فقال وهو يتلمس متنفسا: لا بد من الانتظار حتى أنتهي من الدراسة. - سأنتظر بكل سرور، ولكني في حاجة إلى شيء يبرر انتظاري أمام الآخرين، أي شيء، ارتباط من أي نوع!
تخيل طلبه الارتباط ببنت من البيت السيئ السمعة بتعاسة ورعب، وانعقد لسانه فلم ينطق. - ماذا قلت؟ - من العسير حقا أن أطلب ذلك الآن. - ألا تقدم على هذه الخطوة من أجلي؟
فتنهد بصوت مسموع، وهو يشعر بأنه جرى مرحلة طويلة من التاريخ دون توقف، فقالت بحدة: أنت لا تريد، ليس عندك الشجاعة الكافية، أبيتنا مخيف إلى هذه الدرجة؟ - لا .. الأمر وما فيه ... - لا تكذب، أنا أعرف كل شيء، وماما لم تخطئ، وشارعنا كله سخافة في سخافة، ونحن أشرف من الجميع، يجب أن تعرف ذلك.
فهتف متألما: إنك تسيئين بي الظن، أنا في حاجة .. أرجو أن تقدري موقفي، أعطيني ... - لا داعي لهذا الارتباك كله، لتنس كل ما قيل، كله سخيف من أوله إلى آخره. - لكنني أحبك، ليكن الأمر سرا بيننا حتى ... - نحن لا نحب السر! - حتى أقف على قدمي. - لن تقف على قدميك أبدا.
ثم وهي تكاد تمزق منديلها الصغير من الانفعال: أعوذ بالله! أنا لا أحترم أحدا في شارعنا! .. بلا استثناء .. بلا استثناء.
هكذا انفصلا إلى الأبد.
وكان يستقبل سيل الذكريات وهو ينظر إلى الكرسي الذي طالعته منه بوجه لم يحفظ من ماضيه إلا أضعف الأثر. أرملة أضناها التعب والحداد، ولكنها معتزة بانتصارات حقيقية. وحومت حوله الذكريات كأسراب من البنفسج. تذكر كيف تزوجت بنات البيت السيئ السمعة واحدة بعد أخرى رغم ما سمع مرارا وتكرارا بأنهن بنات لم يخلقن للزواج، ولن يسعى إلى الزواج منهن أحد. وكلما جاءه نبأ عن توفيقهن في زواجهن ذهل واختلت موازينه!
ومضى إلى بيته بعد ميعاد انتهاء العمل الرسمي، فتغدى ونام ليستعد لسهرة في الأوبرا دعي إليها هو وزوجته وبناته الثلاث. وكان الداعي زميلا لكبرى بناته الموظفة في إدارة الترجمة بالوزارة، وقد قبل الدعوة رغم أن الداعي لم يرتبط بكريمته بأي ارتباط بعد! وعند المساء خلا إلى نفسه في حجرة مكتبه، على حين نشطت الزوجة والبنات للاستعداد لسهرة الباليه المنتظرة، عما قليل يتبدين في صورة كاملة الزينة والأناقة، ثم يتقدمنه تحت الأضواء والأنظار ترمقهن بإعجاب! ولم يكن غريبا أن يستخرج دفتر مذكراته القديم من الدرج الخاص بالأوراق الثمينة كعقد ملكية الأرض وبوليصة التأمين. وكان اعتاد على عهد المراهقة - وهو عهد كان يحلم فيه بعرش الزجل! - أن يسجل أحداثه العاطفية والاجتماعية يوما بعد يوم. وفر صفحاته ليرجع إلى عام 1925، وما حواليه حتى رقم التليفون وجده. وبدافع لم يعرف كنهه امتدت يده إلى قرص التليفون فأدارت الرقم القديم. وجاءه صوت: آلو.
فسأله وهو يبتسم في عبث: بيت حلاوة؟
فأجاب الصوت بخشونة: لا يا سيدي .. هنا محل الطمبلي لبيع الخيش.
Page inconnue