Sans Limites
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
Genres
8
وحيث إن تحولا قد حدث في الزراعة بفضل انتشار الآلات الزراعية واندماج ملايين المزارع العائلية الصغيرة في عدد صغير من المزارع الصناعية الضخمة،
9
فإنه حتى حياة عامل المزرعة العادي فقدت ما اعتادت أن تمتاز به من بساطة وتنوع؛ فسواء كان عامل المزرعة النموذجي جالسا لساعات متواصلة في مقصورة مكيفة الهواء داخل إحدى الآلات الزراعية الضخمة، أعلى حقول الذرة والقمح وفول الصويا والبرسيم الشاسعة، أو منحنيا لساعات متتالية بين صفوف لا تنتهي من الطماطم أو الفراولة، فهو يقضي يومه كله بصورة متصاعدة في أعمال متكررة رتيبة من النوعية التي كانت مقصورة على عامل المصنع في الحضر في أحد خطوط التجميع.
هكذا مع تزايد تحضرها تفقد الإنسانية علاقتها الحميمة مع البيئة التي اتسمت بها حياة البشر طوال تاريخ نوعنا تقريبا. وبينما بلغت عملية التحضر هذه أقصى مداها في أغلب الأمم المتقدمة، لم يتخلف باقي العالم كثيرا عن الركب؛ فمنذ زمن قريب وتحديدا في عام 1950م كان نحو 70 في المائة من سكان العالم ما زالوا يعيشون في مجتمعات ريفية، بينما كان 30 في المائة فقط يعيشون في مدن. أما الآن فيكاد عدد سكان الريف وعدد سكان الحضر يتساويان. وبقدوم عام 2050م ستنعكس هاتان النسبتان تماما؛ سيعيش نحو 70 في المائة من سكان العالم في المدن، بينما سيعيش 30 في المائة في الريف.
بالمعدل الحالي ستكون الغالبية العظمى من البشر من ساكني الحضر مع نهاية هذا القرن، وسيكون اتصالهم بالبيئات الطبيعية التي تطور فيها كل أشباه البشر محدودا. ولا يسعنا سوى تخمين ما سيكون لهذه الخسارة غير المسبوقة للاتصال بين البشرية والطبيعة من تأثير على رؤية الأجيال القادمة للعالم.
عالم من الموظفين
قد يكون أعمق تغيير وقع في حياة البشر مع التحول إلى مجتمع صناعي هو الاختفاء العام للنشاط البشري القديم المتمثل في البحث عن الغذاء وإنتاجه، والاستعاضة شبه التامة عنه بالعمل في وظيفة مقابل كسب النقود. قبل عام 1800م كان جزء صغير فقط من سكان الأرض من البشر يعملون في وظائف من أجل الحصول على أجر. وبعيدا عن الحكام بالوراثة كان أغلب الناس مزارعين، وكان البقية تجارا وحرفيين ومهنيين مثقفين وموظفين حكوميين وجنودا ورجال دين، لكن مع انتشار المصانع والمكاتب في القرنين التاسع عشر والعشرين أصبح العمل مقابل أجر أكثر أشكال العمل شيوعا في مجتمع العمل الجديد.
يمكننا أن نسلم بأن الناس يحتاجون لوظائف، وأن رفاهية مجتمعنا مرهونة بتوفر وظائف جيدة الدخل، لكن تظل حقيقة أن المجتمع الذي يتكون بأكمله تقريبا من أشخاص يعملون تحت توجيه أشخاص آخرين - الذين يمدونهم بدورهم بمورد منتظم من المال - هو ظاهرة جديدة تماما في تاريخ البشر. وتظل منظومة القيم والتقاليد التي أفرزتها الثقافات الحديثة لمعالجة المشكلات الاجتماعية والنفسية التي خلقها مجتمع العمل غير مكتملة وفي مرحلة التبلور.
يقضي الأجير عادة الجزء الأكبر من كل يوم عمل في تأدية مهام تحت رقابة وإشراف صاحب العمل، وغالبا ما تكون هذه المهام ضعيفة الصلة أو لا صلة لها باهتمامات الأجير الشخصية أو علاقاته بالآخرين. وإذا قصر في أداء المهام المسندة إليه حسب المعايير التي وضعها صاحب العمل، فالعقوبة ستكون نقدا أو تهديدا بالإقالة أو - إذا كان التقصير كبيرا - فسخ عقد العمل. وحيث إن كل أجير يعتمد على استمرارية العمل لتوفير كل البضائع والخدمات التي يحتاجها من أجل الدعم المادي والراحة والأمان، فالتهديد بالإقالة يمثل احتمالا مخيفا، وإنهاء عقد العمل من الممكن أن يكون من أكثر تجارب الحياة الحديثة إيلاما.
Page inconnue