Sans Limites
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
Genres
7
فخلال ذلك الوقت كانت الأدوات المميكنة الحديثة كلها تعمل بطاقة المحركات الكهربائية، وأثناء ذلك صارت أصغر حجما وأخف وزنا وأكثر قابلية للحمل، وأكثر كفاءة عن الجيل السابق من الأدوات المميكنة التي كانت تعمل بطاقة المحركات البخارية، أو الأجيال السابقة لذلك التي كانت تعمل بالأيادي والأقدام البشرية التي كانت تدير الأذرع والطواحين. وخلال أقل من مائتي عام أدى الانتشار الواسع للوقود الحفري والمحركات الترددية والكهرباء - التي صارت كلها ممكنة بفضل تقنية الآلات الدقيقة - إلى تغيير كل وجه من وجوه الحياة البشرية كلية.
فقط خلال اللحظات النادرة حين تؤدي عاصفة عاتية أو حادثة بناء إلى انقطاع الضوء لساعات قليلة يتيسر لنا نحن من نعيش في العالم المتقدم مجرد لمحة جزئية ومؤقتة عن الدور المحوري الذي تلعبه الكهرباء في حياتنا اليومية؛ إذ تتعطل أنظمة التدفئة وتكييف الهواء، وتتوقف الثلاجات عن العمل، ولا تشتعل الأفران، وتصير المصاعد معطلة، والتلفاز لا يعمل، وتنطفئ أجهزة الكمبيوتر، ولا يمكن إعادة شحن الأجهزة المحمولة. كما تتعطل كل مقرات عمل العالم الحديث وأنظمة نقله - المكاتب والمصانع والمخازن والمتاجر والمستشفيات والمطارات والقطارات وقطارات الأنفاق والمصاعد التي تجعل الحياة المدنية ممكنة في المجتمع المعاصر - ويتحتم مغادرتها حتى تعود الكهرباء. وحين تنقطع الكهرباء ليلا، يغمرنا ظلام غير مألوف ومزعج في عالم لا يضيئه سوى الشموع والفوانيس.
وهذه لا تعدو كونها التقنيات المعتمدة على الكهرباء التي تولدها محطات الطاقة وتوصلها في أسلاك للمباني وغيرها من المنشآت المستديمة. أما إن اختفت الكهرباء نفسها بغتة فلن تدور أو تسير أي من السيارات أو الشاحنات أو الحافلات أو القطارات، ولن تحلق الطائرات، وستصير قوى القانون والنظام غير قادرة على التواصل، ومع تعطل الهواتف أو الأجهزة المحمولة أو أجهزة اللاسلكي ، لن يستطيع الناس الحديث بعضهم مع بعض على الإطلاق إلا من يتصادف وجودهم في نفس المكان.
من المدهش أن نجد أن الكهرباء نفسها لم تصبح متوفرة في العموم حتى أواخر القرن التاسع عشر حين نضع في الحسبان اعتمادنا البالغ عليها في حياتنا المعاصرة. ومن بين جميع الطرق المتعددة التي غيرت بها الكهرباء طبيعة حياة البشر، قد يكون أهمها - من ناحية تأثيراتها الثقافية والاجتماعية - ازدهار التقنيات المتقدمة في المنازل وتأثير التقنيات المنزلية في أوضاع المرأة في المجتمع الحديث.
الأجهزة المنزلية
أقمت مع أسرتي طيلة خمسة عشر شهرا، بدءا من خريف عام 1967م في جزيرة إيوس اليونانية، حيث درست أساليب المعيشة التقليدية لقرويي الجزيرة اليونانية من أجل رسالة دكتوراه في علم الإنسان الثقافي. وقد اخترت جزيرة إيوس لأنها في ذلك الوقت لم يكن بها مرافق بحرية قادرة على خدمة السفن السياحية، ولم تكن الكهرباء أو العربات المزودة بمحركات قد دخلت الجزيرة بعد. ونتيجة لهذا، كان سكان الجزيرة يعيشون بدرجة كبيرة كما كان يعيش أغلب سكان الجزر الأوروبيين قبل بداية الثورة الصناعية.
كان أهل إيوس ما زالوا يزرعون حبوبهم ويطحنونها لتصير دقيقا في طاحونة القرية. وكانوا يعدون عجين الخبز في منازلهم ليخبزه خباز القرية كل صباح في فرن حجري ضخم يعمل بنار الحطب الذي كان يشعل كل مساء ويظل يحترق طوال الليل. وكان أهل الجزيرة يزرعون محاصيل الزيتون، التي كانوا يعصرونها لاستخراج الزيت؛ ومحاصيل العنب، التي كانوا يعصرونها لاستخراج النبيذ. وكانت كل لحوم الخنازير والخراف والماعز والدجاج والبيض الذي يستهلك على الجزيرة، وكذلك كل الأسماك والخضروات، يرعاها مزارعون محليون ويصطادها صيادون محليون. أما لحم الأبقار فلم يكن متوافرا. وكانت نساء إيوس ما زلن يغزلن خيوطا من القطن والصوف، ويحكن كثيرا من ملابسهن بأياديهن.
وفي صباح أيام الأحد، حين يكون الطقس ملائما، كانت تصل باخرة صغيرة من أثينا عائدة إلى إيوس، على متنها أولئك الذين غادروا الجزيرة قبل أسبوع لزيارة أقاربهم أو لمزاولة أعمالهم. وكانت السيارة الوحيدة على الجزيرة، وهي سيارة أسفار عتيقة، تستخدم في صباح تلك الأيام لحمل كبار السن والواهنين من المسافرين في الطريق الموحل الملتوي الطويل الممتد من الميناء إلى القرية. وكان أغلب الناس غير مستعدين لدفع تكلفة الرحلة، فكانوا يحملون أمتعتهم على دواب، ويتحملون السير طويلا صاعدين سلما حجريا قديما. أما باقي أيام الأسبوع فكانت سيارة الأسفار تبقى دون حركة. وكانت البغال والحمير هي وسيلة الانتقال الوحيدة.
كان الناس في مجتمع قرية إيوس التقليدي يعملون من الصباح الباكر حتى غروب الشمس، فإذا حل الظلام تناولوا العشاء على ضوء الشموع ومصابيح الكيروسين. وكان الأكثر ثراء من القرويين يستخدمون المواقد الغازية للطهي، وكان الأقل ثراء يستخدمون كوانين (مواقد) فحم نباتي. وكانت المياه الباردة تحمل إلى المنازل في صفائح وأسطال تملأ من صنابير عامة في الشوارع. أما تسخين المياه فكان على أسطح التنانير. وكانت الملابس تغسل يدويا خارج المنازل بلوح الغسيل في وعاء معدني. وكانت الأرضيات تنظف بالمقشات والمماسح، فلم تكن الغسالات والثلاجات والمكانس الكهربائية والمواقد الغازية ومكيفات الهواء وغسالات الصحون معروفة. وكان الطعام المعلب يباع في عدد قليل من المتاجر العامة الصغيرة، ولكنه كان يبتاع من أجل المناسبات الخاصة فقط، ولم يكن الطعام المجمد موجودا.
Page inconnue