الأرضية الممكنة تقريبا، متسلحا بأسلحة متقدمة، ومتمكنا من السيطرة على النار، وقادرا على بناء مساكن وصنع ملابس متنوعة أتاحت له العيش في أي بيئة تقريبا. نتيجة لهذا، بدأ تعداد أشباه البشر في الأرض يزيد زيادة هائلة، بعد أن ظل لملايين السنين ثابتا بدرجة كبيرة عند أقل من مليون نسمة. وتشير التقديرات إلى منذ نحو 15 ألف عام، حين صار الإنسان الحديث تشريحيا النوع الوحيد الحي من أشباه البشر، كان تعداد أشباه البشر على الأرض قد زاد لعدة ملايين فرد. •••
سنرى في الفصل التالي كيف أن الأدمغة الكبيرة لدى الإنسان الحديث أطلقت العنان لتحول في طريقة تواصل البشر ببعضهم وطريقة تنظيم المجتمع البشري، من خلال تبني التواصل الرمزي على نطاق واسع؛ فانتشار الرموز - في اللغة والفن والتصميم والزينة الجسدية - كان هو ما حرر نوعنا من التطابق الجيني مع أصوله الحيوانية. صار من الممكن ابتكار الرموز بالاختيار ليتبناها الآخرون وتتوارثها الأجيال المستقبلية عن طريق التعليم والتقاليد. لقد أعتقنا التواصل الرمزي فابتكرنا الثقافات المعقدة والهويات العرقية القوية التي استطاع بها كل إنسان أن يحدد ولاءه ويدين به.
بالاستعاضة عن عملية التطور البيولوجي البطيئة بعملية التطور الثقافي السريعة، أتاحت تقنية التواصل الرمزي للإنسان الحديث تشريحيا الاستجابة سريعا وبسهولة للمناخات المتغيرة خلال الخمسين ألف عام الماضية؛ فقد مكن الامتزاج الفريد بين التواصل الرمزي و«المجتمع الانقسامي الاندماجي» الفرق الصغيرة المتعددة من الاندماج معا لتكوين جماعات تضم مئات بل وآلاف الأفراد؛ لتمكن الإنسان الحديث تشريحيا من تكوين جماعات إثنية متمايزة ظلت باقية حتى اليوم. ومن خلال تضافر الجهود في الصيد والحرب، هزمت هذه الجماعات القبلية الكبيرة بسهولة الجماعات الصغيرة القائمة على القرابة التي اتسمت بها الحياة الاجتماعية للنياندرتال.
من هذه المرحلة فصاعدا، كما سيتضح في الفصول القادمة، أدت التقنيات الرئيسية المتعاقبة إلى أشكال متزايدة الحجم من المجتمع البشري. بدأت هذه العملية بتكوين هويات إثنية لقبائل الصيد وجمع الثمار، وبلغت ذروتها مع الدول القومية الصناعية العظمى التي تطالب الآن بالهيمنة على البشرية جمعاء.
الفصل الخامس
تقنية التواصل الرمزي
الموسيقى والفن واللغة والهوية الإثنية
لم يأت قط مجتمع صيد وجمع ثمار ... من المجتمعات التي أنشأها الهومو سيبيانز ... إلا وكان ... يعتبر نفسه يعيش في عالم رمزي للغاية.
برايان فيجن، «الكرومانيون»
Page inconnue