فقال حسنين ضاحكا: لقد عشت يا أماه نصف قرن في ظل الاحتلال؛ فلندع الله أن يمد لنا في عمرك نصف قرن آخر في كنف الاستقلال!
فقالت الأم ممتعضة: احتلال، استقلال، لا أدري أي فرق بينهما! خير لنا أن ندعو الله أن يكشف عنا الغمة، وأن يبدلنا من عسرنا يسرا.
فقال حسنين بحماس وإيمان: لو لم يكن الاحتلال لما تركت أسرتنا بعد موت أبي بلا معين! (ثم مخاطبا حسين) أليس كذلك؟
فقال حسين بأمل: أعتقد هذا!
ورددت الأم نظرها بينهما في شك كثير، لم تكن تحفل بهذه الأحاديث العامة التي تساق إليها أحيانا من حيث لا تدري، أمر واحد يهمها، وتنسى من أجله الدنيا وما فيها؛ هو أن تبلغ بهذين الشابين اللذين تحبهما أكثر من الحياة نفسها بر الأمان، وأن تراهما رجلين ناجحين سعيدين قد أمنا شر الحياة، وآوت الأسرة منهما إلى ركن ركين.
44
وفي نهاية العام حصل حسين على البكالوريا، وقد ذاقت الأسرة في فترة الانتظار السابقة لظهور النتيجة مرارة الإشفاق والشك. ولم يكن أحد يجرؤ على أن يتكهن بما يجد فيما لو أخفق حسين وحرم من المجانية، ولم تكن الأم تتصور أن ينتهي صبرها هذه النهاية، ولا أن تنكشف آمالها عن مثل هذا القنوط. وعندما تناول حسين الجريدة من البائع وأجرى بصره الزائغ في صفحاتها باحثا عن نمرته، التف به أخوه وأخته وأمه بقلوب خافقة، ينبض في أعماقها الأمل ويظلها الخوف والعذاب! فانطبعت اللحظة الرهيبة على نفوسهم إلى الأبد. ثم كان يوم سعيد، أول يوم سعيد منذ عامين كئيبين، فطابت النفوس، ولهجت الألسن بالشكر لله، وراحوا يفصحون عن سعادتهم بالحديث اللطيف حينا، وبالصمت المطمئن الباسم حينا آخر، ثم وجدوا أنفسهم يطرقون باب المستقبل، ويفكرون في الغد القريب والبعيد معا، فنسوا سعادتهم وهم لا يشعرون، وتخايلت لأعينهم مرة أخرى الصعاب التي تكتنف حياتهم، فحل التفكير وهمومه محل السعادة الصافية العابرة، وعرف حسين حقيقة جديدة في حياته، وهي أن السعادة قصيرة الأجل، وأنها لا تعمر في النفس طويلا كالحزن أو الحسرة. ولم يكن التفكير في مستقبله بالأمر الجديد عليه؛ كان بطبيعة الحال ذا آمال وأحلام، ولكن الحقائق لم تكن لتغيب عنه كذلك، وكأنه أراد أن يستدرجهم إلى إعلان آرائهم فتساءل: ماذا لديكم عن الخطوة التالية؟
وكان للأم رغبة، فهي تود أن تنتهي الحال التي يكابدونها بأي ثمن. وكانت تعلم - وقد خلا البيت مما يمكن الانتفاع بثمن بيعه - أنهم لن يستطيعوا مواصلة هذه الحياة بعد الآن. بيد أنها لم ترتح إلى إملاء رغبتها عليه، ونفرت من التحكم في مستقبله كما تتحكم في حياته، أجل لم يعد طفلا، فإذا وافق على رأيها مختارا فبها وإلا فليقض في أمر نفسه بما هو قاض، وليمدوا هم في حبال التصبر والتجلد، بل والجوع حتى يأمر الله بالفرج؛ لذلك قالت باقتضاب: فلنتدبر الأمر طويلا.
ولكن حسنين كان يفكر بسرعة مدفوعا بعواطفه كعادته، وكانت أنانيته تتوارى خلف ما يظنه الصالح العام، فقال: لم تعد الحياة تطاق، غذاؤنا سيئ ونحن في حكم الجياع، وثيابنا متداعية ممزقة أو مرفوة، وبيتنا عار، لا يصح أن نطيل أمد العذاب، لا سبيل إلا أن نبدأ حياتنا العملية.
وكان حسين يفهم أخاه خير الفهم، فأدرك لتوه ما يرمي إليه، وكان مقتنعا بما يريد أن يذهب إليه، ولكن ساءه مكره فتغيظ عليه وقال: لماذا تقول «نبدأ»؟ لماذا تستعمل صيغة الجمع بينما الأمر يتعلق بي وحدي؟
Page inconnue