وجاءت الحرب العالمية الأولى، فوجهت اهتمامي وجهة جديدة، إذ استغرقتني مشكلة الحروب، واجتنابها في المستقبل، فكتبت في ذلك وما أشبهه مؤلفات وسعت من نطاق شهرتي في جمهور القارئين، كان أملي والحرب ناشبة أن تجيء معاهدة السلم ضامنة لاجتناب حروب عظمى في المستقبل، لكن معاهدة فرساي خيبت أملي، وراح كثيرون من أصدقائي يعقدون آمالهم على روسيا السوفيتية، لكنني حين زرتها سنة 1920م لم أجد بها شيئا جديرا بحبي أو حقيقا بإعجابي.
ودعيت إلى الصين، فلبثت فيها نحو عام، وقد أحببت أهل الصين، ولو أني تبينت أن كثيرا من أفضل جوانب حضارتهم سيصيبه الفساد بسبب تأهبهم لمقاومة التيارات الحربية المعادية، فكأنما لم يعد أمامهم - فيما يظهر - إلا أحد أمرين؛ فإما أن يتركوا أنفسهم نهبا للغزاة، وإما أن يسلحوا أنفسهم بسيئات أعدائهم؛ ليتمكنوا من مقاومتهم بمثل أخلاقهم، وعلى كل حال فقد أفادتني الصين فائدة كبيرة، وهي فائدة لا بد أن يفيدها الشرق لكل من يدرسونه من الأوروبيين دراسة فيها عطف وحساسية، ذلك أن الصين قد علمتني كيف أفكر تفكيرا يمتد ليشمل مسافات بعيدة من الزمن، وألا أدع الحاضر بسيئاته باعثا على اليأس، ولولا هذا الدرس الذي تعلمته في الصين، لما احتملت العشرين عاما الماضية بما فيها من مآس على نحو ما احتملتها.
وخلال السنوات التي أعقبت عودتي من الصين، ولد لي الولدان الأولان، فكانا سببا في اهتمامي بالتربية في المراحل الأولى، ولبثت فترة أختص التربية بمعظم جهدي، وقد ظن الناس أني لا بد مناصر للحرية الكاملة في المدارس، لكن ذلك الظن - كظنهم بأني داع إلى الفوضى - خطأ في تصوير وجهة نظري؛ إذ إني أرى أنه لا غنى لنا عن قدر معين من القسر في تربية النشء، كما أنه لا غنى لنا عن مثل ذلك في الحكم، ولو أني أرى إلى جانب ذلك أن في مستطاعنا أن نهتدي إلى طرائق تربوية يكون من شأنها التقليل من ذلك القسر الضروري، ولهذه المشكلة نواحيها السياسية أيضا، فالقاعدة العامة بالنسبة للأطفال والراشدين على السواء، هي أن الناعمين في حياة سعيدة يغلب عليهم أن يكونوا أقل ميلا إلى النزعات الهدامة، ولهذا فهم أقل احتياجا إلى الضوابط عمن هم لا ينعمون بمثل تعمليهم، لكني مع ذلك لا أظن أن الأطفال يسعدون بحرمانهم من الهداية، كما أني لا أعتقد في إمكان ولاء الأفراد لمجتمعهم إذا نحن أرسلنا حبلهم على الغارب، إن تعويد الناشئ على النظام أمر لا نزاع فيه، لكن المشكلة هي إلى أي حد يجوز ذلك؛ لأن الإسراف في الشدة قد يأتي بعكس المطلوب؛ إذ إن إحباط الغرائز الطبيعية في الطفل لا بد منته به إلى تذمر من العالم وضيق به، وهذا بدوره كثيرا ما ينتهي إلى العنف والقسوة؛ فقد كان مما استرعى انتباهي إبان الحرب 1914-1918م أمر صعقت له، هو ما لاحظته أول الأمر من أن معظم الناس في نشوة نفسية بسبب قيام الحرب! وواضح أن ذلك نتيجة علل كثيرة بعضها تربوي، نعم إن في وسع الوالدين أن يؤديا شيئا كثيرا لوليدهما، لكن التربية على نطاق واسع ينبغي أن تكون من عمل الدولة، وبالتالي لا بد أن تسبقها إصلاحات في السياسة والاقتصاد، ومهما يكن من أمر، فقد رأيت العالم عندئذ يسير رويدا نحو الحرب ونحو الدكتاتورية، ووجدت أنني لا أملك أن أعمل عملا يفيد، فأسرعت الخطى عائدا إلى حظيرة الفلسفة وتاريخ الفكر.
فلسفته
(1) رسل في تيار عصره
التجريبية هي طابع الفلسفة الإنجليزية في شتى مراحلها، فهكذا كانت عند «بيكن» في القرن السادس عشر، وهكذا كانت عند «لك» في القرن السابع عشر، وهكذا كانت عند «هيوم» في القرن الثامن عشر، وهكذا كانت عند «مل» في القرن التاسع عشر، وهكذا هي اليوم عند «رسل» في القرن العشرين، فهؤلاء جميعا عمادهم الأول هو الخبرة المباشرة يدركونها في أنفسهم، وهو المعطيات الحسية تتلقاها حواسهم من ظواهر الطبيعة الخارجية مرئية ومسموعة وملموسة ... إلخ، فإن ركب الإنسان لنفسه بعد ذلك صورة عن العالم، جعل المعطيات الحسية قوامها والخبرة المباشرة لحمتها وسداها، والأمر بعد ذلك بحاجة إلى تحليل نرى به كيف يرتد علمنا بأنفسنا وبالعالم إلى خبراتنا وحاضراتنا الحسية، وفي هذا التحليل وضروبه يكون اختلاف السبل بين هؤلاء الفلاسفة التجريبيين الذين يلتقون عند نقطة الابتداء.
على أن في هذه الصورة إسرافا في التبسيط، فإنما أردت بها قبل كل شيء أن أبرز العلاقة التي تربط «برتراند رسل» بأسلافه من مواطنيه، وأن أبين في وضوح كيف جاء فيلسوفنا حلقة من سلسلة تتابعت حلقاتها على تشابه بينها في الصورة العامة، وإن اختلفت في تفصيلاتها اختلافا بعيدا، غير أن ظهور هؤلاء الأعلام متتابعين على مر القرون في مجرى الفكر التجريبي في إنجلترا لم يمنع ظهور موجات من الفلسفة المثالية حينا بعد حين، بل قد بلغت تلك الموجات المثالية أحيانا من الشدة في الفكر الإنجليزي، بحيث خيل للدارس أنها قد طغت على ما عداها، فأغرقته إلى غير رجعة، لكنها كانت لا تلبث طويلا، حتى يتصدى لها واحد من هؤلاء الفلاسفة التجريبيين، فما يزال بها مقاومة، حتى تنحسر ويعود للفكر الإنجليزي مجراه الأصيل.
ولنضرب لهذه الموجات من الفلسفة المثالية كيف تطغى على الفكر الإنجليزي حينا لتعود فتنحسر عنه ، موجتين طغتا على فترتين متواليتين إبان القرن التاسع عشر؛ أما أولاهما فقد جاءت أوائل القرن على أيدي نفر من الشعراء والكتاب الذين أعجبتهم المثالية الألمانية متمثلة في «كانت» و«هيجل» فراحوا ينقلونها تلخيصا وتعليقا في شعرهم ونثرهم، ومن هؤلاء «كولردج» و«كارلايل»، وإذا أردنا أن نضم الفكر الأمريكي الإنجليزي في حركة واحدة، قلنا إن «إمرسن» قام في أمريكا بنفس الدور الذي قام به «كولردج» و«كارلايل» في إنجلترا من حيث إشاعة المثالية الألمانية في المجال الفكري، لكن لم يلبث هذا الغزو الفكري أن تصدى له «جون ستيوارت مل» بفكره التجريبي، فأرجع التقاليد الإنجليزية إلى تيار الفلسفة كما كانت على يدي «لك» و«هيوم»، ومن أبرز أعماله في هذا السبيل كتابه في «المنطق»، وكتابه في المذهب المنفعي في الأخلاق.
لكن المثالية الألمانية عادت في أواخر القرن التاسع عشر إلى غزوة جديدة للفكر الإنجليزي، وكانت غزوتها هذه المرة أشد توفيقا وأرسخ جذورا؛ لأنها هذه المرة لم تجعل أداتها نفرا من الشعراء والكتاب غير المختصين بالدراسات الفلسفية، بل جعلت أداتها هذه المرة أساتذة الفلسفة في جامعة أكسفورد: «جرين» و«برادلي» و«كيرد» و«بوزانكت»؛ اتجه هؤلاء جميعا نحو المثالية المطلقة في فلسفاتهم، حتى لتسمى هذه الحركة الفكرية إلى يومنا هذا باسم «مدرسة أكسفورد» في التاريخ الفلسفي المعاصر، والذي يقرب من المعاصر، كما تسمى أحيانا باسم «الهيجلية الإنجليزية»؛ لأن فلسفة هيجل كانت أقوى سطوعا في مؤلفات هؤلاء الأساتذة من أن تخطئها العين العابرة، على أن «كانت» كان له كذلك في تلك الحركة أثره العميق، وما دمنا قد ضممنا الفكر الأمريكي إلى الفكر الإنجليزي في الغزوة الألمانية الأولى، وقلنا إن «إمرسن» كان وسيلتها، فكذلك اجتمعت أمريكا إلى إنجلترا في حركة فكرية واحدة هذه المرة أيضا، وكان من أبرز من عاونوا الفلسفة المثالية الألمانية على الانتشار في غزوتها الثانية هو «جوزيا رويس» الذي كان عندئذ أستاذا للفلسفة في جامعة هارفارد.
ولهاتين الغزوتين الفكريتين الألمانيتين اللتين تعاقبتا على الفلسفة الإنجليزية في القرن التاسع عشر؛ أما أولاهما فقد منيت بفشل سريع ذريع على يدي «مل»، وأما ثانيتهما فكانت فتحا إلى جانب كونها غزوا؛ لأنها دامت واستقرت واعتصمت بحصن فكري حصين هو جامعة أكسفورد، أقول إن لهاتين الغزوتين شبها في تاريخ إنجلترا، لفت الأنظار إليه الأستاذ «ه. ه. برايس» في محاضرة ألقاها في أكسفورد في شهر يوليو سنة 1947م،
Page inconnue