فتراجعوا خجلين وبعضهم يصيح في وجهه: قريبا سيقرءون على روحك الفاتحة.
وجعل الضابط يتجول في الأحياء بجلبابه البلدي، وأسطورته الغريبة تفرش له الرمل حيث ذهب. وكلما صادف فتوة كبيرا أو صغيرا اعترض سبيله، وطالبه بأن يقول على مسمع من الناس «أنا مرة.» فإن تردد انقض عليه وسوى به الأرض. وفي كل يوم كانت له معارك يخوضها متحديا ويخرج منها منتصرا. ولم تمض أشهر قلائل حتى رحل الفتوات عن دعبس والحلوجي، فلم يبق إلا الشيوخ والنساء والصغار، أو من غض الطرف وتبرأ من الفتونة. وشعر الضعفاء بأنهم يولدون من جديد، ورمقوا الضابط بعين الإكبار والمحبة.
ومرض عم الليثي وفقد بصره تماما فقعد في فراشه، وسرحت نعيمة بعربة الكبدة وحدها. وازدادت مع الأيام ملاحة ونضجا إلى ما كسبت من صيت؛ لتنافس جعران والأعور عليها في الماضي القريب. وبين لحظة وأخرى انتظرت العطفة أن تزف إلى عريس مناسب. وإذا بصبي القهوة «حندس» يهمس ذات ليلة للساهرين: أرأيتم كيف ينظر الضابط إلى نعيمة؟
ولم يكن أحد لاحظ شيئا، فعاد يقول: إنه يأكلها بعينيه.
ومضى كل يتابع نعيمة من زاويته، انتبهوا إلى أنها تعسكر بعربتها عند الجدار المقابل للنقطة، وأن عثمان يسترق إليها النظرات باهتمام لا يخفى على راء، وأن عينيه ترتادان مواضع الحسن في وجهها وجسدها، وأن نعيمة تلون نبراتها - عند النداء - بالدلال. وفي لفتاتها وسكناتها عند المعاملة جرت مناورات الأنوثة المتصدية لرجل يستحق الاهتمام. وقال قائل منهم في سهرة تالية: هو يأكلها، وهي تود أن تؤكل.
فتمتم صاحب القهوة: وعم الليثي المسكين؟
فقال بياع الترمس: من يدري؟ .. ربما طلب من العجوز القرب!
فقال المقرئ الأعمى: ليس شيء على الله بكثير.
ولكن نطقت أعينهم بمدى يأسهم. وقال شاب: هو أقوى من جعران والأعور معا، ويا ويل من يقول بم!
ووقفت نعيمة في ضوء القمر، وهي تراجع حساب اليوم وتغني:
Page inconnue