Sans Limites
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
Genres
في هذا المجتمع التقليدي والسابق للصناعة إلى حد كبير، كان تقسيم العمل بين الرجال والنساء صارما وشاملا؛ فالرجال يزرعون محاصيل الغلال ويرعون البساتين والكروم، والرجال يربون الحيوانات ويبنون المنازل ويرممونها حين يكون ضروريا، والرجال يتولون الأمور السياسية والوظائف الحكومية، والرجال يسافرون لكسب المال بالعمل على السفن وفي المصانع والمطاعم.
أما النساء فيربين الأطفال ويعتنين بالمنزل. وترعى النساء حدائق الخضروات، وتشتري الطعام وسائر المستلزمات المنزلية، ويحضرن كل الوجبات من مكونات نيئة غير معالجة، ويغسلن الصحون ويكنسن الأرضيات ويمسحنها، ويخرجن الأبسطة وينفضن عنها الغبار، ويغسلن الملابس يدويا ويرتقنها حين تبلى، ويرتبن الأسرة، ويغسلن البياضات، ويغزلن الخيوط من القطن والصوف، ويحكن الجوارب والمعاطف، ويطلين المنازل، ويرضعن المواليد ويحممنهم، ويطعمن الأطفال ويلبسنهم، ويرعين المريض والعاجز والمسن في الأسرة، ولا يألون جهدا في الحفاظ على برودة منازلهن في الصيف ودفئها وجفافها في الشتاء.
وكان الرجل أو المرأة من دون شريك من الجنس الآخر يصير مواطن درجة ثانية في مجتمع الجزيرة؛ فالرجل بمفرده لم يكن لديه من يحمل أطفاله، ويعد طعامه، ويرتق ملابسه ويغسلها، ويحافظ على نظافة منزله وترتيبه. والمرأة وحدها لا رجاء لها في عمل أو مصدر ثابت بالمال أو الطعام أو الحماية. لذلك كانت حياة المرء بمفرده أمرا مستبعدا. وكان الرجال والنساء غير المتزوجين يعيشون مع أبويهم المسنين أو أسر أقاربهم. ولم يكونوا محرومين من منزل خاص بهم فقط، ولكن أيضا المكانة الاجتماعية والكرامة والاستقلال الذاتي الذي كان يأتي معه. وكانت محنتهم الكبرى، في منظومة قيم ثقافة الجزيرة، أنهم لم يكن لديهم أطفال ليجلبوا الفرحة والضحك في حياتهم، أو يعطونهم رؤية مستقبلية، أو يدعمونهم ويقومون على رعايتهم عند الكبر.
ولما كنت آتيا من مجتمع مدني متطور حيث كانت التقنيات المنزلية أمرا شائعا، فلم أدرك في البداية المكانة الفريدة التي احتلتها نساء هذه الجزيرة اليونانية في الحياة اليومية؛ فالرجل دون زوجة في ذلك المجتمع التقليدي ليس إلا نصف إنسان. وحتى إن تحدى العرف وحاول أداء «عمل النساء» بنفسه، فسيقع تحت ضغط شديد ليجد وقتا كافيا لفعل ذلك؛ فنساء قرى هذه الجزيرة كن يقضين اليوم كله في أداء عدد لا يحصى من المهام اللازمة للحفاظ على المنزل في حالة مقبولة. وعلاوة على الحفاظ على نظام المنزل كان يقع على عاتق النساء الأصغر سنا عبء رعاية أطفالهن؛ من تحميمهم وإطعامهم وكسوتهم وحمايتهم من الخطر. لم يكن ممكنا مطلقا أن يعيش الرجل حياة عادية من دون امرأة لترعى حاجاته المنزلية، وكان الرجال البالغون القليلون الذين لم يتزوجوا مادة للشفقة، وفي بعض الأحيان الاستهزاء.
لقد غيرت ميكنة متاع البيت في القرن العشرين ذلك كله؛ فالغسالات الكهربائية والمجففات وغسالات الصحون أتاحت إنجاز كل مهمات الغسيل والتنظيف التي يحتاجها المنزل في وقت أقل كثيرا عما كانت تستوجبه في عصور ما قبل الصناعة. والطعام المجمد والطعام المحضر والطعام الجاهز والثلاجات ومواقد الغاز وأفران الميكروويف، وطائفة من الأجهزة الكهربائية من الخلاطات البسيطة إلى محضرات الطعام المعقدة، كلها اختصرت عملية إعداد الطعام في أعمال أبسط كثيرا يمكن إنجازها في نسبة ضئيلة من الوقت الذي كانت تحتاجه سابقا. وتعتمد كل هذه التقنيات على توفر الطاقة الكهربائية.
ومع ازدهار فرص العمل للنساء - وتزايد قبول الرجال لأداء الأعمال المنزلية الروتينية - صار خيارا واقعيا لكلا الجنسين أن يعيشوا بمفردهم، بل لقد صارت الأسرة المكونة من شخص واحد هو أسلوب الحياة المفضل لثلاثين في المائة تقريبا من الأسر في أوروبا والولايات المتحدة (تصل النسبة في السويد إلى 47 في المائة). وليس سائر العالم بمتخلف كثيرا عن هذا الركب؛ فالأسرة المكونة من شخص واحد أكثر شيوعا في اليابان عنها في الولايات المتحدة، لكن لم تتبن كل الأمم هذه الأسلوب المعيشي؛ فالهند التي ظلت فيها الحياة الأسرية قوية وحيوية لا تتعدى نسبة الأسر المكونة من شخص واحد ثلاثة في المائة.
لا يمكن لأحد أن يجادل بأنه سيكون من الأفضل العودة إلى ظروف الماضي، حين كان الرجال والنساء يعتمد بعضهم على بعض اعتمادا كاملا، حتى إنهم لم يكونوا قادرين أن يعيشوا حياة مقبولة من دون زوج، أو حين كانت النساء يقضين الجزء الأكبر من حياتهن في الطهي والتنظيف وتربية الأطفال. لكن من المفارقات أن الأجهزة الشديدة التوفير للجهد التي اقتنتها الشعوب المعاصرة لجعل عمل المرأة أخف وأسهل كان لها أثر حرمان النساء من مكانتهن الضرورية التي تمتعن بها في علاقاتهن مع الرجال في المجتمع بوجه عام. وفي الوقت ذاته كان من آثار بدء ما يسمى بمجتمع العمل أنه زاد من أهمية الدور الاقتصادي للرجل، الذي كان في الأصل العضو الوحيد في الأسرة الذي لديه حرية مزاولة عمل مدر للربح.
كان من النتائج المباشرة لظهور الأجهزة المنزلية - والتحول التام للأهمية الاقتصادية للأطفال من كونهم أصولا اقتصادية إلى أعباء اقتصادية - أن تقلص إلى حد خطير الدور المهم السابق الذي كانت تضطلع به النساء حين كن حاملات الأطفال وراعيات البيوت. خلال السنوات الأولى من القرن العشرين لم تتعد ميكنة المنزل ظهور تقنيات التنظيف الآلي مثل الغسالات والمكانس الكهربائية. وطوال سنوات الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية، أدت البطالة الهائلة والتجنيد الإلزامي إلى عدم قدرة عدد كبير من الرجال على إعالة أسرهم على نحو كاف. وكان هذا هو الوقت الذي بدأت فيه النساء لأول مرة العمل خارج المنزل بأعداد كبيرة، وقد وجد العديد من النساء في التجربة تمكينا وتحريرا.
لكن حين وضعت الحرب أوزارها عاد الرجال إلى وظائفهم، وحين غادرت النساء وظائفهن وعدن إلى رعاية المنزل وتربية الأطفال، هبطت مكانة المرأة ومنزلة عمل المرأة إلى أدنى مستوياتهما تاريخيا. لهذا السبب بدءا من منتصف القرن العشرين، حين بلغت ميكنة متاع المنزل أوجها، لكن قبل أن يعد من المقبول أن تعمل النساء المتزوجات ذوات الأطفال للحصول على مرتبات في وظائف بدوام كامل؛ بدأت نساء العالم الحديث يخضن أزمة وجودية تتعلق بمكانتهن وكبريائهن ما زالت مستمرة حتى اليوم.
في مجتمعات الصيد وجمع الثمار في الزمن الماضي، لم تكن النساء فقط يجمعن الحطب ويطهين الطعام، ولكنهن أيضا كن يجلبن أغلب الغذاء النباتي الذي لم تكن الجماعة ككل تستطيع الحياة بدونه. وكان ذلك يجعل الرجال البالغين قادرين على قضاء النهار في صيد مؤن اللحم الذي يعادله في الأهمية. وفي المجتمعات الزراعية لم تعمل النساء في الحدائق ويتولين كل أعمال الطهي والتنظيف والغسيل فحسب، لكنهن كن أيضا يحملن ويربين الأطفال الذين يجلبون الثروة والمكانة والأمل بضمان المستقبل للأسرة ككل.
Page inconnue