وابتسمت منيرة زوجة صابر ابتسامة ترحاب. روح طيبة حقا ولكنه لا بيت له، ذلك كان الشعور الذي اجتاحه. وجلس على مقعده الكبير يبادلها النظرات فيما يشبه الحياء. وقال لنفسه لعله لو كانت سميرة ابنته في مصر لوجد في بيتها أنسا ألصق بالقلب. وظهر توتو عند عتبة الباب. ردد عينيه بين أبويه، ثم جرى حتى لبد بين ساقي والده. ونظر إلى جده بتأمل فابتسم الشيخ قائلا: أهلا توتو .. تعال.
ونادرا ما كان توتو يزور جده مع والده. وأحبه الشيخ كثيرا ولم يقتصد في مداعبته كلما وسعه ذلك، ولكن توتو كان حادا في مداعباته، فهو يحب الوثب على من يداعبه، ويهدد عينيه وأنفه بأظافره فسرعان ما تجنبه الشيخ بلطف مؤثرا أن يحبه من بعيد. وأشار توتو إلى طربوش جده الطويل وقال: رأسك!
يعني أن يخلع طربوشه؛ ليرى صلعته البرتقالية المستطيلة المنحدرة التي جذبت انتباهه وتساؤله من أول نظرة، ولما لم تتحقق رغبته راح يشير إلى أخاديد الوجه وحفر الأنف، وتتابعت أسئلته رغم محاولات والده لإسكاته. وقال الشيخ لنفسه إن الطفل العزيز لن يعتقه من المتاعب، وإنه سيحتاج إلى حماية، ولكن أين زاهية؟ وساعته ومنشته وسجائره كيف يحفظهما من عبثه؟ وحاول توتو أن يذهب إلى جده ليحقق رغائبه بنفسه، ولكن والده أمسك به ودعا خادمته، فحملته إلى الخارج، وهو يصرخ محتجا. وقال صابر: إني أفرغ من عملي مساء، ثم أذهب إلى النادي أنا ومنيرة، فهل تأتي معنا؟
فقال الشيخ: لا تشغل نفسك بي، ودع الأمور تجري على طبيعتها.
وذهب صابر ومنيرة، فرحب بالوحدة ليستجم، ولكن الوحدة ثقلت عليه بأسرع مما تصور. وألقى نظرة غير مكترثة على الحجرة ثم طوقته الوحشة. متى يعتاد المكان الجديد؟ ومتى يعتاد الحياة بلا زاهية؟ أربعون عاما لم تخل يوما من زاهية. منذ زفت إليه في الحلمية ورقصت أمامها الصرافية. والبيت بفضل يدها ينعم بنظام ونظافة وعبير بخور زكي. وما قيمة رمضان والأعياد بدونها؟ وخلت الجنازة من أجيال وأجيال من تلاميذه؛ فهل لم يعد يذكره أحد؟
ولم يكن كذلك حال الأصدقاء الذين ذهبوا. ولكنهم ذهبوا وكأنما يراهم فردا فردا كيوم احتشدت بهم جنازة مصطفى كامل. ورغم أنه لم يعرف الأمراض الخطيرة قط، فقد امتحنت المسكينة بالدنج والتيفود والأنفلونزا وأخيرا ماتت بالقلب، وتركته متعلقا بالحياة كما كان دائما. وقام إلى نافذة، فرأى منها بستانا كبيرا يتوسط مربعا من العمارات مكان الجامع الكبير الذي كان يطالعه من نافذة حجرته بالمنيرة. ولفحته نسمة هواء جافة دافئة. وعجب للصمت المريح، ولكنه أكد له وحدته. ويوم احتل الإنجليز القاهرة ظفر بجواد ضال، ولكن والده خشي العاقبة فضربه ومضى بالجواد ليلا إلى الخليج ثم أطلقه ، وكانت المدينة ترتجف من الخوف والحزن. ورجع إلى مجلسه، فرأى عند أسفل المقعد قطة صغيرة بيضاء ناصعة البياض، غزيرة الشعر وفي جبينها خصلة سوداء، فآنس في نظرة عينيها الرماديتين استعدادا للتفاهم. وزاهية طالما عطفت على القطط، وارتاح إلى نظرتها ثم تابعها وهي تدور حول رجل المقعد، وربت على ظهرها فتمسحت بقدمه وعند ذاك ابتسم. ومسح على ظهرها فاستجابت لراحته، وخفق ظهرها صعودا وهبوطا، فبشر ذلك بمودة. وابتسم مرة أخرى عن أنياب بانت أصولها الطحلبية، وشملت القطة حركة متموجة من المرح. وتزحزحت قليلا إلى اليسار ليوسع لها مكانا، ولكن صوت توتو المتهدج بالجري ارتفع، وهو يقتحم الحجرة صائحا: قطتي.
فقال الشيخ مسلما: ها هي قطتك.
وسأله متوددا عن اسمها فقال بحدة: نرجس.
وقبض بشدة على قفاها ثم جرى بها خارجا، والشيخ يهتف به مستعطفا: حاسب .. حاسب.
وإذا به قد ذهل! عجب ماذا حصل؟ وتبين أن شيئا أصاب جبينه، وقطب مستاء، فارتفعت ضحكة توتو عند الباب، وهو يلتقط الكرة الصغيرة المرتدة. وتحسس الشيخ النظارة ليطمئن عليها ثم نادى مباركة فجاءت بسرعة، وحملت الطفل مبتعدة به قبل أن يعيد رمي الكرة. وقال الشيخ: هذا الطفل العزيز مزعج وقاس، من للقطة المسكينة؟!
Page inconnue