Avec une franchise absolue

Youssef Idriss d. 1412 AH
44

Avec une franchise absolue

بصراحة غير مطلقة

Genres

وفقط حين امتد الصراخ حتى أصبح يقينا لا شك فيه، وحين تبينت صوته وقد انتظم واشتد وأصبح يمخر به عباب الدنيا، نافضا عن نفسه الزرقة والإسفكسيا والعدم، حينئذ فقط، فتحت الباب، ورأيته. رجلاه الصغيرتان مضمومتان إلى أعلى في عناد حبيب، وصدره الذي في حجم القبضة منفوخ كصدر الديك، ويداه الدقيقتان تحتضنان الهواء في استماتة غريق في بحر من الهواء.

ورأيت منقذه الدكتور وقد انتهى من دوره المعجز، حبات العرق نابتة بغزارة على جبهته، وأنفاسه هو الآخر تلهث، وملامحه تشع منها فرحة حياة أحيت لتوها حياة.

وما كدت أمد يدي لأصافحه حتى أحسست بشيء يشرح قلبي. إذ يبدو أن التمرجية لم تتمالك نفسها وأطلقت زغرودة، ولأول مرة أحس الزغرودة وكأنها صفارة الحياة تنطلق من القلب لتهز القلب، وتؤذن، وتبشر بالنجاة، وبالحمد لله على السلامة. (40) حين ضاع الولد

هي لمحة هزار من القدر أو إشارة من القوى المجهولة تقول: نحن هنا، ونحن على الدوام بالمرصاد، ولكنها على أية حال تجربة، وإذا كان بعض الناس يستبيحون لأنفسهم أن ينفقوا الأموال والصفحات والمجهودات في حديث معاد عن الكورة والشواكيش والعناتيل والبناطيل. وإذا كان يحلو لبعض الناس أن يتضاربوا، بل ويقتل بعضهم بعضا في حماس أخرق من أجل هذا اللاعب أو ذاك، فمن حقي هنا أن أروي تجربة قد تبدو ذاتية، ولكن على الأقل فيها إنسانية، إذ - فجأة - تفقدت ابني الصغير على البلاج فلم أجده. كنت جالسا أقرأ الجرائد وألاحظه وهو يلعب، وفجأة لم أره، ودرت بعيني دورة سريعة فلم أعثر له على أثر، لجزء من الثانية دق في رأسي الاحتمال:

أيكون قد فقد؟ ولكني استعنت بكل شيء كي تصرخ أعماقي: غير معقول، لا يمكن أن يكون قد فقد، لا بد أنه عند «الدش»، أو عند بائع «الجيلاتي»، أو في مكان ما حول الشمسية، كنت أجلس متعبا، ملولا، أتطلع في بله نفسي إلى كل ما حولي غير مؤمن بالصيف أو بالراحة، وبكل هؤلاء المتزاحمين في جنون متحضر حول رقعة صغيرة من البحر، يفسدون الجو والبحر والطبيعة ليتحدثوا عن «حلاوة» البحر والجو والطبيعة، وكل ما يعزيني أن الأولاد سعداء وأنهم يختزنون في ذاكرتهم الدقيقة صورا لسعادة موهومة ستظل عالقة بها أبد الدهر، وبها ذكرياتنا نحن أيضا من طفولتنا ليست سوى خدعة!

انتفضت واقفا فجأة، من كل اليأس والحيرة والضياع تبدى لي فجأة هدف واحد محدد: أن أعثر على ابني وأن أراه مرة أخرى، أسرعت إلى كل ناحية من النواحي الأربع، إلى العائلات المتجمعة أتطلع، إلى المستحمين في البحر، اللاعبين الكرة خلف الشماسي، الأشياء والكائنات الكبيرة كنت أنبذها، كل صغير ثابت أو متحرك كنت أنظر إليه، وأصبح علي مهمتان: أن أبحث عن بهاء الصغير، وأن أطمئن زوجتي، وكل دقيقة تمضي دون العثور عليه تقريبا بسرعة من فاجعة أنه حتما وبكل تأكيد قد فقد. خلال الدقائق القليلة القادمة إما أن نعثر عليه وإما أن يكون قد ضاع، والوقت ثابت جبان يهرب، ويمضي دافعا إيانا لنواجه الحقيقة، إنه شعور لا يمكن أن نحسه ولا يمكن وصفه، شعور الأب أو الأم حين ينقطع فجأة ذلك «الكابل» الإحساسي الذي يربطهما بابنهما، وهو بالتأكيد عند الأم أقوى ألف مرة، إننا عند الولادة نقطع الحبل السري المادي الواصل بين الأم ووليدها، ولكن يبقى مع هذا حبل لا يمكن قطعه، حبل سري وجداني حقيقي، بل أكاد أقول مادي يصل بين الأم وولدها، الحبل انقطع، لا يوجد على الطرف الآخر كائن حي لذيذ صغير اسمه الولد.

أربع أو خمس مرات ذرعنا الشاطئ طولا وعرضا، كل شيء كما هو عليه، البحر هادئ، الأمواج تتهادى وكأن لم يحدث شيء، المصيفون يثرثرون تحت الشماسي ويتمطون، الرمل ممتد، المضارب تضرب الكور، صراخ المرح ينطلق شارخا الجو بين الحين والحين، كل شيء كما هو إلا الفجيعة الداخلية التي لا يحسها أحد سواك، أنت وحدك الذي يمزقك التناقض الصارخ بين خارجك حين تراه عاديا طبيعيا، وداخلك وأنت تحسه ألما له لسع النار، عشر دقائق مضت ولم يظهر الولد، الحقيقة العارية القاسية ... فقد الولد، مستحيل، لا يمكن أن يكون قد ضاع، لا بد أنه في مكان ما هنا أو هناك، لا يمكن أن يكون قد ضاع، فلتستمت باحثا منقبا، ولكن أي بحث؟! إنك في غابة أشجارها ألوف السيقان وأوراقها مايوهات وشماسي. إنه بحر آدمي كبير ابتلع الولد كما تبتلع المياه أي كائن، وهدأ سطحه والتأم وكأنه لم يبتلع شيئا، الأمل الأخير ... البوليس ... لا بد أنه يعرف الطريق للحصول على الأطفال المفقودين، نقطة الشاطئ غير بعيدة، أسرعت إليها، أربعة عساكر جالسون يدخنون فوق أريكة، وواحد ينظر من الشباك، شاويش يجلس على مكتب محرجا وكأنها أول مرة يجلس فيها إليه: الولد ضاع؟ ولا يهمك ... ولا تخف. سألني الشاويش: هل ضاع اليوم أم أمس؟ أمجنون ذلك الرجل؟ وما الذي يجعلني أنتظر إذا كان قد ضاع بالأمس للتبليغ عنه اليوم؟! ضاع منذ نصف ساعة. منذ نصف ساعة فقط؟ هذه بسيطة جدا، من المحتمل أن يظهر الساعات القليلة القادمة. ولا يهمك، كل يوم يضيع طفل أو طفلان ويظهرون، أحدهم ظهر بعد يوم كامل. لا بد أن الولد مع عائلة مصيفة عثرت عليه وستنتظر بعض الوقت ثم تحضره إلى النقطة . عنوانك، بطاقتك الشخصية. لم أفه بحرف واحد. غادرت النقطة يائسا تماما، ما فائدة البوليس إذن إذا كان الناس هم الذين يعثرون على الآدميين والأشياء المفقودة؟ إذا كان الناس هم البوليس الحقيقي؟ عدت إلى الشاطئ مرة أخرى. لاحظت أن الوقت قد مضى والساعة قد بلغت الثانية والنصف، وأصحاب الشماسي ينصرفون، والشاطئ يبدأ يخلو، هنا الكارثة، فأملي كله هو في وجود الناس على الشاطئ، فأنا أعرف أن الولد بينهم ووجودهم أمل في وجوده، يا رب دع الشمس لا تتحرك، الصراع قوي رهيب شديد، بين تصوري لاحتمال أن يكون قد فقد نهائيا والأمل الضعيف يساورني في ضعفه للعثور عليه. موجات إحساسية تهب وتلهب خيالي بصوره وهو يلعب، وهو يجن جنون الأطفال وهو يغمض عينا ويفتح أخرى إذا ما واجه الشمس، يا رب علق الشمس. الميكروفون، لا بد من عربة بميكروفون. يا أولاد الحلال ولد تايه، ولد لو عرفتم كيف تحملنا في سبيل أن يعيش! كم مرض وعالجناه! كم كاد يهلك وأنقذناه! ولد مهما رأيتم فيه فرأينا فيه أنه ألذ أولاد العالم لأنه ابننا. ولكن الشمس تتحرك إلى الغرب مهددة بالسقوط في البحر، والناس ينصرفون ولم يبق سوى بؤر حياة على الشاطئ، والبحر يبدو مهجورا تعيسا، وكأنما الحياة تختفي نهائيا من فوق سطح الأرض يقتلها يأس كبير أسود يزحف من كل اتجاه، من الماء والسماء والشرق والغرب، مرة أخرى إلى النقطة ... لا، لم يحضر أحد. مرت ساعتان ولم يحضر أحد، لا بد أنه غرق في الماء، في الماء أو في الناس أو في المدينة، إنها كلها أصبحت مجاهل مخيفة، في ثانية ممكن أن تبتلع طفلك أو تبتلعك فلا يظهر له أو لك أثر، بعض شبان البلاج يسخرون من رواحنا ومجيئنا على الشاطئ كمن فقدوا عقولهم، لهم حق؛ إنهم لم يجربوا بعد هذا الطعم، طعم أن تفقد أحب وأصغر المخلوقات إليك. ترى ماذا يفعل الآن وهو تائه؟ وهو يحس أنه ضائع بلا أب أو أم أو أخ؟ وهو يبكي بكاء العاجز؛ فسنه ثلاث سنوات ونصف ، ليسترد أباه وأمه وحياته؟

ساعة ألم أبشع أخرى قضيناها، أو قضيتها وحدي، فالأم كانت قد تركتني ومضت، مدفوعة بعوامل فوق حدود العالم والعقل تبحث في منطقة كان من المستحيل أن يوجد فيها لبعدها الشديد عن المنطقة التي فقد فيها، وكنت مشغولا أفتش عن عربة وميكروفون وكل تلك الإجراءات الشكلية التي لا تجدي، وثبت أن الغريزة هي الأقوى والأحكم، فبعد ساعة ظهرت زوجتي وهي تحمل الولد، وقد عثرت عليه مع بعض أولاد الحلال في تلك المنطقة البعيدة.

الآن فقط أحس بمدى الفجيعة التي كانت ترقد وراء عم إبراهيم، وهو ينادي ونحن صغار: يا ولاد الحلال، ولد ضايع ولابس جلبية بيضا. ذلك الذي كنا نسير وراءه ونردد كلماته أطفالا ونحن في منتهى السعادة، وعلى وجوهنا نفس الابتسامة السعيدة التي كانت مرتسمة على وجه الولد، فهو لم يتصور أبدا أنه ضاع، ولم يحس مطلقا بأية فجيعة.

Page inconnue