ندت عن نفيسة كالصرخة، فالتفتت المرأتان صوبها في دهشة، وظنت الضيفة أنه كبر على الفتاة أن يحظى بمثل هذه العروس شاب تافه كسلمان فقالت: نعم سلمان، والظاهر أن عم جبران لم يمانع لصداقته لعم جابر سلمان. وربك يعطي الأرزاق بلا حساب.
أدركت رغم هول الصدمة أنها كادت تفضح نفسها فتماسكت في جهد شديد. لقد انفجرت الصرخة في صدرها بلا وعي وانطلقت من فيها دامية، ولم تعد تستطيع أن تتابع حديث المرأتين، وشعرت بأنها تموت موتا سريعا منقضا، وساعدتها الظلمة في إخفاء معالم وجهها فشدت على أصابعها حتى لا تصرخ مرة أخرى، ماذا قالت المرأة! ليس ما بها كابوس أو جنون، إنه حقيقة بلا ريب؛ سلمان جابر سلمان، دون غيره، وعاودتها ذكرى مخاوف قديمة كانت تنتابها من حين لآخر في ساعات انفرادها، مخاوف غامضة أحيانا كقلق ينشب أظافره في صدرها، أو واضحة أحيانا أخرى تتبدى في صورة بشعة يقشعر لها البدن. وخالت في ذهولها لحظة أن ما بها ليس إلا حالة مرعبة من هذه الحالات، ولكن لم تكن إلا لحظة واحدة، ثم عاودها هذا الشعور الثقيل الرهيب بأنها تموت؛ لقد ذاقت قساوة الدنيا مع أسرتها جميعا، ولكنها لم تصدق أنها قاسية إلى هذا الحد، وعضت على شفتيها وهي لا تدري كيف تقاوم هذا الانحلال والتهدم، الساريين في روحها وجسدها؛ ما هي بخيبة الحب، هي خيبة الحياة كلها، ولكن يجب أن تتمالك نفسها، وعسى أن تدعوها الضيفة إلى الحديث لأية مناسبة فلا يصح أن ترتعش نبرات صوتها، أو تحتنق من شدة التأثر. ولعله من الخير أن تلوذ بالفرار إلى حين، ولم تن عن تحقيق نيتها فتناولت قدح القهوة ومضت إلى المطبخ، هنالك زفرت من الأعماق، وشدت بيديها على ضفيرتيها القصيرتين بشدة وهي تحملق في سقف المطبخ الملوث بالهباب، وقد عشش العنكبوت بأركانه، ولبثت في جمود كالذاهلة، ولم يكن أملا، ولكن خدعة، كذبة مفزعة، ضربة قاضية، سرقة، لطخة، جرحا لا يندمل، وحلا، لقد انتهت، انتهت بلا أدنى ريب! لا يمكن أن تتخيل أمها هذا، أما حسين وحسنين فهيهات! رباه كيف استطاع خداعها إلى هذا الحد؟ كانا معا يوم الجمعة الماضي فأي مجرم هذا وأي إجرام؟! ماذا يجدي الغضب أو الحقد، أو الكراهية؟ شعرت نحوه بالكراهية تقتل أي أثر للخير في النفس. ما أشد حاجتها إلى التفكير والتدبر! إنها تتلهف على مكان قصي خال ينأى بها عن هذا المحيط الذي باتت تضمر له البغض أشد البغض، مكان تستطيع أن تسأل فيه نفسها كيف هوت بمثل هذه السهولة، وبمثل هذه السرعة، وبمثل هذا الهوان. - نفيسة!
بلغ نداء أمها مسامعها فانتفضت في ذعر، ثم حنقت عليها حنقا شديدا كأنه المقت، ولم تأت حراكا، فأعادت الأم النداء فذهبت وهي تعض على نواجذها، ووجدت الضيفة متأهبة للذهاب وأمها تودعها عند الباب الخارجي، وقالت لها وهي تسلم عليها: تعالي إلي بعد غد فنذهب معا إلى بيت العروس.
فأومأت برأسها بدلالة الإيجاب دون أن تنبس، ولما أغلق الباب قالت الأم: سلمان! والله ما يستاهل هذا الحظ.
فشعرت بخنجر ينغرس في شغاف قلبها، ولم تعلق بكلمة. وضاق صدرها بالمكان والجو وأيقنت بأنها أعجز من أن تتحمل المكث إلى جانب أمها، وخطر لها خاطر كلسان من لهب انشق عنه صدرها، فمضت بقدم ثابتة إلى حجرتها، ثم عادت وقد ارتدت معطفها فسألتها أمها بدهشة: أذاهبة إلى الخارج؟
فقالت وهي تتوجه صوب الباب: نعم سأشتري شيئا للعشاء، وربما ذهبت إلى شقة فريد أفندي ساعة.
33
ومالت نحو فناء البيت وأنفاسها تتردد في ثقل وصعوبة، كانت السماء صافية مرصعة بالنجوم، والجو بارد بعض الشيء تتخلله نسمات لطيفة من طلائع الربيع، وسارت إلى الباب الخارجي ثم عرجت غير هيابة إلى دكان عم جابر، كان الرجل العجوز عاكفا على مراجعة الحساب الختامي لليوم، على حين وقف سلمان مرتفقا الطاولة ناظرا فيما بين يديه في شرود. واقتربت منه وهي تلقي عليه نظرة حادة ملتهبة، فرفع إليها عينيه الصغيرتين ولم تلبث أن لاحت فيهما نظرة جفول وارتباك ثم قال ببلاهة: أي خدمة يا ست نفيسة؟
فقالت بعزم وثبات: الحق بي في الحال.
فأومأ لها بالإيجاب وهو يتظاهر بأنه يقدم لها شيئا من الدكان، ومضت إلى الشارع ووقفت تنتظر عند رأس عطفة نصر الله، وهي تتفحص ما حولها بعناية وحذر، وطابت نفسها بما فعلت؛ فما كان في وسعها أن تصبر دون حراك حتى مطلع الصباح، وجعلت تنظر داخل العطفة حتى رأته قادما بجلبابه وجاكتته مسرعا في خطاه الملهوجة؛ حقير تافه، شيء تعافه النفس، مخادع مخاتل كذاب، ما أحقر هذا! ماذا هي فاعلة به؟ أترتمي على قدميه باكية مستعطفة! هل تضرع إليه أن يظل لها وحدها؟ بدا أن هذا كله شيء فظيع مستنكر، وعلى هذا فقد وشى بمشاعر عميقة صادقة لا تدري كيف تفصح عن نفسها، فقبل ساعة واحدة كانت تعده رجلها وتعد نفسها امرأته، والهلاك أهون من أن تنفصم هذه العروة بين يديها، كانت شيئا وليست الآن شيئا على الإطلاق، عدم مخيف ويأس قاتل، واقترب منها في حذر وغمغم دون أن يلتفت إليها: خير؟
Page inconnue