تحولت جدتي في السبعين من عمرها إلى عقيدة «الموحدين» (الذين ينكرون ربوبية المسيح)، وأخذت على نفسها في الوقت ذاته أن تنصر الحكم الذاتي لأيرلندة، وراحت تعارض الاستعمار في حرارة، ولقنتني وأنا بعد في نحو السابعة أن أسيء الظن ببلادي في حروبها التي أثارتها في أرض الأفغان وعلى قبائل الزولو، وأما عن احتلال مصر، فلم تحدثني عنه إلا قليلا؛ لأنه من فعل جلادستون الذي وقع من نفسها موقع الإعجاب، وإني لأذكر الآن نقاشا دار بيني وبين مربيتي الألمانية التي قالت لي عندئذ: «إن الإنجليز ما داموا قد دخلوا مصر، فلن يخرجوا منها مهما تكن وعودهم.» فرددت عليها في وطنية مشتعلة قائلا: «إن الإنجليز لم ينكثوا قط وعدا.» دار هذا النقاش منذ ستين عاما، لكن الإنجليز ما زالوا هناك. (كتب رسل هذا عن نفسه في يوليو 1943م.)
كانت مكتبة جدي هي غرفة دراستي وموجهة حياتي، فكان فيها من كتب التاريخ ما أثار اهتمامي، لا سيما أن لأسرتي في التاريخ الإنجليزي مكانا ظاهرا منذ أوائل القرن السادس عشر، ولقد درست التاريخ الإنجليزي على أنه صراع الشعب ضد الملك بغية الحصول على الحرية الدستورية، وأحسست بإعجاب خاص نحو «وليم لورد رسل» الذي أعدم في حكم شارل الثاني، ونتيجة هذه الدراسة في نفسي هي عقيدتي بأن الثورة - كائنة ما كانت - كثيرا ما تكون في ذاتها حقيقة بالثناء.
وحدث حادث عظيم في حياتي عندما كنت في عامي الحادي عشر، وهو أني بدأت دراستي لإقليدس الذي لم يزل عندئذ هو المتن المعترف به في دراسة الهندسة، وأحسست بشيء من خيبة الرجاء حين وجدته يبدأ هندسته ببديهيات لا بد من التسليم بها بغير برهان، فلما تناسيت هذا الشعور، وجدت في دراسته نشوة كبرى، حتى لقد ظلت الرياضة بقية أعوام الصبا تستوعب شطرا كبيرا جدا من اهتمامي، وقد كان اهتماما قائما على أكثر من عنصر واحد ؛ فهو من ناحية لذة خالصة لما استكشفته في نفسي من قدرة خاصة في الرياضة، وهو من ناحية أخرى نشوة لما لمسته من قوة في استدلال النتائج من مقدماتها، ثم هو من ناحية ثالثة شعور بالاطمئنان إزاء ما في الرياضة من يقين، لكن كان أهم من ذلك كله (وقد كنت لم أزل صبيا) أني آمنت بأن الطبيعة تعمل وفق قوانين الرياضة، وأن الأفعال الإنسانية - كحركات الكواكب - يمكن حسابها في دقة إذا ما أسعفتنا القدرة الكافية لذلك! فلما بلغت من عمري الخامسة عشرة انتهيت إلى نظرية شديدة الشبه بنظرية الديكارتيين، إذ شعرت باعتقاد الواثق أن حركات الأجسام الحية إنما تنظمها قوانين الديناميكا تنظيما تاما، وإذن فحرية الإرادة وهم الواهمين، لكنني وقد سلمت بوجود الشعور الواعي عند الإنسان على أنه حقيقة قائمة لا شك في صدقها، لم أستطع أن أذهب مع المادية مذاهبها، ولو أنني أحسست نحوها بعض الميل، لما فيها من بساطة تعليل، ولأنها تنبذ «الكلام الفارغ» في تفسير الكون، وكنت عندئذ لا أزال على عقيدتي في وجود الله؛ لأن برهان «العلة الأولى» قد بدا لي ممتنعا على الدحض.
هكذا لبثت حتى ذهبت إلى كيمبردج في سن الثامنة عشرة، وكنت قد عشت حياة معتزلة إلى حد بعيد؛ ذلك أني نشأت في داري على أيدي مربيات ألمانيات، ومديرات الدار كن ألمانيات أو سويسريات، ثم انتهى أمري بعد ذلك إلى مربين من الإنجليز، فلم أخالط الأطفال إلا قليلا، وحتى إن خالطتهم وجدتهم لا يثيرون من نفسي اهتماما بأمرهم، حتى إذا ما كنت في عامي الرابع عشر أو الخامس عشر، اهتممت بالدين اهتماما شديدا، وجعلت أقرأ مفكرا في البراهين التي تقام على حرية إرادة الإنسان، وعلى خلوده، وعلى وجود الله، وقد كان يشرف على تربيتي لبضعة أشهر أستاذ متشكك، فكنت أجد الفرصة سانحة لمناقشته في أمثال هذه المسائل، لكنه طرد من عمله، ولعلهم طردوه لظنهم أنه يهدم لي أساس إيماني، فإذا استثنيت هذه الأشهر التي قضيتها مع هذا الأستاذ وجدتني قد احتفظت بفكري لنفسي، أدونه في يوميات بأحرف يونانية، حتى لا يقرأها سواي، لهذا كنت أشقى شقاء من الطبيعي أن يعانيه مراهق معتزل عن الناس، وعزوت شقائي عندئذ إلى فقداني لإيماني الديني.
ظللت ثلاثة أعوام أفكر في الدين، معتزما ألا أدع أفكاري تتأثر بأهوائي، فانتهيت بفكري أولا إلى عدم الإيمان بحرية الإرادة، ثم انتهيت إلى نبذ فكرة الخلود، لكنني ظللت على عقيدتي في وجود الله، حتى أتممت عامي الثامن عشر، وعندئذ قرأت في الترجمة الذاتية التي كتبها مل عن حياته، هذه العبارة: «لقد علمني أبي أن سؤالي: «من خلقني؟» ليس بذي جواب؛ لأنه يثير على الفور سؤالا آخر: «ومن خلق الله؟»» وفي اللحظة التي قرأت فيها تلك العبارة، استقر مني الرأي على أن برهان «العلة الأولى» على وجود الله برهان باطل.
أكثرت من القراءة في تلك الأعوام، لكنها لم تكن قراءة موجهة، ولذلك ذهب كثير منها بغير جدوى، فقد قرأت مقدارا كبيرا من الشعر الرديء، وبخاصة شعر «تنسن» و«بايرون»، لكني وقعت آخر الأمر، وأنا في السابعة عشرة من عمري، على «شلي» الذي لم يكن قد أنبأني به أحد، فظل «شلي» لأعوام كثيرة هو الرجل الذي أحببت أكثر من أي رجل آخر بين عظماء الماضي، ثم قرأت كثيرا ل «كارلايل»، وأعجبت بكتابه «الماضي والحاضر»، لكني لم أحب كتابه عن «الملابس»، وأما الرجل الذي كدت أتفق معه في الرأي اتفاقا تاما فهو «مل»، وكان لكتبه «الاقتصاد السياسي» و«الحرية» و«خضوع المرأة» أثر عميق في نفسي، وعلقت على كتابه في المنطق تعليقا مفصلا، لكنني لم أستطع قبول رأيه بأن قضايا الرياضة تعميمات من التجربة، وإن كنت لم أعرف ماذا يمكن لقضايا الرياضة أن تكون إذا لم يكن مصدرها التجربة.
حدث ذلك كله قبل ذهابي إلى كيمبردج، ولو استثنيت الثلاثة الأشهر التي كان يشرف علي خلالها ذلك الأستاذ المتشكك الذي أسلفت ذكره، قلت إني لم أكن قد وجدت حتى ذلك الحين من أعبر له عما يجول بخاطري من أفكار، وقد أخفيت شكوكي الدينية عن أهلي، ذلك أني قلت مرة لمن كان في الدار إني مؤمن بالمذهب النفعي في الأخلاق، فقابلوني بعاصفة من السخرية حملتني على أن أمسك عن التعبير عن فكري أمام أهلي.
فلما ذهبت إلى كيمبردج انفتح أمامي عالم جديد من نشوة ليس لها حدود؛ إذ وجدت للمرة الأولى أنني إذا ما صرحت بفكري، صادف عند السامعين قبولا، أو كان عندهم - على الأقل - جديرا بالنظر، كان «وايتهد» هو الذي اختبرني في امتحان الدخول، وقد ذكرني لكثيرين ممن يكبرونني بعام أو بعامين، وكان من نتيجة ذلك أنه لم يمض أسبوع واحد، حتى التقيت بمن أصبحوا بعد ذلك أصدقاء العمر كله، كان «وايتهد» عندئذ في الجامعة «زميلا» و«محاضرا». وكان طيب القلب إلى حد يبعث على الدهشة، لكنه كان يكبرني بعدد كبير من السنين، بحيث لم يكن مستطاعا أن أتخذ منه صديقا قريبا إلا بعد أن انقضت بضع سنين، والتقيت بكثيرين ممن كانوا في مثل سني، يتميزون بقدرتهم العقلية وتحمسهم وأخذهم الأمور مأخذ الجد، وكانوا يتناولون باهتمامهم أمورا كثيرة خارج نطاق عملهم الجامعي، فيولعون بالشعر والفلسفة، ويناقشون السياسة والأخلاق، وشتى نواحي العالم الفكري، فكنا نجتمع أماسي أيام السبت لندخل في مناقشات تطول حتى ساعة متأخرة من الليل، ثم نلتقي على إفطار متأخر صباح الأحد، ثم نخرج معا للمشي بقية اليوم، فلم يكن الشبان الممتازون عندئذ قد اتخذوا لأنفسهم وجهة النظر المشوبة بالعجرفة والتشاؤم كالتي انتابت زملاءهم بعد ذلك بأعوام، وشاعت في كيمبردج على أنها البدع الجديد، وكان المسئول عن إشاعة هذه النظرة المتشائمة فيما بعد هو «ليتن ستريتشي»، لا، لم يكن الشبان الممتازون في كيمبردج على عهدنا بهذا التشاؤم وهذه العجرفة، بل نظروا إلى العالم نظرة الأمل، وبدا العالم في أعينهم بغير تشويه، واعتقدنا جميعا اعتقاد الواثق بأن التقدم الذي ظفرت به الإنسانية إبان القرن التاسع عشر سيمضي في طريقه قدما، وأنه في مستطاعنا نحن أن نضيف إلى ذلك التقدم قسطا جديدا له قيمته، لقد كانت أياما سعيدة تلك الأيام، وما أظن الشبان الذين نشئوا منذ عام 1914م بقادرين على تصور تلك السعادة كيف تكون.
كان «ماكتاجارت» بين أصدقائي في كيمبردج، وهو الفيلسوف الهيجلي، وكذلك كان من أصدقائي «لويس دكنسن» الذي أحبه الجميع لدماثة خلقه، و«شارلز سانجر» عالم الرياضة الممتاز الذي تحول بعدئذ إلى دراسة القانون، ثم أخوان شقيقان هما «كرومتن وثيودور ليوولن ديفز»، وهما ابنا أحد رجال الدين، وأبوهما هذا هو أحد اثنين ترجما معا جمهورية أفلاطون ترجمة معروفة، أعني ترجمة «ديفزوفون»، كان هذان الأخوان أصغر وأقدر أسرة أفرادها سبعة، كلهم غاية في الامتياز، وكانت لهما قدرة نادرة على الصداقة، راغبان أشد الرغبة في أن يكونا نافعين للعالم الذي يعيشان فيه، لا يباريهما أحد فطنة، غير أن أصغرهما «ثيودور» غرق في الحمام، ولم يكن بعد قد جاوز المراحل الأولى من سيرة لامعة في خدمة الحكومة، إنني لم أصادف قط رجلين لهما ما كان لذينك الأخوين من حب عميق في نفوس كثير من الأصدقاء، كذلك كان بين من التقيت بهم كثيرا إخوة ثلاثة من أسرة «تريفليان» هم أبناء أخت «ماكولي»، اشتغل أكبرهم بالسياسة عضوا في حزب العمال، لكنه استقال من حكومة العمال حين قصرت في بلوغها من الاشتراكية المدى الذي يرضيه، وأما ثاني الإخوة الثلاثة فقد أصبح شاعرا، نشر - بين كتب أخرى - ترجمة لشعر «لوكريتس» تدعو إلى الإعجاب، وظفر ثالثهم - جورج - بالشهرة مؤرخا، وكان «جورج مور» يصغرني بأعوام قلائل، وقد كان له فيما بعد أبعد الأثر في توجيه فلسفتي.
كانت مجموعة الأصدقاء الذين صحبتهم شديدة التأثر ب «ماكتاجارت»، الذي حملنا بفطنته على دراسة الفلسفة الهيجلية، وقد علمني كيف أنظر إلى الفلسفة التجريبية الإنجليزية نظرة ترى فيها فجاجة وسذاجة، وكنت أميل إلى العقيدة بأن هيجل (وكذلك «كانت» بدرجة أقل) يتصف بعمق هيهات أن تجد له مثيلا في «لك» و«باركلي» و«هيوم» (أئمة الفلسفة الإنجليزية)، بل هيهات أن تجد له مثيلا عند الرجل الذي كنت قد اتخذته لنفسي قبل ذلك إماما روحيا، وأعني به «مل»، كنت في الثلاثة الأعوام الأولى من حياتي في كيمبردج أكثر شغلا بالرياضة من أن أجد فراغا أقرأ فيه «كانت» أو «هيجل»، أما في السنة الرابعة، فقد انصرفت إلى الفلسفة باهتمامي، وكان أساتذتي فيها هم «هنري سدجوك» و«جيمز وورد» و«ستاوت»، وكان «سدجوك» بين هؤلاء يمثل وجهة النظر البريطانية في الفلسفة، وهي وجهة أظنني قد ألممت بها، وجمعت أطرافها، ولذلك لم يكن له عندي من التقدير بادئ ذي بدء بمثل ما كان له عندي آخر الأمر، وأما «وورد» الذي أحببته حبا شديدا، فقد شرح لي الفلسفة الكانتية شرحا مهد الطريق أمامي لدراسة «لوتزه» و«سجفرت»، وأما «ستاوت» فقد كان عندئذ مشيدا ب «برادلي» ونبوغه، حتى لقد قال عنه حين أخرج «برادلي» كتابه «المظهر والحقيقة» إنه قد عرض بكتابه هذا فلسفة الوجود عرضا لا يمكن لإنسان من البشر أن يبزه فيه، وكان «ستاوت» و«ماكتاجارت» معا هما اللذان جعلاني هيجلي النظر، وإني لأذكر لحظة ذات يوم من عام 1894م، حينما كنت سائرا في شارع «ترنتي لين» رأيت فيها بلمحة واحدة من لمحات فكري (أو حسبتني قد رأيت) أن البرهان الوجودي على حقيقة الله برهان سليم، فقد خرجت يومئذ لأشتري علبة تبغ، وبينا كنت في طريق عودتي، قذفت بالعلبة فجأة إلى أعلى، وصحت وأنا ألقفها من الهواء قائلا: «الله أكبر! إن البرهان الوجودي برهان سليم.» عندئذ أقبلت على قراءة برادلي بشغف عظيم، ونزل من نفسي منزلة لم ينزلها فيلسوف سواه.
Page inconnue