سنقوق إلى القارئ في هذا الفصل شرحا لتحليل «العدد» عند «رسل» لنضع به أمامه نموذجا مصغرا لما يقوم به فيلسوفنا من تحليلات في فلسفة الرياضة؛ إذ يتعذر أن نجعل فصلا واحدا من كتاب صغير شاملا لكل ما قام به الفيلسوف في هذا الباب.
على أننا لا بد أن نقدم للموضوع بمقدمة موجزة نشرح بها للقارئ المعنى المقصود «بفلسفة العلم» رياضة كان ذلك العلم، أو أي فرع شئت من سائر العلوم، فالكتاب العلمي - كائنا ما كان موضوعه - إنما يتألف من عبارات كلامية وصيغ رمزية، أكثرها مما نطلق عليه اسم «اللغة الشيئية»،
12
ونحن نعني بهذا الاسم مجموعة الرموز - من الألفاظ وغيرها - التي نصف بها الأشياء الواقعة وصفا مباشرا، كأن أقول عن شعاع معين من الضوء إنه ساقط على مرآة معينة، وإن زاوية السقوط تساوي زاوية الانعكاس.
ونقول إن الكثرة الغالبة من العبارات والصيغ الرمزية في كتاب علمي مؤلفة من «لغة شيئية»؛ لأن رجال العلوم يستخدمون الألفاظ وما إليها من رموز ليقرروا بها أحكاما عن الأشياء الواقعة، لكنك مع ذلك قد تجد في الكتاب العلمي - إلى جانب العبارات الشيئية - طائفة أخرى من العبارات لا يراد بها أن تصف الأشياء وصفا مباشرا، بل يراد بها أن تتحدث عن غيرها من ألفاظ وعبارات مما ورد في الكتاب العلمي نفسه أو في غيره؛ مثال ذلك أن يبين المؤلف بأن العبارة «س» والعبارة «ص» متناقضتان، أو أن الواحدة منهما نتيجة تلزم عن الأخرى أو ما أشبه ذلك، فها هنا لا يحدثنا المؤلف عن «الأشياء» نفسها التي هي موضوع العلم الذي نكون بصدده، بل يحصر حديثه في «مدركات» ذلك العلم، أو إن شئت فقل إنه ها هنا يتحدث عن «اللفظ» المستخدم في وصف الأشياء ليبين مضموناته، أو ما يقوم بين أجزائه من علاقات وهكذا، وأمثال هذه العبارات التي تتحدث عن سواها - لا عن الأشياء الخارجية مباشرة - تسمى «باللغة الشارحة»
13 - أو اللغة التي تتحدث عن لغة - تمييزا لها من «اللغة الشيئية» التي سبقت الإشارة إليها؛ فالعبارات الشيئية في الكتاب العلمي هي التي تعبر عن النظرية العلمية التي يريد العالم أن يتقدم بها، وأما العبارات الشارحة للعبارات الشيئية، فليست جزءا من تلك النظرية العلمية ذاتها، بل هي تنتمي إلى ميدان آخر غير ميدان العلم نفسه؛ إذ تنتمي إلى ما نسميه بفلسفة ذلك العلم، وبالطبع لا تكون أي عبارة تقال عن عبارة أخرى فلسفة علمية، لكن العكس صحيح، أي إن كل جزء من فلسفة العلم هو جملة شارحة لجملة أخرى.
14
وبتطبيق ذلك على الرياضة يكون الفرق بين الرياضة وفلسفتها هو أن الرياضة تستخدم رموزا وعلامات، مثل الأعداد وأحرف الهجاء والعلامات الدالة على الجمع والطرح والضرب والقسمة والتساوي وما إلى ذلك، ثم تركب من تلك الرموز والعلامات صيغات ومعادلات دون أن تقف عند هذه الرموز والعلامات نفسها بالتحليل؛ بعبارة أخرى هي التي تستخدم الرموز والعلامات المعروفة مادة لحديثها، لكنها لا تصب الحديث على الرموز والعلامات ذواتها، فتقول الرياضة - مثلا - إن «1 + 0 = 1»، لكنها تستبعد من مجالها تحليل معاني الواحد والصفر والزيادة والتساوي، فإذا ما تناول باحث هذه الرموز ببحثه، وجعلها هي نفسها موضوع حديثه، كان قوله «فلسفة رياضية».
ونضع هذا المعنى في عبارة أخرى، فنقول إننا إذا ما بدأنا السير من رموز الرياضة المألوفة كان أمامنا أحد اتجاهين للسير، فإما أن نتجه من نقطة البداية إلى أعلى، أو أن نتجه منها إلى أسفل، أو إن شئت فقل إننا إما أن نجعل سيرنا إلى أمام، أو أن نجعله إلى وراء، أما ما نسميه عادة «بالرياضة»، فهو سير إلى أمام، أو هو بناء إلى أعلى، أي إننا نمضي من الأعداد وغيرها من العلامات نحو عمليات تركيبية من جمع وطرح إلخ، ثم نظل نمضي في عمليات تزداد تعقيدا وتركيبا كلما علونا في سلم الدراسة الرياضية، وأما الاتجاه الثاني فهو سير من الأعداد وغيرها من العلامات إلى ما وراءها؛ إذ نحللها إلى عناصر أبسط منها، فنجد أنها رغم كونها نقطة ابتداء في الرياضة إلا أنها هي نفسها نتيجة لعمليات فكرية سابقة لها، فهذا الاتجاه الثاني هو بمثابة الحفر تحت تلك البدايات لنهتدي إلى أسسها الأولى، وهذا هو ما نسميه بفلسفة الرياضة.
15
Page inconnue