فقال الرجل: مبارك .. مبارك.
وشعر حسنين بارتياح وزهو، ثم ونهض هو يقول: لقد أخرتكم، وأنا آسف يا سعادة البك .
ونهضوا جميعا وهبطوا إلى موقف السيارة، وتمنى لو يدعوه الرجل إلى الركوب معهم، ولكنه مد له يده مودعا، فسلم عليه وحنى رأسه تحية لأسرته، ومضى إلى الباب مسرعا، كانت الزيارة تبدو مخفقة لأنه لم يمس الموضوع الذي جاء من أجله، ولكنه كان يرى توفيقه بهذا اللقاء غير المنتظر وهذه الكذبة التي جادت بها البديهة السعيدة أخطر من غرضه الأول الذي لن يؤثر فيه تأجيل يوم أو يومين.
71
وقلب وجهه في السماء، ولما يبرح شارع طاهر، فطالع في صفحتها نظرة الغروب الشاحبة، فتساءل ترى هل يجد أخاه حسن في بيته إذا جازف بزيارته؟ كان مصمما على مجابهته برأيه وإن كان ضعيف الأمل في إصلاح ما فسد من أمره، ولكن تركيز أفكاره في مستقبله ومستقبل أسرته جعله يستهين بكل شيء حتى مناضلة حسن نفسه. ومضى يشق طريقه بعزيمة لا تنثني، ولكنه كان يحمل قلبا أثقله الهم والشك. واستقل الترام حتى ميدان الخازندار، ثم اتجه إلى شارع كلوت بك وقد تحول انتباهه إلى بدلته العسكرية التي فرضت عليه الظروف - كانت أمه قد استغلت ملابسه القديمة في أغراض جديدة كعادتها - أن يخترق بها طرقا مريبة! لم يكن الاختيار بيده، وكان يرى في حسن مشكلة الأسرة المعقدة الأولى. لقد تخلت نفيسة عن مهنتها، وسوف يهجر قريبا عطفة نصر الله بل وشبرا جميعا، وربما أسدل ستار النسيان على الماضي البغيض كله، فلم يبق إلا حسن، وهيهات أن يطمئن له جانب ما دام شقيقه مقارفا حياته الآثمة. وطالعته عطفة جندف فعرج إليها متجنبا الأنظار التي تطلعت إليه في دهشة، وقطعها مسرعا إلى بيت أخيه، ومرق إليه كالهارب، مستقبلا الرائحة النتنة. وارتقى السلم الحلزوني ممتعضا، ذاكرا في ضيق وخجل زيارته الأولى لهذا البيت منذ عام، حتى وقف أمام باب الشقة في شبه ظلام وطرق الباب. وفتح الباب عن وجه رجل غريب - وجه شائه من الوجوه التي لم تبرح ذاكرته منذ زيارته الأولى - وما إن وقع بصره عليه حتى دفع الباب فأغلقه في وجهه بسرعة غريبة، وقد ندت عن فيه صرخة قائلة: «بوليس!» فدهش الشاب، ثم حدس ما هنالك فانزعج وأحس بخزي وألم لم يحس بمثلهما من قبل. ولبث متسمرا في مكانه لا يدري ماذا يفعل. وفكر في العدول عن الزيارة، ولكنه لم يبرح مكانه، ووجد من نفسه تصميما عنيدا على إنجاز مهمته مهما كلفه الأمر. ليست المسألة لهوا وعبثا؛ هي حياة أو موت، ولن يستطيع السير في حياته قدما ووراءه هذا البيت. وطرق الباب مرة أخرى، وانتظر وهو يعلم بعبث الانتظار، ثم أعاد الطرق بشدة. ترى هل يمكن أن يكونوا قد هربوا من الشقة من إحدى النوافذ؟ وأراد أن ينادي أخاه بصوت مرتفع فيتعرف عليه بصوته، ولكنه خاف أن يعرفه كما يريد، ثم يعلن شخصيته لصاحبه المذعور ليطمئنه فتذاع الصلة التي يتمنى ألا تعرف أبدا، ومع هذا فمن أدراه أن حسن لم يخبر أحدا بحقيقة شقيقيه ولو على سبيل الفخار؟! وصر على أسنانه في خزي ويأس، ولكن اليأس أمده بقوة عناد جديدة، فطرق الباب بقبضة يده بعنف وصاح: «يا حسن، يا حسن، أنا حسنين!» ولم يطل انتظاره بعد النداء، ففتح الباب وبدا حسن خلفه يطالعه بعينين ذاهلتين. وبدا كمن يفيق من صدمة، وثبت عليه بصره لحظات دون أن يتحرك، ثم دبت في عينيه يقظة وشاع في نظرتهما الابتسام وهتف: حسنين! .. ضابط! .. لا أصدق عيني!
وشد على يده، وربت بالأخرى على ذراعه، وجذبه إلى الداخل وهو يضحك ضحكة عصبية عالية. ثم سار به إلى حجرة النوم وهو يقول: ضابط! .. يا لها من مفاجأة! .. مبارك مبارك .. هذا يوم سعيد.
وجلس حسنين على الكنبة، وأغلق حسن الباب ثم جاء فجلس إلى جانبه. وكان الشاب يبذل جهدا جبارا ليتغلب على اضطرابه ويتمالك أعصابه، ونظر إلى أخيه مبتسما وقال: إني أحق الناس بالتهنئة، ولكنك أنت أحقهم بالشكر.
فضحك حسن بسرور، ولعل شعوره بالسرور كان مضاعفا بعد ما كان من انزعاجه وقال: علام أستحق الشكر؟ ما أديت إليك إلا بعض حقك عندي. دعنا من هذا وخبرني عن حال الأسرة، وكيف أمنا ونفيسة؟ وما أخبار حسين؟
وراح يحدثه عما يريد بباطن فاتر وظاهر متكلف الاهتمام، وكاد الحديث يسوقه وهو لا يدري إلى سؤاله عما قطعه عنهم، ولكنه أمسك عن السؤال في اللحظة الأخيرة، ذاكرا أن انقطاعه هذا خير غير مقصود وأن وصاله شر ما يبتلون به وهو على هذا الحال، ولما فرغ من حديثه قال حسن: الحق أني أحن إليهم كثيرا، ولكن حياتي لم تعد تسمح لي بإشباع هذا الحنين. نحن في بلد واحد، ولكني في الواقع كأني في بلد بعيد منقطع عن العالم، وربما خفف عني الألم أحيانا أنهم لم يعودوا بحاجة إلي وأني أديت بعض الواجب علي، وفضلا عن هذا فلست تجدني في يسر متصل؛ فقد يمتلئ جيبي بالنقود أياما ثم يفرغ أسابيع، وفي حالة امتلائه تجدني مضطرا للإنفاق بغير وعي. لا عليك من هذا، لقد أصبحت ضابطا! فمبارك عليك حظك، ولا يصح أن أخلط بفرحي شيئا آخر .. مبارك يا حضرة الضابط!
وجعل حسنين يصغي إليه وهو يتفرس في وجهه، فهاله ما يرى من تغير وتشويه وغرابة، كأنه يستهلك في العام الواحد من حياته المحفوفة بالمهالك أعواما طوالا! لقد انتهى حسن، وشعر بانقباض وتشاؤم، وبثقل المهمة التي جاء من أجلها. ومع هذا فلم يخطر له لحظة واحدة أن يعدل عما يراه واجبه، وعزم على أن يتسلل إلى هدفه برفق، فابتسم وقال: أخاف أن أكون قد أزعجتك بزيارتي! - ابصق هذه العبارة من فيك! .. ما هذا القول يا حضرة الضابط؟!
Page inconnue