فالراهب عمل مسرحي عملاق ومن صنع أستاذ! بحر متلاطم الأمواج بالأحداث والمواقف والأقوال يرتفع أحيانا إلى ذروات شكسبيرية ويغوص في أحيان إلى رمزيات برخت، في أحيان إبسني عقلاني محض، وفي أحيان وجداني بدني تنيسي، ولكن المشكلة ليست في هذا، المشكلة الحقيقية هي فيما يهدف إليه لويس عوض بهذه الارتدادة الفنية العملاقة، لقد عودنا كتاب المسرح الكبار حين يرتدون إلى التاريخ أن يفعلوا هذا لكي يناقشوا مثلا مشكلة معاصرة في ثوب تاريخي، أو لكي يفسروا واقعة تاريخية على ضوء جديد، أو لكي يمجدوا بطولة نسيها التاريخ وداستها عجلاته في المسرحيات، وأشهد أني حاولت بكل جهدي أن أعثر في قراءاتي الثانية للمسرحية على رمز كامل محدد فلم أوفق. كلما أمسكت بخيط وقلت إن المؤلف لا بد يقصده تولى المؤلف نفسه إفلات الخيط من يدي وناولني خيطا آخر لا يلبث أن يضيع، وأشهد أنه كان يقدم لي خيوطا كنت أحيانا أرفضها وأرفض تصديقها وأرفض أن تكون وجهة النظر الضيقة تلك صادرة عن أستاذ أومن أن صدره يسعنا جميعا وخلق من أجلنا جميعا، فالكاتب حين يكتب يصبح أكثر إنسانية ورحابة من الكائن الإنساني العادي الذي يحيا بيننا، ولويس عوض في حياته العادية إنسان رحب مثقف مستنير، بل يكاد يكون قديسا. وبعض الخيوط التي رفضتها لا يمكن أن تكون أبدا من صنع قديسين.
وشيء آخر أحب أن أضيفه، ثمة وجهة نظر تبدو في مؤخرة الصورة الشاملة الكاملة لمصر تحت الحكم الروماني، ثمة محاولات تدل على طموح مصر والمصريين إلى السيطرة على الدولة الرومانية كلها، ومن ثم حكم العالم، ثمة محاولات تكاد تشير إلى أن من مصر نبعت المسيحية وسقط شهداؤها، بل يكاد الدكتور لويس عوض يقولها صراحة على لسان «أبا نوفر» الراهب في هذيانه: يا إلهي، لماذا نزلت في بني إسرائيل ولم تنزل في هذا الوادي المقدس؟ محال أن يكون المسيح يهوديا. الله نزل في مصر ... الله نزل في مصر.
وكأن الدكتور «لويس عوض» قد عز عليه هذا، فآثر بعد عشرين قرنا من ميلاد المسيح أن يعيد صياغة التاريخ، ويقدم لنا مسيحا آخر في شخص الراهب «أبا نوفر»، مسيحا مصريا يبشر بالعدل فوق الرحمة، مسيحا يحكم ويسوس، ثم في النهاية يصلب نفسه بالسم؛ لأنه - كالبشر - أخطأ، وكالبطل الدرامي يحب أن يكفر عن خطيئته بالموت؟!
أم أراد أستاذنا الدكتور أن يولي وجهه هذه المرة عبر البحر الأبيض، ويقضي على خرافة الشرق، ويثبت أننا عمود من أعمدة الحضارة المسيحية الأوربية، بل نحن أصل هذه الحضارة. أو كما يقول الإمبراطور قسطنطين الروماني في المسرحية : لن أعود إليكم حتى أجلس على عرش أبي كونستانس النبيل وأحكم بالحق والعدل من بريطانيا إلى إسبانيا، وأسترد عرش روما الذي اغتصبه السفاح مكسيميان، ثم أطرد العبد دفكانوس من بيزنطة المجيدة عرش أمي القديسة هيلانة المصرية، وبعد أن أوحد العالم تحت صولجان واحد أنقل عاصمة ملكي إلى الإسكندرية وألبس تاج أجدادي الفراعنة.
حيرة شديدة توقعك فيها هذه المسرحية الخطيرة، قد تقبل رموزها وقد ترفضها، ولكنك أبدا تحترم كاتبها وتغتفر له هذه المؤخرة التاريخية الأكاديمية التي لم أجد لها داعيا على الإطلاق، تحترم كاتبها وتحس أن دافعه لكتابة ما كتب مثل رائع، بطله الراهب الذي أخذ مصر عقيدة وإيمانا وجعل من نفسه مسيحها الأحق، دافعه هو حبه الشديد لمصر، حب أقوى من الموت وأقوى من الحياة وأقوى من الفن والفكر. إذ هو حب يدفع الدكتور لويس ويدفعنا لأن تصبح هذه الغايات كلها وسائل لتجسيد ذلك الحب وفرضه والتبشير به. (20) الرجل والمثل
لا شك أن الأدب العربي خسر في العقاد كاتبا عملاقا ساهم في نقل العقلية الأدبية العربية من عصورها المظلمة الوسطى إلى العصر الحديث بعلمه ونوره وإدراكه، كان الأدب العربي قبل العقاد وعميد الأدب العربي الحديث طه حسين يعتمد على اللفظ فأصبح له معنى، وكانت قدرة الكاتب تقاس بمقدار ما حفظه ويستطيع تطبيقه من ألفية ابن مالك، فأصبحت قدرة الكاتب تقاس بما يستطيع العقاد أن يهدم شوقي، ولكنه استطاع أن يهدم الأسس التي تمثل نفس الدور في الشعر فارتطم بشوقي، بآخر أجيال المدرسة الشعرية القديمة، كما ترتطم مدارس الغناء الآن بأم كلثوم، ولم يستطع العقاد أن يهدم شوقي ولكنه استطاع أن يهدم الأسس التي قام عليها شعر شوقي، وهكذا انتقل شعرنا من الكلاسيكية إلى الرومانسية.
وكان العقاد أول كاتب عربي يدرك أن الأدب ليس حرفة، وأن الأديب ليس عمله أن يقرأ كتب الأدب واللغة فقط، إنما الأديب موسوعة علمية أدبية إنسانية متحركة، وهكذا ثقف العقاد نفسه، بل بالغ في هذا حتى احترف القراءة احترافا، وبذلك ضرب للجيل الذي تلاه مثلا، وأصبحت «الثقافة العامة» هدفا في حد ذاته من أهداف الكتابة والكتاب، وأعترف أني لم أقرأ كل ما كتبه العقاد، ولكن الكتب التي قرأتها أثبتت لي أن العقاد المؤلف كان مشغولا طول الوقت بمحاولة إثبات وجوده في بيئة أدبية لم تكن تعترف له بحق الوجود، كان مشغولا بأن يتفوق على مدعي التفوق، وفي صميم تخصصهم مشغولية منعته أن يبلور عمله واطلاعه وتجاربه في نظرية كاملة متكاملة، أو في رأي يتبناه ويضيف به جديدا ويبشر به.
لقد فجعت بوفاة العقاد مرتين؛ مرة لأنه مات وتهاوت بموته قمة من قممنا الأدبية القليلة، ومرة ثانية لأنه مات دون أن أراه أو ألقاه، ودون أن أعرف العقاد الإنسان بعد أن عرفت العقاد الكاتب، بل ربما هذه المعرفة الأخيرة نفسها هي التي حدت بي إلى تجنب لقائه؛ فقد كان رحمه الله يحمل للجيل الجديد عصا غليظة طالما لوح بها في وجههم. وخطئي الذي لم أدركه سوى الآن أنني كنت مثل غيري أعتقد أنها عصا من سنط وشوك وحديد، في حين أنها لم تكن إلا عصا الجد أو الأب المشفق دائما، الخائف أبدا أن يعهد بتركته إلى أجيال مهما بلغ علمها فهي في نظره جاهلة، ومهما بلغ عمرها فهي في نظره غير مسئولة، ومهما بلغت قدرتها فهي في نظره أقل مما يجب وأضحل مما يجب.
ولقد مات العقاد الرجل، ولكن العقاد المثل لن يموت، سيظل إلى الأبد حيا في الأذهان. العقاد الجريء المؤمن بقلمه وبرأيه، العنيد في الحق، الواثق تماما من دوره وقدرته، سيظل حيا حتى بعصا الأب يلوح بها في الوجوه ويحنق ولا يعترف، حيا يدفع الأجيال المتتالية الجديدة لا أن تحتذي حذوه وتصبح النسخ المكررة منه، وإنما لكي تصبح نفسها، لكي يصبح كل كاتب عقاد نفسه، لكي يبلغ ما بلغ ويعرف ما عرف ويدرس ما درس ويحقق بوجوده ما حقق. (21) الكاتبة البرجوازية التي لا تؤمن بالتعايش السلمي - أجل يا زميلي العزيز أنا سن هوين، أو الدكتورة إليزابث كورانجا كومير إن شئت الدقة، التي اشتهرت عندكم بمؤلفة قصة «روعة الحب» التي لا أعتبرها أحسن ما كتبت، فليس أشهر ما تكتبه هو دائما أحسن ما تكتبه. وأنا ممن يدعونهم «اليورجينز»
Eurasians
Page inconnue