وبهذا تعددت الكائنات، ففي العالم - في رأي هؤلاء الفلاسفة وفي رأي رجل الشارع صاحب الإدراك الفطري - جانبان: ظاهر وحقيقة، أو قل: فيه مجموعتان من الكائنات؛ مجموعة المعطيات الحسية العابرة المتغيرة، ومجموعة العناصر التي تحفظ للأشياء ذاتيتها وكيانها.
وتطبيقا لمبدأ «نصل أوكام» الذي نبتر به كل كائن نفرض وجوده بغير موجب يدعو بالضرورة إلى ذلك الفرض، ينتهي «رسل» إلى الاكتفاء في تفسيره للعالم بمجموعات ظواهره ، مستغنيا عن «العنصر» أو «الجوهر» أو «النواة» التي كان يفرض وجودها في كل «شيء» ليسهل تصوره «شيئا» متصل الوجود، وإذن «فالمنضدة» عند «رسل» هي ظاهرتها الحسية تتجمع في مجموعات لا يربطها رباط سوى «وجهة النظر» إليها، إننا مضطرون إلى الاكتفاء بهذه الظاهرات ما دمنا نحدد أنفسنا بحدود خبراتنا المباشرة؛ لأن هذه الظاهرات وحدها هي التي تجيء عن طريق الخبرة المباشرة، وأعود فأذكرك بنوعي القضية عند «رسل»: قضية ذرية، وقضية مركبة، وبأن القضية الذرية البسيطة وحدها هي التي يمكن التحقق من صدقها، فإذا كان لدينا قضية مركبة وجب تحليلها إلى أجزائها الذرية لنقابل بين كل جزء وبين ما يقابله من واقعة بسيطة في العالم الخارجي، وإذا كان ذلك كذلك، فكل جملة أقولها لك عن «شيء» ما، كقولي مثلا إن المنضدة مستطيلة؛ لا بد من تحليلها إلى أجزائها الذرية، وتحليل «المنضدة» إلى العناصر الأولية التي منها تركبت في ذهني «شيئا»، يقتضيني أن أفتتها إلى المعطيات الحسية المتعاقبة التي جاءتني منبعثة منها، بحيث أنتهي إلى سلسلة طويلة من قضايا ذرية، الواحدة منها تكون على هذه الصورة الآتية أو ما يشبهها «هذه اللمعة الضوئية مستطيلة» إلخ؛ إذ من سلسلة اللمعات الضوئية، وما إليها من معطيات حسية أقيمت «التركيبة» المنطقة التي أطلقت عليها كلمة «منضدة».
وهكذا قل في «الذات» الإنسانية؛ فكما جاءتك من «المنضدة» معطيات حسية متعاقبة، هي كل ما جاءك منها، ثم تبرعت من عندك إسرافا بعنصر غيبي يمسك هذه الظاهرات بعضها ببعض؛ ليجعل منها «شيئا» واحدا، فكذلك في الفرد من الناس، «كالعقاد» مثلا، كل ما جاءك منه، بل كل ما يمكن أن يجيئك منه، معطيات حسية متعاقبة من لون وصوت إلخ، فلو اقتصرت على خبرتك المباشرة عنه، لقلت إن اسم «العقاد» إنما يطلق على سلسلة طويلة من هذه المعطيات الحسية، لكنك هنا أيضا تتبرع له إسرافا بعنصر غيبي تفرض وجوده داخل كيانه ليمسك تلك الظاهرات الجزئية في فرد واحد له وجود متصل ثابت، و«نصل أوكام» الذي نبتر به هذه الكائنات الزائدة التي نسرف في افتراض وجودها، يقتضينا أن نتخلص من هذه الفروض التي ليس لها ضرورة منطقية تقتضيها.
47
المحور الأساسي الذي يدور حوله المجهود الفلسفي عند «رسل» هو - كما أسلفنا - أن يتعقب بالتحليل صنوف الكائنات التي يفرض الناس وجودها، حتى يرد منها ما يمكن رده إلى سواها، بحيث ينتهي آخر الأمر إلى أقل عدد ممكن من تلك الكائنات، أعني الكائنات الأولية التي ندركها بالخبرة المباشرة، والتي لا بد من الاعتراف بوجودها أساسا للكون، ولمعرفتنا بالكون، وقد بدأ «رسل» حياته الفلسفية بالتسليم بوجود عدد من هذه الكائنات الأولية؛ إذ سلم في كتابه «مشكلات الفلسفة» بوجود «المعاني الكلية» و«العلاقات الكائنة بين الأشياء» و«الذات الإنسانية» إلى جانب تسليمه بالمعطيات الحسية؛ ظنا منه عندئذ أن المعطيات الحسية وحدها لا تغني عن افتراض وجود تلك الأوليات المزعومة، لكنه راح بعدئذ يحلل هذه الأشياء ليجد أن بعضها فروض زائدة يمكن الاستغناء عنها بغيرها، فالذات الإنسانية فرض لا ضرورة له ما دام التزامنا بالمعرفة اليقينية يقتضينا أن نقف عند الخبرة الحسية المباشرة، وليس في هذه الخبرة المباشرة «ذات»، بل كلها معطيات حسية تأتينا من صاحب تلك «الذات» المزعومة، و«المعاني الكلية» لا ضرورة لافتراض وجودها كائنات مستقلة قائمة بذواتها ما دام المعنى الكلي يمكن تحليله إلى صيغة رمزية تعتمد على الأفراد الجزئية في اكتسابها لمعناها، وهكذا.
فكأنما السؤال الرئيسي الذي ألقاه «رسل» على نفسه ليجيب عنه جوابا يكون صميم فلسفته، هو هذا: «ما هو أقل عدد ممكن من الأشياء البسيطة التي نقبلها بغير تعريف لتكون لنا نقطة ابتداء، وما هو أقل عدد ممكن من المقدمات التي نقبلها بغير برهان، بحيث يمكننا من تلك الأشياء وتلك المقدمات أن نعرف الأشياء التي هي بحاجة إلى تعريف، وأن نقيم البرهان على الأشياء التي هي بحاجة إلى برهان؟»
48
ولماذا يريد أن يصل إلى الحد الأدنى من الأوليات التي لا تحتاج إلى تعريف أو برهان؟ يريدها لتكون له بمثابة البداية المؤكدة التي يمكن أن نستدل منها بعدئذ سائر المعرفة استدلالا - لو كان في ذاته سليما - انتهى بنا إلى نتائج مؤكدة أيضا، أو بعبارة أخرى، إن وصولنا بالتجليل إلى أوليات المعرفة يضمن لنا الحد من الأخطاء التي يمكن أن نتعرض لها، «فافرض مثلا أنك قد أقمت علمك الفيزيقي على عدد معين من الكائنات وعدد معين من المقدمات، ثم افرض بعد ذلك أنك تستطيع بقليل من البراعة أن تستغني عن نصف تلك الكائنات ونصف تلك المقدمات، فإنك بغير شك تستطيع بذلك أن تقلل من استهدافك للخطأ؛ ذلك لأنه لو كان عندك في البداية عشرة كائنات وعشر مقدمات، فإن الخمسة التي تستبقيها ستكون على حالها من حيث سلامتها من الخطأ، لكن العكس غير صحيح، أي إنه إذا كانت الخمسة التي استبقيتها بمنجاة من الخطأ، فالعشرة الأولى لا يتحتم أن تكون كذلك بمنجاة من الخطأ، وعلى ذلك فإنك تقلل من خطر الوقوع في الخطأ كلما قللت من عدد الكائنات والمقدمات، إنني حين تحدثت عن المنضدة، فقلت عنها إنني لن أفترض لها وجود عنصر دائم تنطوي عليه ظواهرها، فقد كان ذلك مثالا لهذا الذي أقوله الآن؛ ذلك لأنه في كلتا الحالتين [حالة افتراض وجود العنصر الذي تتعلق به الظواهر، وحالة افتراض عدم وجوده، وأن ليس هناك إلا ظواهر تتعاقب]، أمامنا الظواهر المتعاقبة، فإذا استطعت أن تمضي إلى النهاية بغير افتراض وجود المنضدة الميتافيزيقية الدائمة، فإن خطر الخطأ يكون أقل منه في الحالة الأولى، لكن لا بد أن نلاحظ أن خطر الخطأ لا يقل بالضرورة إذا أنت أخذت على نفسك أن تنكر وجود المنضدة الميتافيزيقية، تلك هي ميزة «نصل أوكام»؛ إذ إنه يقلل خطر الوقوع في الخطأ».
49 (4) الإنسان ظاهرا وباطنا
50
Page inconnue